فن القصة في النص القرآني بين الوحى الإلهي والإبداع البشري (1)

بقلم: محمد راضي الشيخ

هناك فوارق كثيرة بين القصة في القرآن الكريم بكل ما تشتمل عليه من أطر وقواعد تضبط سيرها خلال النص القرآني وبين القصة خارج النص القرآني أو القصة الإبداعية التي يضبط سيرها أطر النقد الأدبي الحديث ونظرياته.

القصة في التاريخ العربي

إن القصة في التاريخ العالمي لها حضور لافت، حيث إنَّ معظم الشعوب موجود في إرثها التاريخي القصة وإن اختلف معناها الفني عن القصة الفنية الحديثة التي نعرفها الآن، ودائماً الأسلوب القصصي تميل إليه النفس وتهواه ،إذن بملكنا أن نقول: “إن القصة كانت أول ما صحب الإنسان في هذه الحياة، وأنها كانت أقدم ما عرف من تصورات عقله وصيد خواطره، وطوارق أحلامه وهواجس رؤاه ” (القصص القرآني. منطوقه ومفهومه: د. عبد الكريم الخطيب، دار المعرفة، بيروت، ط2، 1975م، ص4).

إن القصة في التاريخ العربي لها أهمية كبيرة، ولها حضور لافت في الحياة العربية عامةً والأدب العربي خاصةً، وإن شئت قلت فن الحكى بدلًا عن القصة بالمفهوم الفني الحديث، فالعرب في الجاهلية عرفوا القصة حيث كانوا يروون الأحداث بطريقة قصصية، أو بطريقة فيها حبكة فنية والحبكة شكل من أشكال القص ومن المؤكّد “أنهم كانوا يشغفون بالقصص شغفاً شديدًا وساعدتهم على ذلك أوقات فراغهم الواسعة في الصحراء فكانوا حين يرخي الليل سدوله يجتمعون للسمر العصر الجاهلي ” (د. شوقي ضيف، دار المعارف، القاهرة، 1976 م، ص 399).

القرآن الكريم يؤكد أن العرب القدماء كانوا يعرفون القصص

فن الحكى هذا هو أساس الفن القصصي الحديث، فالقصة هى التطور الطبيعي للحكاية القديمة وفن الحكى معروفٌ لدى العرب منذ أقدم عصورهم فإن “للعرب القدامى قصصهم التي تختلف كثيرًا أو قليلًا عن القصة الفنية الحديثة، غاية الأمر أن هذه القصص كانت تعبر عن المجتمع الذي نشأت فيه إلى حدٍ كبيرٍ تعبر عن عاداته وقيمه وسلوك أفراده نوعًا من التعبير ولا شأن للباحثين بعد ذلك فيما إذا كانت تتفق مع القصة الحديثة أو تختلف ” (دراسات في القصة والمسرح : محمود تيمور، المطبعة النموذجية، ص 67).

والقرآن الكريم يثبت بما لا يدع مجالًا للشك أنَّ العرب القدماء كانوا يعرفون القصص والدليل قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)} [الأعراف: 175، 176] فالآية السابقة تدل على معرفة العرب بالقصص وإلا لما جاءت الآية تأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقصَّ على مسامع قومه القصص البناءة التي تحرك العقل من رقدته والفكر من سباته “وكذلك كان العرب يعرفون تأثيرها على النفوس والسيطرة على الأفئدة وأنها تشكل عاملًا مهمًا في إنجاح أية دعوة من الدعوات التي يراد بثها في أفئدة الناس، وتأتي دلالة القرآن أيضا من أنه استخدم القصة بوصفها سلاحًا من أسلحة الدعوة الإسلامية ولو لم يكن للقصة تأثيرها لما استخدمها القرآن على هذا النحو” (أسس بناء القصة من القرآن الكريم. دراسة أدبية نقدية، محمد عبد اللاه عبده دبور، ص 13).

