فن القص في النص القرآني بين الوحى الإلهي والإبداع البشري ( 2).

بقلم: د.محمد راضي الشيخ

كانت القصة في القرآن الكريم أسلوبًا من أساليبه اللغوية المتعددة التي استخدمها القرآن الكريم بوصفها إحدى وسائله الكثيرة لتحقيق مبادئ الدعوة الإسلامية والتمكين لتعاليم الدين في نفوس الأتباع، وبيان العقيدة وترسيخها في النفوس وإثبات صدق الوحي والنبوة وذكر بعض آثار الأمم السابقة للعظة والعبرة، وإثبات أن رسالة الإسلام ما هي إلا الحلقة الأخيرة في سلسلة الرسالة السماوية الممتدة من لدن آدم عليه السلام إلى محمد ﷺ؛.

الترابط بين موضوع القصة في القرآن وموضوعات القرآن

لذا احتلت القصة في القرآن الكريم حيزًا كبيرًا منه، حيث التحم موضوع القصة بموضوعات القرآن التحامًا قويًا يصعب معه الفصل بينهما،لأن القرآن الكريم كله بكل ما يشتمل عليه يمثل نصًا واحدًا ،غير أن القصة القرآنية تتناول الفكرة القرآنية تناولاً فنيًا، ولا يعني هذا أن الفن هو مقصودٌ لذاته فقط ولكن الفكرة تُصب في قالب فني بوصفه إحدى وسائل اللغة في الأساس وطريقة من طرائقها في التعبير.

إذن فالقصة القرآنية تتناول الموضوع القرآني تناولاً فنيًا، ولا يعني هذا – كما قلنا – إن الفنَّ هو المراد الأول، ومن ثم تتفق القصة القرآنية مع السورة التي وردت فيها في المقصد، فالقصة تدعم موضوع السورة وتؤكد بل تأتي شاهدةً عليه في أحايين كثيرة وهى – بذلك – تمثل جزًءا من النسيج القوى للسورة القرآنية (انظر أسس بناء القصة من القرآن الكريم: محمد عبد اللاه دبور، ص35 )

مفهوم القصة في القرآن 

إن كلمة “قصة”  في النص القرآني يدور معناها حول تتبع أمرٍ ما والإخبار به، وقد أتى المعني لكلمة القص في القرآن الكريم موافقًا للمعنى اللغوي “إذًا يتلاقى المعنى اللغوي مع المفهوم الذي يحتوي عليه أصل التسمية للقصص القرآني على الرغم من أنَّ لفظة القصة لم ترد في القرآن الكريم وإنما الذي ورد لفظ القصص والذي يغلب عليه طابع الرواية الشفوية .

(مفهوم القصة القرآنية وأغراضها عند السابقين والمعاصرين، د. العربي لخضر، دار الغرب، ص 8.)وهكذا يتبين بجلاء أن الاشتقاق لمفردة القصة أو القصص التي وردت في القرآن الكريم تعني: “الكشف عن آثار وتنقيب عن أحداث نسيها الناس أو غفلوا عنها، وغاية ما يراد بهذا الكشف هو إعادة عرضها من جديد لتذكير الناس بها، وإلفاتهم إليها ليكون لهم منها عبرة وموعظة، وهكذا كان القصص القرآني ولهذا جاء . (القصص القرآني منطوقه ومفهومه، د. عبد الكريم الخطيب، دار المعرفة للطباعة والنشر، لبنان، بيروت، ص 48)

القصة في القرآن والأثر الذي تحدثه في نفس القارىء

إذن القصة في القرآن الكريم أمرٌ واقعٌ لا انفكاك عنه، ولا يستطيع أحد إنكارها، وقد تعرض الكثير من الباحثين في الدراسات القرآنية للقصص القرآني.

والتعبير القرآني دقيق في معانيه، فالمعاني تكون واضحةً تمامَ الوضوح لأتباعه، ثم بعد ذلك: “تصاغ المعاني التي يهدف القرآن إليها في أسلوب شائق أخاذ يستهوي القارئ ويحبب إليه النظر في كتاب الله تعالى .” (سيكولوجية القصة في القرآن الكريم، التهامي نقرة، ط الشركة التونسية، 1971م، ص11)

فلا غرو في ذلك فالقرآن الكريم يهتم اهتمامًا بالغًا بالأثر النفسي للمعاني التي يريد إيصالها لمتلقي نصه في كل المواضع، لأنَّ هذا الأثر من الأهمية بمكان يجعل متلقي النص القرآني مهيئًا لاستقباله في أعلى درجات الاستعداد حتى يؤتي أثره المرجو.

