الشباب في بلادنا

إنها كلمة توحي بمعانٍ كثيرة، وتُلقي بظلال شتى، إنها الطموح والأمل والإرادة، إنها المستقبل، إنها الحياة تصطخب وتمور وتتناغم، إنها حركة دائبة كحركة الكواكب في أفلاكها، لا تني ولا تتوقف، إنها أمل الشعوب في بناء نهضتها وحضارتها، إنها كلمة تنشر على الحياة بأسرها غُلالة رقيقة من البِشر والتفاؤل، وتدحر الخمول واليأس، إنها (الشباب).

الشباب والحياة

يقبل الشاب على الحياة إقبال الصادي الذي جفَّ حلقه من الظمأ على الماء البارد في وقت الهجير، زهرةٌ تفتّحت لترى نور الوجود، وتعانق الضياء، وتبتسم للحياة، شقّت طريقها بعد أن احتضنتها تربةٌ خِصبة، وبيئة صالحة، ووجدت من يرعاها في مراحل ضعفها الأولى، حتى تظل ثابتة راسخة كالجبال حينما تشتد بها أعاصير الحياة.

خطورة الانحراف الأخلاقي على الفرد والمجتمع

ولكنْ كثيرا ما تأتي الرياح بما لم تشته السفن، فيقع الشباب أسرى للشهوات والمخدرات والمسكرات، وقد أصبحت ظاهرة في بلادنا، أوشكت أن تقوِّض عروش المجتمع، فحين ينكسر العود، وتتسلّط عليه حرارة الشمس، فيصبح كالعرجون القديم، وتقع الفأس في الرأس، يبكي الباكون، ويولول المولولون، ويأخذ المحللون في التماس الأسباب، ويشتغل علماء النفس والاجتماع في تفسير هذا السقوط، وبيان أسباب هذا الضياع، وتُنفق المجتمعاتُ غير قليل من ثرواتها في محاولة إصلاح ما اعوجَّ، وأنَّى لها ذلك، وقد فات الأوان.

أسباب متعددة اجتماعية واقتصادية، يقع كثير منها على عاتق الأسرة والبيئة الاجتماعية التي نشأ فيها الشاب، إذ يفتقد بعض الآباء الفهم الصحيح لأصول التربية، فلا يهتمون بأبنائهم إلا من ناحية الجسد، فتصبح الأجساد كأجساد البغال، وتبقى العقول والأحلام صغيرةً كأحلام العصافير، فربما وجدت متعلما يحتل درجة مرموقة، معدومَ الضمير، مهشّمَ النفس، فاقدَ الخلق، وترى شبابا كاملَ البِنية، مستويَ الخِلْقة، مفتولَ العضلات، منصرفا إلى الشهوات والرذائل، مغموسا في بحور الضياع والشتات، لا تحترق أعصابه إلا حين لا يجد ما يشتري به المسكرات، أو يرتكب به المنكرات، فتنظر منه عينين حمراوين، يثيران في نفسك أحزانا دفينة، ويستفزان في عينيك دموع الحسرة على ضياع شبابنا، وانهيار ثروتنا الغالية.

كوارث وجرائم وعواقب وخيمة

إن مثل هذا الشاب لا أهليّةَ له، فلك أن تتصوره، وقد أصبح ربّا لأسرة، مسئولا عن زوجة وولد، يدخل عليهم مخمورا هزيلا، لا يدري ما يقول، ولا ما يفعل، ينطرح على الفراش كالميّت لا حِراك به، وإن أبصرته في شارع لن تراه عاملا منتجا، بل متسكّعا عاطلا، يتلصّصُ ما يأكله وأولاده.

ومما يزيدك حزنا أنْ يُعتدَّ بمثل هذا النموذج، إذ تصوّره بعض الأعمال الدرامية بطلا، فترسّخ في أذهان الشباب قيما فاسدة، وتعطي البطولة مفاهيمَ جديدةً، تقنن الانحلال، وتُشرعن التفاهة.
لقد نبذت القبيلةُ في المجتمع الجاهلي شاعرَها، وتبرّأت منه، حين أوغل في ضلاله، وأمعن في شهواته، فقال عن نفسه:
وما زال تَشرابي الخمورَ ولذَّتي *** وبَيعي وإنفاقي طَريفي ومُتلَدي

إلى أن تَحامَتني العَشيرة كلُّها *** وأُفـرِدتُ إفرادَ البَعــيرِ المُعــَبَّــدِ

فهذا هو المجتمع الجاهلي قبل الإسلام، ينبِذ أحد أفراده كالبعير الأجرب، لأنه أسرف في السُّكر والشراب، وأنفق ماله على لذته، وهذا هو شبابنا ينفق ماله وصحته ووقته في هذه المسكرات، التي انتشرت في بلادنا انتشار النار في الهشيم، ويترك العمل، ثم يدّعي الفقر والعوَز، وضيقَ ذات اليد، ويجرُّ ذلك وراءه كثيرا من المشكلات التي تنذر بخراب الدنيا، وخسران الآخرة، فربما اصطدم مع أبيه، الذي جاء ليصلحَه أو ينتقدَ تصرفاته، بعد فوات الأوان، فتسمع حينئذ ألفاظا نابية، وتطاولا على مقام الأُبُوّة، وقد لا يكفي هذا الابنَ الآبقَ الصراخُ في وجه الأب، فيرفع عليه يده، وقد يتطور الأمر إلى أبعدَ من ذلك.

همسة في أذن الشباب

إن النفس حين تستسلم للذة، وتركن إلى الشهوات، تنمو فيها نوازع البهيمية، وتكبر فيها دواعي الشر الشيطانية، ويتحول صاحبها إلى حيوان مسعور، لا يبصر طريقه، ولا يستبين خيرا من شر، وقد قيل: نفسُك إن لم تشغلْها بالحق شغلتك بالباطل، وقال أمير الشعراء “شوقي”:
هــامتْ عـلى أَثَـرِ اللَّـذاتِ تطلبُهـا
والنفسُ إِن يَدْعُهـا داعـي الصِّبـا تَهمِ
صــلاحُ أَمـرِك للأَخـلاقِ مرجِعُـه
فقـــوِّم النفسَ بــالأَخلاقِ تســتقمِ
والنفسُ مـن خيرِهـا فـي خـيرِ عافيةٍ
والنفسُ مـن شـرها فـي مَـرْتَعٍ وَخِمِ

أدركوا الشباب

فلا نجاة من هذه الورطات التي انحدر إليها الشباب إلا بالعمل والكفاح، وضبط بوصلة النفس في مسارها الصحيح، الذي يكفل لها تجنُّبَ الحفر في طريق الحياة الطويل، واضطلاع الدول والمؤسسات بواجبها نحو الشباب باحتوائهم وتثقيفهم، وتوفير فرص العمل المناسبة لهم، والتنشئة الدينية الصحيحة التي تقف سدّا منيعا بين شبابنا وهذه الأمراض الموبقة، التي أنهكت أجساد المجتمعات قاطبة، إذ لا مبررَ مهما كان للسكر أو العقوق أو الانتحار أو القتل، فتلك شنائعُ لا يغسلها ماءُ المُزن الممتدِّ في أفق السماء.

فيديو مقال الشباب في بلادنا

 

أضف تعليقك هنا