القصة حاضرة في الأدب العربي بأغلب فنونه

نخلص من هذا كله أن القصة من حيث وجود عنصر الحكاية كانت موجودة في العصر الجاهلي أما القصة بالمعنى الفني الحديث وقواعدها الفنية فلا وجود لها في العصر الجاهلي وفي الشعر الجاهلي شعر قصصي مثل شعر الحطيئة في قصيدته التي تحكي قصة ضيفه ، وغيره من الشعر الجاهلي ، التي تظهر فيه بوادر فن القص ،ثم استمر هذا النوع من الشعر القصصي في العصر الأموي و يمكن التماس ذلك النوع عند شاعر من شعراء هذا العصر اشتهر به وهو عمر بن أبي ربيعة “فإن له قصائد تكاد تكون مستكملة الهيكل من تمهيد وعقدة وحل طبعي وعلى ما يتخللها من حوار لذيذ يشترك فيه أشخاصها حتى ليخيل إليك أنك تقرأ قطعة، تمثيلية تطالعك بأحاديث الحب ولغة المرأة في صدر الإسلام وقد وسَّع عمر نطاق الحوار ولم يقصره على شخصين وأكثر منه في غزله وراعى فيه ذهنية المرأة وتعابيرها ففاق به من تقدمه وأحرز السبق على معاصريه ” (مقدمة ديوان عمر بن أبي ربيعة، دار صادر، بيروت، لبنان، ص8).

الحكاية في الأدب العباسي

في العصر العباسي عَنَّ لنا قامة من قامات النثر العربي وهو الجاحظ حيث كتب الجاحظ بأسلوب بياني رفيع، وكان كاتباً موسوعياً تنثال على لسانه قطع بيانية أخاذة تقطر روعةً وإشراقًا، وغلب على أسلوب كتابه “البخلاء” الذي كتب فيه حكايات عن بخلاء عصره، كتبها بأسلوب قصصي جميل حيث “أورد الكثير عن حكايات البخلاء بأسلوب قصصي ووصف الحركات الجسدية والمشاعر النفسية لأبطال حكاياته” ( انظر مقدمة البخلاء تحقيق د. طه الحاجري، دار المعارف، ط 5 ، ص 79، 80، 94)، فالجاحظ كان له نظرة مجتمعية واصفة ناقدة في آنٍ واحد حيث اختار أبطال هذه القصص التي رواها بعناية، وأضاف إليها من نزعته الفنية وتخيله ، ما جعلها تصلح كونها أبطال قص حق؛ ثم أتى بعد ذلك بديع الزمان الهمذاني (ت 698 هـ) وتبعه الحريري (ت 516 هـ)، أقام الهمزاني هيكل المقامةوهي عبارة عن “قصة قصيرة تروي خبرًا ناميًا في ذاته عن بطل محتال في لحظة من لحظات حياته” ( أثر المقامة في نشأة القصة المصرية الحديثة: د. محمد رشدي حسن، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1974 م ، ص 13-14.

القصة فن جذوره “عربية”

لذا فإنَّ مقولة إن القصة الحديثة اختراع أوربي وفن غربي المولد والنشأة، تبع فيه العرب الأوربيين ونسجوا على منوالهم قول في حاجة إلى إعادة نظر فقد وضح كما مَرَّ في السطور السابقة أن هناك شكلاً من أشكال الحكاية والقصة نما وتتطور عبر الزمن؛ لذا أتى القرآن الكريم بالقصة كأداة من أدواته وأسلوبًا من أساليبه للتأثير في أتباعه ولولا معرفة العرب بالقصص قبل ذلك لما أتى به القرآن وسيلةً من وسائله المتعددة لنشر العقيدة وتثبيتها في نفوس أتباعه، وتوضيح منهج الرسالة المحمدية، وكما يقول المستشرق الأمريكي: “إذا أراد الناقد أو المنظر العربي أن يقتبس من الفكر الغربي فإن عليه – في البداية – أن يرجع إلى أصله العربي وأن يفهمه فهما بنائيًا

وأن يعي مسئوليته الخاصة فيما يتعلق بالموازنة بين عبء الماضي وقلق الحداثة وهذا هو منهج المنظر والناقد الغربي في نفس الوقت فالوعى بين الثقافة الأصلية وتيار التجديد مسئولية كبيرة يتحملها الناقد والمنظر العربي ” (من حوار مع المستشرق الأمريكي باورسلاف ستيكفيتش أستاذ الأدب العربي بجامعة شيكاغو الأمريكية أجرته: سلوى العناني، وعنونت له: الاستشراق الأمريكي والأدب العربي: مع عنوان جانبي : الأصل في النقد هو العودة إلى الجذور وموازنتها بالجديد، ملحق أهرام الجمعة 13/ 8/ 1996م، ص 2).

بقلم: محمد راضي الشيخ

أضف تعليقك هنا