المختانون

“حين يتدخل القرآن لنصرة يهودي ” عمدت إلى أهل بيت إسلام وصلاح بالسرقة على غير بيّنة تلك كانت كلمة الرسول الكريم  لقتادة بن النعمان الذي اتهم أبناء أبيرق (ومنهم بشير[1]) بالسرقة، فجادل عنهم الرسول لما ظهر له من إسلامهم، فقد وضعوا  المسروق في بيت يهودي واتهموه ليبعدوا عنهم التهمة، ثم أتوا الرسول يشتكون له أن قتادة يتهمهم، اليهودي متهم وهو بريء والصحابي قتادة محق لكن المسروق في بيت المتهم، عندها تنزل الآيات لتُظهر الحقيقة وتكشف الخبيئة  “إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)” سورة النساء.

معنى “يختانون” في سورة النساء

نعم هو يهودي، لكن الحق أحق أن يُتَّبع، فلا مجاملة في الحق وإن اختلف الدين أو اللون أو الجنس، وفي الوقت نفسه يبين القرآن الكريم ويكشف الخفايا غير الظاهرة ويسلط الضوء على صفة من صفات أولئك القوم بكلمة بديعة “يختانون”، فما معناها؟وردت كلمة يختانون مرتين في القرآن الكريم، في سورة النساء وفي سورة البقرة ‏‏عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ}‏ ‏ 187‏]‏، ولا شك أنك لاحظت أنها ارتبطت بالنفس في كلا الآيتين: أنفسهم وأنفسكم، يختانون من الخيانة، و {يختانون} بمعنى يَخونون، وهو افتعال دالّ على التكلّف والمحاولة لقصد المبالغة في الخيانة.

إذن يختانون نوع خاص من الخيانة ، فيه تكلف  وصناعة ودراية، وأكبر الخيانة خيانة النفس، وأكبر خيانة للنفس هي ارتكاب المعاصي، لكن المختانون لهم ميزةٌ أخرى في ارتكاب المعاصي، وهي فعلها سراً والسعي في عدم إظهارها، فلفظ الخيانة حيث استعمل لا يستعمل إلا فيما خفي عن المخون، كالذي يخون أمانته، فيخون من ائتمنه إذا كان لا يشاهده، ولو شاهده لما خانه، وهذا كله مما يبين أن النفس تخون أمانتها.

براعة الربط القرآني

ألا ما أجمل الربط القرآني بين “يختانون” ونفس الخاتن، فالمختان حقيقة يخون نفسه، فقد سولَّت له المعصية وزينتها له، وحين عرض له الخوف من الفضيحة والخسران عند بني الإنسان أرشدته إلى التستر والخفاء فأدخلته في الظُلمة وأنسته رؤية الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور، فسلطت عليه سيف العقوبة الربانية، وربَّ جُرحٍ وقع في مَقتَل.

“يختانون” في الشعر

يا الله كم في زمننا من وسائل وأجهزة جعلت الاختيان سهل والوقوع في مستنقعه هين، فهل كثُر” المختانون”؟،  ولا أدري أنسوا الله! أم أنساهم أنفسهم! ما أحسن قول الشاعر:

إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل         ***      خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا         ***        أن ما تُخفيه عنه يغيب

وقول الآخر:

وإذا خلوت بريبة في ظلمة                      ***        والنفس داعية إلى الطغيانِ
فاستحيي من نظر الإله وقل لها              ***           إن الذي خلق الظلام يراني

همسة

همسة في آذان “المختانين”، فقد ثبت عن رسولنا قوله: ” وإنَّ الرجلَ ليعملُ بعملِ أهل  أهلِ الجنةِ، حتى ما يكونُ بينه وبينها إلا ذراعٌ، فيَسبِقُ عليه الكتابُ، فيَعمَلُ بعملِ أهلِ النارِ، فيَدخُلُ النارَ[2]” وفي رواية ” يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس”

وقد أحسن ابن رجب الحنبلي في شرحه للحديث فكان مما قاله:” وقوله: فيما يبدو للناس ـ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ بَاطِنَ الْأَمْرِ يَكُونُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَنَّ خَاتِمَةَ السُّوءِ تَكُونُ بِسَبَبِ دَسِيسَةٍ بَاطِنَةٍ لِلْعَبْدِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا النَّاسُ، إِمَّا مِنْ جِهَةِ عَمَلٍ سَيِّئٍ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَتِلْكَ الْخَصْلَةُ الْخَفِيَّةُ تُوجِبُ سُوءَ الْخَاتِمَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ.”

باب التوبة مفتوح 

همسة أخيرة باب التوبة مفتوح، والله يفرح بتوبة عبده، فهو يغفر ويعفو ويرحم، بل ويقلب السيئات حسنات، فهلا أقبلنا على الله وانطرحنا بين يديه فالعمر قصير والأمل بالله كبير، اللهم اجعل بواطننا خيراً من ظواهرنا، وتقبل أعمالنا وأغفر زلاتنا، والله أعلم وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

مصادر

[1] كان منافقاً يهجو المسلمين بشعر يشيعه وينسبه إلى غيره.

[2] البخاري، صحيح البخاري 3332

فيديو مقال المختانون

أضف تعليقك هنا