العلمانية الفرنسية المتطرفة و منهجها الإقصائي ضد الموروث الديني

كثيرًا ما تصطدم الشعوب بتيارات علمانية متطرفة في عالمنا العربي وخاصة المغاربي، ومقاربتهم المعادية للدين ومعادلتهم الصفرية بين الدين من جهة والحرية والديمقراطية من جهة أخرى، التي أدخلتهم  في تيه كبير وردة حضارية، فالرفض الوجداني لفكرهم من مجتمعاتهم، نتاج لهذه المفارقة بين الإرث الهوياتي والعلمانية الإقصائية، التي تجعل الدين في عداء مع الدولة، فمعظم النخب العلمانية في مجتمعاتنا المغاربية، أصبحت متلونة بهذا الفكر الشاذ والفلسفة الغريبة التي لم توفق كليًا في وضع أسس حقيقة للتحول الديمقراطي بسبب حالة الفصام التي أحدثتها هذه النخبة.

من أين استمدَّ العلمانيون العرب فكرهم وكيف تأثروا بالعلمنة الغربية؟

إن الاستلاب الكلي الذي تقمصها، وحالة الانبهار و لذوبان التام في الفكر التنويري و بالأخص العلمانية الفرنسية والتي وللأسف، الكثير من النخب العلمانية في الدول المغاربية، فلسفتها التنويرية مستمدة منها، تجعلنا نبحث في أسباب هذا الانحراف والغلو من نخبنا العلمانية وانكفاءها على الإرث التنويري الفرنسي وعدم تفتحها على باقي العالم، ويدعونا هذا إلى البحث على الأصول التاريخية للعلمانية الفرنسية وسبب عدائها لكل ماهو ديني مقارنة بدول أخرى غير إسلامية؟

الجذور التاريخية للعلمنة في فرنسا

لقد ظلت الكنيسة الكاثوليكية في فرنسا محتفظة بسلكها الكهنوتي وقوتها في الحياة الفرنسية حيث أضحت متماهية مع الهوية الوطنية الفرنسية، ولذلك كان من الصعب عليها أن تفسح مجالًا للحريات، وهذا ما يفسر حدود العنف الذي استخدمته ضد مخالفيها، شهدت فرنسا ومجمل الدول الأوروبية حرب الثلاثين عامًا   1618ـ 1648 التي بدأت دينية وانتهت سياسية، وترافقت مع ثورات جانبية في الداخل الفرنسي ضد الإقطاع والملكية المطلقة.

وأمام هذا الواقع المتخلف (كنيسة قوية، ملكية مطلقة، أرستقراطية إقطاعية) بدأت تتشكل ردود فعل قوية حمل لواءها الفلاسفة، وبدأت فرنسا تشهد في القرن الـ18 نزعات معادية للكنيسة والملكية والإقطاع على السواء، وهيأت الموسوعة الفرنسية  ـ لديدرو ـ  ذروة الانقلاب التام على القيم القديمة باسم إيديولوجية العقل، وباسم هذه الإيديولوجية الجديدة، ستتحول الاطروحات العلمانية إلى متعال يناظر العقائد الدينية في قدسيتها، وباسم هذا المقدس الجديد ستصبح أية مقولة لا تنتمي إليه خارج المفكر فيه، إنه “اللا معقول”.

السبب الكامن وراء مناهضة الدين

هذا ما يفسر سبب الحركة العنيفة المناهضة للدين والكهنوت، وهي السمة التي طبعت الديمقراطية الفرنسية إلى الآن، و عتبر الفيلسوف فولتير من روادها حيث دعى صراحة إلى إعلان الحرب على الكنيسة وسحق الخسيس، و كذلك الفيلسوف وديدرو بمقولته الشهيرة (خنق الملك السابق بأحشاء القسيس السابق)، و الفيلسوفان هولباخ و هلفتيوس يجاهرون صراحة بإلحادهم ويضعون الدين في مرتبة دونية مع العامة. و لهذا كان شعور الفلاسفة الفرنسيين بالعداوة للدين نتيجة ثانوية لعدائهم للكنيسة الكاثوليكية، كما تقول المفكرة الأميركية غيرترود هيملفارب مؤلفة كتاب ـ الطرق إلى الحداثة ـ

