بشريات من سورة الطلاق

بقلم: أ.د/ فؤاد محمد موسى عبد العال

تمر الإنسانية الآن بضائقة شديدة لا يعرف أحد مداها إلا الله، وتشتد الأزمة أكثر على المنكوبين في أنحاء الأرض والمضطهدين الذين يعانون من اضطهاد الأشرار المسعورين على الحياة ومتاعها، وضاقت على الناس الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم.

جائحة كورونا ذكّرت الناس بيوم القيامة

إن جائحة كورونا التي أفقدت الكثير من البشرية صوابها، وأصبح التخبط  يسود شرقًا وغربًا والاتهامات المتبادلة هنا وهناك عن سببها، ومن المسؤول عن وجودها، كما أصبح التعامل الإجتماعي بين الناس محظورًا، لدرجة أن الكثير من الناس يبحث عن المفر لمجرد علمه بأن من بجانبه لديه هذا المرض حتى و لوكان أقرب الأقربين إليه، وكأنه يوم القيامة (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَـحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِىء مِنْهُمْ يَوْمَئِذ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) (عبس: 34-37)

إن هناك الكثير من الناس قد تستغرقها اللحظة الحاضرة، وما فيها من أوضاع وملابسات، وقد تغلق عليها منافذ المستقبل، فتعيش في سجن اللحظة الحاضرة، وتشعر أنها سرمد، وأنها باقية، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويطاردها… وهذا سجن نفسي مغلق مفسد للأعصاب في كثير من الأحيان.

هل كانت كورونا عقاب من الله؟

إن كان هذا كله نتاج فعل البشرية وما قدمته لنفسها من أعمال (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)  ( الروم: 41) ولكن الله يريد أن يبعث في البشرية الأمل، (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) ( الزمر: 53)، ( وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ( يوسف: 87)

ولكن أين المفر؟

يقدم لنا الله، خالق كل شيء، الأمل والحل في أبسط ما يكون ، ويبشرنا ربنا ورب كل شيء بالمبشرات في سورة الطلاق، إشعاعات روحية نورانية تضيء النفس البشرة في هذه الظلمات والتشاؤمات التي تلف حيات البشرية المنكوبة.

لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ ِكَ أَمْرًا ( الطلاق: 1)، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (3)، (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا )(4)، (ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)، (سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا) (7)

إن هذه المبشرات تأتي في سورة الطلاق، هذه الكلمة ( الطلاق ) التي قد توحي للإنسان بتصورات: أن في ذلك انقطاع ونهاية الطريق، وتوقف الحياة وركبها، وإنقطاع الأمل، وظلمة المسير. وإلى ذلك من وسوسة الشيطان للإنسان، مما يشل تفكيره ويفقده الأمل.

الآيات القرآنية تخفف من حدة الرعب وتطمئن القلوب

في خضم كل ذلك تأتي رحمة الرحيم من رب قدير، يبشرنا بهذا الأمل الذي لا ينقطع مداه، وتحول من حال إلى حال، من نقيض إلى نقيض، أخي المسلم تمعن هذه المبشرات ودقق فيها طويلًا، وكرر النظر فيها، وأطلق العنان لفكرك لتعيش إيحاءاتها، وتستظل بما فيها من نداوة وطلاوة.

إن الإنسان ليقف مبهورًا أمام هذه الآيات التي تلقي بظلال الرحمة والأمل وسكينة النفس وروح السعادة الغامرة لمجرد الوقوف أمام إيحاءاتها، (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ ِكَ أَمْرًا ( الطلاق: 1)، إنها لمسة موحية مؤثرة، فمن ذا الذي يعلم غيب الله وقدره المخبوء، إنه يلوح هناك أمل، ويبرز هناك رجاء، قد يكون الخير كله، قد تتغير الأحوال وتتبدل إلى هناءة ورضى، فقدر الله دائم الحركة، دائم التغيير، ودائم الأحداث، فالأمل في الله لا ينقطع.

القرآن رسائل أمل متجدد

الله يريد أن تتطلع نفوس البشرية إلى ما يحدثه الله من الأمر متجدداً ودائماً، ولتظل أبواب الأمل في تغيير الأوضاع مفتوحة دائمة. ولتظل نفوسهم متحركة بالأمل، ندية بالرجاء، لا تغلق المنافذ ولا تعيش في سجن الحاضر. واللحظة التالية قد تحمل ما ليس في الحسبان… {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً}… فقدر الله دائماً يعمل، ودائماً يغير، ودائماً يبدل، ودائماً ينشئ ما لا يجول في حسبان البشر من الأحوال والأوضاع، فرج بعد ضيق، وعسر بعد يسر، وبسط بعد قبض، والله كل يوم هو في شأن، يبديه للخلق بعد أن كان عنهم في حجاب.

إن الله يقدم لنا خطة بسيطة للتحول إلى أفضل حال “اقرأ”

  • وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ
  • وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
  • وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ
  • وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
  • لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)

كيف ينعكس التوكل على الله تعالى على نفسية الناس في زمن كورونا؟

إنها السير على منهج الله وليس السير على منهج الشيطان وهوى النفس، إنها تقوى الله، والتوكل عليه، والعمل قدر الطاقة التي أعطاها الله للإنسان، فالله يعد المتقين بالفرج والسعة في الدنيا بأكبر وأسمى ما يتطلع إليه المؤمن، ويعده مخرجاً من الضيق في الدنيا والآخرة، ورزقاً من حيث لا يقدر ولا ينتظر، وهو تقرير عام، وحقيقة دائمة.

والتوكل على الله، وهو كافٍ لمن يتوكل عليه، فالله بالغ أمره، فما قدر وقع، وما شاء كان؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر، وقوة القاهر، الفعال لما يريد. البالغ ما يشاء، والعمل قدر المستطاع، (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آَتَاهَا.)

ومن ثم يأت فرج الله واليسر في الأمور وهي غاية ما يرجوه إنسان، وإنها لنعمة كبرى أن يجعل الله الأمور ميسرة لعبد من عباده. فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيقة، يأخذ الأمور بيسر في شعوره وتقديره، وينالها بيسر في حركته وعمله، ويرضاها بيسر في حصيلتها ونتيجتها، ويعيش من هذا في يسر رخي ندي، حتى يلقى الله…

نفحة من سورة الطلاق

يعقب هذا كله التذكير في هذه السورة بنعمة الله الكبرى للبشرية إنه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه من النور، والوعد من الله بالأجر الكبير: {فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا، قد أنزل الله إليكم ذكراً: رسولاً يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور، ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيهآ أبداً قد أحسن الله له رزقاً}… إنها تقوى الله، تقوى الله… ولا بديل عن ذلك.

بقلم: أ.د/ فؤاد محمد موسى عبد العال

أضف تعليقك هنا