بين الأدب والصراع

ينشأ الطفل في أحضان أبيه وأمه، كالفرخ الصغير في العش بين جناحي أبويه، يظللانه ويطعمانه ويرعيانه، فيكبر يومًا بعد يوم، رويدًا رويدًا، وهما يستبطئان الأيام، ويحلُمان به فتيًّا قويًا، ولو قفزت بهما الأيام فرأياه شابًا في ريعانه وعنفوانه.

دورة الحياة مابين الولد والأب

هذا أقصى أمانيهما، فليس للزمان مفهومه الآخر الذي يجعل منه عجلة تدور بسرعة قصوى لتحصد الأعمار، وتسير بالآجال إلى نهايتها، ولو كان له هذا المفهوم، فإنهما لا يأبهان به، فحاجتهما مؤخَّرة، وعمرهما أوقات انتظار حرّى كتلك التي يكون فيه العاشق الولهان في انتظار معشوقه، بل أشد؛ لأن حاجة العاشق أن يظفر من محبوبه ببغيته، فهو يطلبه لنفسه ورغبته، أما هما فلأجل هذا الولد، ولأجل أن تقر عينه هو بما يحصل له من فتوة ومجد، حتى وإن لم يدركا هما شيئًا من ذلك، فقد يقصف الموت العمر، ويودي بهما القدر.

عطاء بلا حدود

رحلة تمر بالنسبة للأولاد كلحظات سكر مخمورة، لا يُفيقون منها إلا مرة واحدة، بعد أن تنقضي، فتتفتَّح عيونُهم على حقائقَ قاسيةٍ، وتنفتق مدراكهم على واقع جديد، قد يفهمون ما انفطرت فيه قلوب الآباء وهم يحاولون إفهامَهم إياه، ويرون للأشياء وجها آخر، وللحياة صورة أخرى، وللنهار والليل معنى آخر، وتدور الأيام دورتها، فيجدون أنفسهم في الصراع نفسه مع جيل جديد، وهنا تكون الحقيقة آكد، وأكثر سطوعًا وقوة، وربما أشد إيلاما على من طالت غيبوبته، واستطالت لحظات سكره، فلم ير في هذه الرعاية التي تشبه رعاية الطائر لفرخه، وفي كل توجيه وتقويم وتسديد إلا شيئا من التضييق والكبت.

تبدأ هذه العلاقة الفطرية، التي لا تقوم على شيء من التكافؤ في العطاء والمشاعر، بل تقوم على فلسفة اللذة في العطاء بلا حدود، فهي الحياة والفطرة والجبلة، التي تجعل لحلاوة العطاء بلا مقابل أثرا في القلب وفي الفم عذبا مستطابا، فتبدأ منذ الولادة، بل قبلها حين تكتنف الأبوين مشاعرُ القلق، وتلذعهما مرارة الانتظار، وحين يكون حمل الأم وهنا على وهن، وبعد الولادة من الرضاعة والرعاية والتنشئة والإنفاق ما ينفد فيه مداد البحار، حتى يستوي هذا النبت الصغير ويستغلظ عودُه، وهنا تكون إحدى بدايتين، بدايةٍ من الإدراك والفهم والنظر بعين الاعتبار والتقدير والإجلال إلى مَنْ رَعَى العودَ وسقى الجذور بماء القلوب والأكباد، أو بدايةٍ من الإنكار والجحود والتمرد لهذا الإنسان على مَن أقاما حياته، وعملا على ملئها بكل ما يكون سببا في سعادته، وإن فهقت كأس حياتهما بالآلام والأوجاع.

نماذج من فرط حرص الأبوين على أولادهما

أشياء صغيرة قد ينخلع فيها قلب الأبوين، فماذا عن الكبير منها؟، ماذا عن ساعات المرض؟، ماذا عن النجاح والفشل؟، ماذا عن الحزن والفرح؟، ماذا عن كذا وكذا…، إن اللقمة الصغيرة التي يتمنّع الطفل أن يأخذها، ويلفظها من فمه، قد تكون جمرة لاذعة لفؤادهما، وإن المرض في بدنهما أهون وأخف إيلاما منه في بدنه.

رسالة

إنها رسالة إلى الصغير والكبير، ولا سيما الشباب، عسى أن يدركوا معناها، ويفهموا مغزاها، ويعلموا أن أشدَّ لحظات التضييق في ظنهم، وفي رؤيتهم، التي لم تنضَج، هي مشاعرُ متدفقة من الحرص والعطف والحنان في أسمى معانيها، قد ينفر الابن حين يعنفه أبوه على إفراطه في شيء ما، ربما يحبه، وقديما قالوا: “حُبُّكَ الشيءَ يُعمي ويُصِمُّ”، كالجوّال مثلا في يديه، الذي يأخذ منه أكثر مما يعطي، يخرج فيه من شيء ليدخل في شيء آخر، دون أن تتحقق له فائدة، أو يجني منه ثمرة، فيرى ذلك تحكُّما وتسلطا وتضييقا، وما هو إلا الشفقة نفسها، والرحمة نفسها، أرأيت أبا أو أمّا يرغبان إلا في وصول الولد إلى كمال الأدب؟.
إن هذه الرعاية أشبه برعاية الله لخلقه، فكما أن الله منع وحرّم، وألزم وأوجب، وترك للإنسان حرية الاختيار في غير ذلك، لا ليعذبه أو ليكدر عليه عيشته، بل ليصلحه ويسعده، فكذلك هما ما كان ذلك منهما إلا رغبة في بلوغ غاية الكمال الأخلاقي والتمام البدني والروحي، ولذلك قال سبحانه: ” وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا” (الإسراء: 23).

أسباب قلق الوالدين

في عصر انفتحت فيه آفاق تثقيفية كثيرة، كان الأبوان أكثر خوفًا وقلقًا، أو هكذا يجب أن يكونا؛ لأننا نعيش عصرًا من التحديات والانفتاح والتلاقح الثقافي والمعرفي، والتغريب الفكري، لا مثيل له، إذ حلّت بأرضنا أفكار غريبة، ودخلت عليها سموم كثيرة، يجب معالجتها، حتى لا تفسد بذورها، وتنمحي ملامح أصالتها، فما هي إلا مقدمات من الاستسهال والتنازل تقود إلى ما بعدها، فإذا انفرط العقد، وتبعثرت حبّاته، لم يكن إلى معالجة ذلك من سبيل.
يبقى الإنسان على درجة من الصدق والقوة، ما دام ينزع إلى أصله، وينقاد لفطرته السوية، ويسترجع قيمة أبويه في نفسه، وقيمة الحكمة والصبر والعطاء والحب، فيظل حافظا لهما، ذاكرًا فضلهما، مصححًا ما وَهِمَ فيه، وما خدع فيه، بفعل النزق أو الشهوة أو ضيق الأفق، وقلة الخبرة والتجربة.

( اقرأ المزيد حول موضوع قضايا مجتمعية في موقعنا، وشاهد مقاطع فيديو موقع مقال على يوتيوب )

فيديو مقال بين الأدب والصراع

 

أضف تعليقك هنا