التنوير البريطاني أمريكي والتنوير الفرنسي 

إذا كانت الأنوار الفرنسيّة تقوم على العقل و على مواجهة أخلاق الكنيسة، فإن التنوير البريطاني، حسب غيرترود هيملفارب: يقوم على سوسيولوجيا الفضيلة، بمعنى أن الفلاسفة البريطانيين كانوا فلاسفة أخلاقيين، اهتموا بالمشاعر وبالدين والسياسة والاقتصاد، و بكل ما له علاقة بالمجتمع وبالأخلاق الاجتماعية، على عكس فلاسفة فرنسا الذين قاموا بتأليه العقل، وجعلوا العقل محور فلسفتهم، لدرجة جعلت بعض الباحثين يعتبرون التنوير الفرنسي إيديولوجيا العقل.

كان التنوير الإنكليزي متسامحًا مع أنواع كثيرة من الإيمان والكفر، ولم يكن هناك نزاع بين السلطات المدنية والسلطات الدينية، ولم تكن هناك حاجة للإطاحة بالدين لأنه لم يكن هناك بابا ولا محاكم تفتيش ولا كهنوت محتكر ولا كنيسة مضطهدة، وفي الولايات المتحدة، تطورت الحداثة مع فعالية الكنائس في الحيز العام يقول اليكس دوتوكفيل مؤرخ ومفكر سياسي مؤلف كتاب الديمقراطية الأمريكية: إن فلاسفة فرنسا اعتقدوا أن الحماسة الدينية ستخمد عندما تزيد الحرية، وهو ما استهجنه الأميركيون، وفي فرنسا روح الدين وروح الحرية متناقضان، أما في أميركا فهما متحدان، والسبب في ذلك -يضيف توكفيل- أن الكنيسة المنفصلة عن الدولة لم تكن منفصلة عن المجتمع الأميركي، وبالتالي لم ينظر إلى الدين على أنه تهديد للحرية كما هو الحال في فرنسا.

انكلترا والكنيسة

في إنكلترا تكيفت الكنيسة مع أخلاق عامة الشعب، وفي الولايات المتحدة هناك مراعاة حقيقية للشعائر الدينية واحترام للأقليات الدينية، وهذا التسامح لا يزال مفقودًا إلى حد ما في فرنسا إلى الآن، ولا تزال الحدود غامضة فيها بين مسؤولية الحرية ومسؤولية احترام الآخر.

الديانات في الدساتير الحديثة

نستشهد هنا بدساتير لبعض الدول و منها دول ديمقراطية عريقة، منها من نصت دساتيرها على المسيحية الكاثوليكية ديانة رسمية لها بشكل صريح مثل الأرجنتين، و المكسيك، وهندوراس، والسلفادور، ومالطا، وموناكو، والأورغواي، وليشتنشتاين، و البيرو، وكوستاريكا، و أندورا، و بنما، و الأرجنتين التي نص دستورها على دعم الحكومة المركزية للكنيسة الكاثوليكية، ونص دستور بنما على تدريس الكاثوليكية في المدارس الرسمية، وعلى أن ممارسة الديانات الأخرى مشروط بـ ” احترام الأخلاق المسيحية ” ، ومنها من نصت دساتيرها على المسيحية اللوثرية ديانة رسمية لها، منها الدنمارك وأيسلندا والنرويج، مع نصِّ دستوري الدنمارك وأيسلندا على دعم الدولة وحمايتها للكنيسة التي تمثل هذا المذهب المسيحي تحديداً، و منها من نص دستورها على أن المسيحية الأرثودوكسية هي الديانة الرسمية لها: اليونان، وجورجيا، وبلغاريا، ويعترف دستور أرمينيا “بالرسالة الحصرية للكنيسة الرسولية الأرمنية باعتبارها كنيسة وطنية.”