قصة سيدنا أدم مثالا

فمثلا قصة آدم عليه السلام مع إبليس والعداوة التي نشبت بينهما “إن إبراز هذه العداوة في ثوب قصصي يحكى بتجربة واقعية بين آدم أبي البشر وإبليس يكون أوقع في نفوس بني آدم وأقوى أثرًا وأدعى إلى الحذر الشديد من كل هاجسة في النفس تدعو إلى الشر وإسنادها إلى هذا العدو الذي لا يريد بالناس إلا شرًا ” (التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب، ص 154)

والقصة “كانت مدخلًا طبيعيًا يدخل منه أصحاب الرسالات وإنفاذه إلى الناس وإلى عقولهم وقلوبهم”. (القصص القرآني منطوقه ومفهومه، د. عبد الكريم الخطيب، ص 7).

جمالية الأسلوب القصصي لأسلوب سرد القصة في القرآن الكريم

وهذا أمٌر واقعٌ في حياة الناس على مر العصور يستهويهم الأسلوب القصصي ويعجبهم سرد الأخبار عن طريق الحكاية والقصة؛ لأن القصة تجعل الأشخاص والأحداث حيةً تنبض بالحياة والحركة وكأنها ماثلة أمام متلقي النص تنشط الخيال الذي بدوره يجعل الإنسان يتفاعل مع عناصر القصة المختلفة ويتفاعل مع المغزى منها.

ولسيد قطب رأى في التعبير القرآني يقول فيه: “القرآن يجعل الجمال الفني أداةً مقصودةً للتأثير الوجداني فيخاطب حاسة الوجدان الدينية بلغة الجمال الفنية والفن والدين صنوان في أعماق النفس وإدراك الجمال دليل الاستعداد لتلقي التأثير الديني حين يرتفع الفن إلى هذا المستوى الرفيع وحين تصفو النفوس لتلقي رسالة الجمال ” (التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب، ص 17).

فالناحية البيانية ظاهر واضحة أشد الوضوح في النص القرآني، وكان أحد أسلحة القرآن القوية.

بملكنا أن نقول: “إنَّ القرآن كان العامل الحاسم أو أحد العوامل الحاسمة في إيمان من آمنوا أوائل أيام الدعوة يوم لم يكن لمحمد حول ولا طول ويوم لم يكن للإسلام قوة ولا منعة ” (التصوير الفني في القرآن الكريم، سيد قطب، ص11)القرآن بكل ما فيه بما في ذلك القصة التي احتلت حيزًا من القرآن ليس يسيرًا، فهذه القصص حقيقية وهى “تأريخ لحقائق واقعية يعلم الله بها الناس ” (قصص القرآن في مواجهة أدب الرواية والمسرح، ط دار الجيل، بيروت، 1978 م، ص 248)

القصة في القرآن لها عدة أنواع

تنوع قصص القرآن من حيث الشكل إلى:

قصص قصيرة جدًا:

وهى مماثلة لما يطلق عليه اليوم الأقصوصة أو قصة الموقف مثل: قصة صاحب الجنتين، وقصة ابني آدم، وغيرها من القصص القصيرة التي وردت في القرآن الكريم.

القصة متوسطة الطول:

وهى مماثلة لما يطلق عليه النقاد اليوم القصة القصيرة مثل: قصة أهل الكهف، وقصة آدم وحواء عليهما السلام، وقصة أصحاب البستان، وقصة موسى عليه السلام مع العبد الصالح، وغيرها من القصص التي تندرج تحت هذا النوع.

القصص الطويلة أو ما يطلق عليه النقاد الرواية:

مثل: قصة يوسف ، موسى عليهما السلام.

الهدف من القصة في القرآن العبرة والموعظة وليس الأشخاص

إن القصص القرآني أتى في معظمه للعظة والعبرة والتعليم لذا فإن القصص في القرآن “لا يتناول أشخاصًا بذواتهم وقصص القرآن كله إنما هو عبرة عامة وموعظة تتكرر في كل عصر ما عدا قصة مريم عليها السلام ولذلك فإن الله سبحانه وتعالى لم يذكر أبطال هذه القصص بأسمائهم الكاملة لنعرف أشخاصهم، بل اكتفى باسم واحد عام فرعون مثلا هو: كل شخص يريد أن يجعل من نفسه إلهاً يعبد في الأرض، وصاحب الجنتين في سورة الكهف هو كل من ينسى فينسب الفضل إلى نفسه.

إن الهدف ليس الشخص ولكنه العبرة ولذلك سمى الله سبحانه مريم فقال: مريم ابنة عمران، لأنَّ المقصود في هذه الحالة مريم ابنة عمران بالذات، وأنَّ هذه القصة لن تحدث لغيرها، والمقصود في قصة عيسى عليه السلام هو عيسى ابن مريم بالذات ” (معجزة القرآن، محمد متولي الشعراوي، مكتبة التراث الإسلامي، 2/ 219 بتصرف)

لهذا كله ولغيره كان من الأهمية بمكان التعرض للقصة القرآنية بالبحث والدرس، وإلقاء الضوء على بعض الجوانب المهمة في القصص القرآني من الناحية الفنية، وللحديث بقية إن شاء الله .

بقلم: د.محمد راضي الشيخ

 

أضف تعليقك هنا