النفس بين العقل والعاطفة

يعيش الإنسان في هذا الوجود الفسيح بمشاعره وأحاسيسه، التي تُجدِّدُ في قلبه إِهَابَ الحياة، وتُحيي في نفسه بريقَ الأمل، فلولا هذه الأحاسيسُ ما استطاع أن يعيش، لأنها تدفعه، وتقوده، وتحميه، وتجعله يتمسك بالحياة، ويتشبَّث بالأمل، وتغدو ذات قيمة أسمى، كلما استطاع الإفصاحَ عنها، فإذا فقدَ القدرةَ على ذلك، بقيت منزوية في حناياه، ذابلة في خلجات نفسه – النفس البشرية -.

الأحاسيس التي تؤثر في النفس البشرية

لكن هذه الأحاسيس ليست على درجة واحدة، فمنها إيجابي، ومنها سلبي، فالخوف مثلا عاطفة سلبية مفزعة، إذا عاش الإنسان تحت سيطرتها فترة أَقَضَّتْ مضجعَه، وربما أودت بحياته، لكنها مع ذلك عاطفة محمودة، لأنها تدفع صاحبها إلى الاحتراس، والحذر من مصادر الخوف، والاجتهاد في إزالة أسبابه، والإنسان الذي يفقدها مثله كمثل الإنسان الذي تخدّرت أعضاؤه، فلا يكترث بما يدخل في جسده من وخزات الإبر، أو مباضع الجراحة.

وليس حديثي هنا عن أهمية المشاعر بالنسبة للإنسان، وكيف أنها سبيلُه إلى تقدير نفسه، والشعورِ بكِيانه، والتعبيرِ عن ذاتيَّته، فهذا مما لا يخفى على أحد، ولكنه حديث عن شيء آخر، لا أدَّعي أنه من أبكار الأفكار، ولكنه منها بمكان لأهميته، وهو التأمل في هذه المشاعر، أين هي من النفس، وكيف تتقلّبُ، أو تتبدلُ بين حين وآخر، فتارة تكون عاصفةً، وتارة تكون باهتةً، وتارة تكون خوفا، وتارة تكون أمنا، بل ربما يكون مصدر الأمن هو نفسه المصدر الذي كان منه الخوف، وتتقلب أحوال النفس بين الحب والكره، بين الرضا والغضب، بين السعادة والتعاسة، بين الأمل واليأس، وهكذا.

من صور تبدل الشعور لدى النفس البشرية

ولعلك -قارئي العزيز- قد مررت بشيء من ذلك، بل بكثير منه، فمن منا لم تتغير انطباعاته، وأحاسيسه ومشاعره نحو أشياء أو مواقف أو أشخاص، يبيت في شعور، ويستيقظ في شعور آخر، فتتبدل نظرته، وتختلف أحكامه تبعا لمشاعر النفس المتقلبة، التي تتقلب لأنها صادرة عن قلبه، وما سمي القلب قلبا إلا لكثرة تقلبه، ولذلك فإن النبي محمداً (صلى الله عليه وسلم) دعا ربه فقال: “اللَّهُمَّ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكِ”.

الإنسان ما دام قلبه ينبِضُ في جوفه، فهو في تقلب وتبدل، قد يرى صديقا له أنقى الناس وأصفاهم، وأن الزمان قد جاد عليه به، فلا يلبث إلا يسيرا حتى يغير فيه حكمه، ويبدل فيه نظرته، وقد ينظر إلى ما كان يحب من مطعم أو مأكل، فإذا به لا يستسيغه، كأنما هو السم الزعاف.

مثال على تحول اختيار النفس البشرية لقراراتها وفقا لتأثيرات العقل أو المشاعر

كنت في صغري أحب صوت الشيخ “عبد الباسط محمد عبد الصمد”، فقد أسرني، واستحوذ على شعوري، فكنت أعيش معه بكل جوارحي، وقد كان أحد أصحاب الفضل عليّ في ضبط قراءة القرآن الكريم، وإتقان أحكام تجويده، حتى لفتني زميل وصديق لي إلى صوت الشيخ المنشاويِّ -رحمه الله- فوجدته صوتا سماويا ساحرا، لأنك حين تستمع إليه، كأنما يقتلعك من جذورك الضاربة في الغفلة، السارحة في الشهوات، ليحلق بك عاليا في عَنان السماء، بعيدا حيث تسكن النفس، وتذوب وجدا وانفعالا.

أو كأنك أصبحتَ شيخا فانيا متبتلا منقطعا في كهفه عن الدنيا وما فيها، قانتا آناء الليل ساجدا وقائما، يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، ويمضي بي الزمان، وأستمع إلى تلاوات المنشاوي، فأظن أنه لا يجاريه أحد حين يقرأ القرآن على أية صورة، فهو القارئ البكّاء الذي أودع الله في صوته سرا عجيبا، لا أراه إلا الإخلاص لله وحده، وقد أعود إلى شعوري الأول، وهكذا.

إن هذه النفس سريعة التحول، سريعة الانجذاب، أرأيت أنك ربما تبكي حينما تقرأ قصة إنسانية حزينة، فتشارك أشخاصها الإحساس بمرارة الألم أو الشقاء أو الحرمان، وربما تحاول لفتَ مَن بجانبك مِن صديق حميم، أو حبيب مُقرَّب، فلا يلتفت لك، كأنما الران على قلبه، ثم يأتي هو في وقت آخر، شفّت فيه روحه، ورقّ فيه شعوره، فيقرأ القصة نفسها، فتسيل دموعه، وتسكن جوارحه، كأنما أبصر الجنة والنار، أو كأنما رأى ملك الموت يتخطى إليه الرقاب، ثم إنه قد يلفتك أنت هذه المرة فلا تلتفت، كأن روحك قُدّت من صخر، أو كأن أحاسيسك حبّاتُ بَرَدٍ جامدة.

الحياة مليئة بالوجوه الخادعة التي تُحير النفس البشرية

قارئي العزيز إذا علمت ذلك من نفسك، فلا يستخفنَّك الذين يزيّفون صورَهم، ويجمِّلون وجوهَهم بألوان شتى من مساحيق التجميل، كالنساء يسترن ما بهن من قبح، ولا تتعجل في إصدار حكم، ولا تنبهر بطلاء خادع، ولا بهرج زائف، فسوف تدرك الحقيقة غدا، وتعلم أنك لم تكن على صواب، وأنك منقاد إلى نزعات عاطفتك، لا إلى أحكام عقلك، فالنفس لا تستقر على حكم فيما ينبغي أن تستقر فيه.

فكيف إذا تعجَّلَتْ في اطمئنانها إلى باطل، أو ارتضت ما يصدر عن نَزَق، إنها إما أن تظل مخدوعةً مسلوبةَ الإرادة، لا تستقبل من أمرها ما استدبرت فتصوِّبَه، بل تبقى سجينةَ الهوى، دون وعي وإدراك حتى تلقى حَتْفَها، وإما أن تدرك في لحظة من لحظات إفاقتها أنها كانت على غير هدى، وأن النظرة العَجْلَى كانت حمقا وسفها، وأن التؤدة في إصدار الأحكام سبيل العافية من الوقوع في مزالق الأهواء.

فيديو مقال النفس بين العقل والعاطفة

أضف تعليقك هنا