الديانات في الدساتير الآسيوية

كما تبنت دول آسيوية البوذية ديانة رسمية للدولة، ومن هذه الدول كمبوديا، وسيريلانكا، وبوتان، وماينمار، كما نص دستور الهند على دعم “المؤسسات الدينية الهندوسية ذات الطبيعة العمومية،” ونصت القوانين الأساسية الإسرائيلية -التي هي بمثابة الدستور- على يهودية الدولة، بل منعت كل من يسعى لنفي الطابع اليهودية للدولة “صراحة أو ضمنا” من الترشح للكنيست الإسرائيلي.

الديانات في دستور الدنمارك

وقد نص دستور الدنمارك والنرويج على أن الملك في هاتين الدولتين لا بد أن يكون من أتباع الكنيسة الإنجيلية اللوثرية، بينما اشترط دستور كل من كمبوديا وتايلاند أن يكون الملك بوذيـًا، ويجب أن لا ننسى في هذا السياق أبدا أن أحد الألقاب الدستورية لملكة بريطانيا هو لقب “حامية العقيدة والقائد الأعلى للكنيسة الأنغليكانية”.

وورد التنصيص على احترام القيم المسيحية أو الاعتزاز بها، أو استلهامها في دساتير عدد من الدول منها النرويج، ولاتفيا، ونيكاراجوا، وجزر الباهاما… كما ورد التنصيص على “مبدأ العدالة الاجتماعية المسيحي” في دستور كوستاريكا، واعتز البلغاريون في ديباجة دستورهم بأنهم “جزء من أوروبا المسيحية،” وعبرت دول أخرى عن اعتزازها “بـالتراث المسيحي” منها بولندا والنرويج. ونصت ديباجة دستور زامبيا على أنها ” أمة مسيحية “.

دراسة لمركز PEW لأثر الدين في الشأن العام

لقد توصلت دراسة لمركز PEW الأميركي عن أثر الدين في الشأن العام إلى وجود ثلاثين دولة تشترط الانتماء لدين بعينه فيمن يكون رأس الدولة، وأن “الإحالة إلى الخالق أو إلى المقدس وردت في كل دساتير الولايات الأميركية” الخمسين دون استثناء، وفي دراسة أخرى أكثر تفصيلًا، يوضح المركز ذاته أن “ أكثر من ثمانين دولة تنحاز لدين بعينه، إما كدين رسمي تتبناه السلطة، وإما بتمييز هذا الدين بمعاملة خاصة به دون الأديان الأخرى.”

هل كانت العلمانية الغربية جسم غريب في قلب الموروث الثقافي العربي؟

لقد أصاب محمد أركون حين وصف العلمانية الفرنسية بـ”العلمانوية”، في إشارة إلى غلوها وأساسها التاريخي المستمد من تجربة اليعاقبة زمن الثورة الكبرى، حيث اتخذت العلمانية محتوى يخالف المعنى الأصلي، من حيث حياد الدولة تجاه الأديان من منطلق استقلالية المجال العام عن المجال الخاص، بل إن فصل الدين عن الدولة تعداه إلى فصله عن الحياة، وهي خاصية عرفت بها العلمانية المتطرفة التي تسوقها فرنسا، بعكس دول غربية كثيرة كانت أكثر تسامح مع الموروث الديني وأخذ حصته الطبيعة من دساتيرها بل أصبح محفز للتعايش والحرية

ورصيد معنوي وعلمي يثري قوانينها ويعمل على زيادة اللحمة الوطنية لديها، وهذا ما لا يعيه الكثير من النخب العلمانية في دولنا التي جانبت الموضوعية واقتصرت رؤيتها على التجارب المرتبطة باللائكية الفرنسية دون غيرها، مما زاد في غربتها على شعوبها التي قاطعت هذا الفكر الغريب عن أصولها  ووجدانها، ولا تسد هذه الهوة التي سببها هذا التطرف إلا إعادة هذه النخب النظر في واقعها و الدخول في مراجعات عميقة لفهم موروثها الثقافي والديني والانفتاح على تجارب العالم الكثيرة، لزوال حالة الفصام  و التيه الحضاري المصابة به. ( اقرأ المزيد حول سياسة وفكر في موقعنا، وشاهد مقاطع فيديو موقع مقال على يوتيوب )

فيديو مقال العلمانية الفرنسية المتطرفة و منهجها الإقصائي ضد الموروث الديني

أضف تعليقك هنا