التفكير بغير لغتك

لا يستطيع أناسٌ القراءة إلا بصوت عالٍ، فإذا أراد أحدهم القراءة فلابد أن يجهر بصوته، وقد يتعلل أحدهم بعدم الفهم أو معرفة المعنى للألفاظ المقروءة إلا من خلال ذلك، وهؤلاء عادة لا يفرقون بين أنواع القراءة، فهناك أنواعٌ أخرى قد نحتاج إليها كالقراءة الصامتة أو السريعة أو المتأنية وغيرها، ولا ينفك عنها قارئ، فيلزمه أن يتعلم منها ما يرى نفسه محتاجاً إليها.

التفكير بصوت عالي

هؤلاء القراء بصوت مرتفع يقارنهم في القراءة الجهرية آخرون لا يفكرون إلا بأصواتهم العالية خصوصاً في حل مشكلاتهم، وقد ينضم أشياء أخرى كالمشي بطريقة معينة، والتحرك بسرعة في الأماكن التي يقفون فيها، ولعلك قابلتَ نوعاً من هؤلاء في حياتك يمشون ويتكلمون مع أنفسهم، فيظن مَن لا يعرفهم أنهم مجانين حتى شاعَ بين الناس أن التفكير بصوتٍ عال هو أول علامة الجنون.

هؤلاء ليسوا مجانين كما يُظن من حالهم، بل غاية أمرهم أنهم إذا أرادوا التفكير في أمرٍ مهمٍ لا تهدأ أنفسهم للتفكير إلا بالصوت العالي مع التحرك يمنة ويسرة في حركات تُرى عن بُعدٍ بأنها جنونية، هكذا تفكيرهم وطبيعة حالهم، لا يشعرون بالراحة النفسية في التفكير إلا بهذه الطريقة، وبدورنا لابد من احترامهم، والابتعاد عن حياتهم الشخصية، فهم كما يريدون لا كما نريد نحن.

الغاية الحقيقية من تعلم اللغات لدى بعض لناس

توجد فئة أخرى ابتليت بنوعٍ من أنواع التفكير الغريب، تعيش بيننا وتتكلثم بألسنتنا، ويزيدون عن غيرهم بأنهم يعرفون لغة أجنبية، فصار كلامهم وحديثهم بها وفرحوا بذلك؛ لأنهم يعتبرونها مصدر تقدم، ودلالة على الرقي، وعنوان حضارة، وهم إن كانوا مخالفين للصواب في ذلك إلا أن الأخطر منه أنهم لا يفكرون بعقليتهم العربية، وهذا هو عين المشكلة.

تمكنت اللغة الأجنبية من نفوس هؤلاء، ووافقت ميولهم الشخصية، وصاروا لا يستطيعون التفكير إلا بها، ومع مرور الوقت لا تسعفهم الذاكرة للتفكير باللغة العربية، وقد رأيتُ من ذلك أناساً، فإذا أرادوا كتابة شيء بالعربية فإنهم يفكرون باللغة الأجنبية ويكتبونه أولاً بها، ثم يترجمونه إلى اللغة العربية، وكأنهم ولدوا بمعزلٍ عن العربية، وبعضهم يتفاخر بذلك، فليس عندهم أدنى مشكلة.

مدى تأثير الاستخدام الخاطئ في تعلم اللغات على الأجيال العربية وخاصة الناشئة في البلدان الأجنبية

في الحقيقة هذه درجةٌ من التفكير تحتاج للمعالجة لا سيما مع الأطفال الصغار الذين نشأوا في بلاد أجنبية بحكم ظروف عمل آبائهم؛ لأنها تؤثر على المدى البعيد في سلوكهم، وتظهر واضحة في عاداتهم وتقاليدهم، فالحفاظ على اللغة العربية لا يعنى به معرفة ألفاظ ومعان وعبارات، بل هناك أمور وراء ذلك، وهي الحفاظ على الهوية العربية والكيان التقليدي المجتمعي.

هؤلاء المولَعون بلغتهم الأجنبية المبتعدون عن لغتهم الأم يعيشون طيلة حياتهم في منأى عن الآخرين، فلا هم أتقنوا هذه اللغة الأجنبية كما يتقنها أهلها، ومهما حاول أحدهم فلن يستطيع أن يكون من أهلها؛ لأنه بمجرد الحديث بها أمام أهلها الحقيقيين سيعرفون من خلال لكنته وضعف ألفاظه أنه غيرهم، فيكون أمره مفضوحاً، ويعتبرونه وإن تشابه معهم في مدخلهم ومخرجهم دخيلاً على لغتهم ومجتمعهم، فلا هو مع هؤلاء ولا مع هؤلاء.

تعلم اللغات الأجنبية عند بعض الناس لدرجة الانصهار بثقافة أهل اللغة

في الزاوية الأخرى وهو يحاول بكلّ ما أوتي من قوة الاقتراب من اللغة الأجنبية والولوع بثقافتها فإنه يبتعد تدريجياً عن لغته العربية وثقافته المحلية، وبالتالي يؤثر هذا الابتعاد -شعر به أم لم يشعر- على سلوكياته، فإن عاش طيلة عمره بعيداً عن وطنه عاش ومات أجنبياً، وإن حاول الرجوع إلى بلده عاش ومات غريباً، إذ لا يستطيع مجاراة الناس في تفكيرهم وتقاليدهم.

شرحتُ لك صنيع شخصين أحدهما يكتفي بلغته العربية ولا يرى في غيرها بديلاً، وآخر أخذته اللغة الأجنبية إلى طريقٍ قد يكون الذهاب فيه لا رجعة منه فيما بعدُ، لكنّ بينهما أناساً نبهاء عقلاء أتقنوا لغتهم العربية وحافظوا عليها واعتزوا بها حتى في غير مجتمعاتهم العربية، ومع ذلك درسوا لغة أجنبية دراسة وافية، فلم يقتصر الأمر عندهم على الحديث بها، بل استطاعوا أن يكتبوا بها كتابة علمية، كأهلها.

الأشخاص الذين سخروا تعلم اللغات لتطوير أبحاثهم العلمية

هؤلاء الأشخاصُ لم يكتفوا بمجرد الدراسة، حيث حاولوا الاستفادة من هذه اللغة ومن ثمّ إفادة مجتمعاتهم، فترجموا لنا كثيراً من الأعمال الغربية الأدبية وغيرها من العلوم إلى لغتنا العربية، ولولا هذه الفئة العالية الشأن ما استطعنا أن نقرأ الأدب العالمي، وفي القائمة كثيرٌ من عظماء الأدباء والمفكرين الذين كانوا يتقنون أكثر من لغة، فعلى سبيل المثال كانت الأدبية الكبيرة الآنسة مي زيادة تتكلم تسع لغات، ليس حديثاً فقط، بل تترجم وتكتب الشعر والأعمال الأدبية بهذه اللغات.

هذا هو المطلوبُ الذي نطمعُ فيه مِمن فتح الله عليه باب تعلم اللغات، فليتَ مَن أشرتُ إليهم يتفرنجون همة وعملاً .. ولا يتفرنجون سلوكاً وأخلاقاً!

فيديو مقال التفكير بغير لغتك

 

أضف تعليقك هنا