شيختنا العالمة الدكتورة عطية بنت خليل الأنصاري

ليست اللغة العربية لسان تخاطب في بعض الدول الإسلامية، لكنّها لسان علم في معاهدها ومدارسها العتيقة، ومَن طالع الكتب العربية المؤلفة في هذه البلدان وقرأ مقررات الدراسة في مدارسهم عرف قيمة العربية عند هؤلاء، وجهدهم في سبيل نشرها والنهوض بعلومها.

ما السبب الكامن وراء أهمية وسلاسة اللغة العربية؟

مما ذكره الأديب الأستاذ عبد الوهاب عزام في كتابه “الشوارد” أنه زاره شيخ ربعة قوي في دار السفارة بكراجي -وكان سفيراً لمصر في باكستان-، وتكلم الرجل معه بلغةٍ عربية معربة فصيحة، لا يتردد في كلامه ولا يتوقف عنه، وأخبره أنه مدرس لتعليم اللغة العربية في هذه البلاد لغير الناطقين بها.

دار حديثٌ بينهما حول اللغة العربية، وكان هذا الرجل يؤمن بسهولة تعلم اللغة العربية، وأنها أسهل اللغات تعلماً وتعليماً، ويُرجع ذلك لسببين: الأول: أن الله عز وجل اختارها لدينه، وهو سبب شرعي، والآخر: التجربة شاهدة بذلك، وهو سبب فني، ولا شك أنها شهادة رجل خبير مارس تدريس اللغة العربية للناطقين بغيرها، فهي شهادةٌ عن تجربة ومعاناة، حيث تعلم العربية في الهند وعلمها، فلم يقم بين العرب.

هذا الشيخ هو الشيخ خليل بن محمد بن خليل الأنصاري حفيد العالم الكبير والمحدث المشهور حسين بن محسن الأنصاري،  وأصله من اليمن، نزل الهند بطلبٍ من علمائها، وقد قامت المودة وتعددت الزيارات واللقاءات العلمية بينهما، ومما ذكره الأستاذ عبد الوهاب في كتابته أن للشيخ خليل بنتاً تتكلم العربية، وتتميز لغتها بأنها فصيحية معربة، وأنه قرأ لها رسالة عربية امتازت بالفصاحة والبيان في كتابتها.

نبذة عن الدكتورة عطية بنت خليل بن محمد الأنصاري

هذه البنت التي ذكرها هي أستاذتنا العالمة الأديبة المسندة الدكتورة عطية بنت خليل بن محمد الأنصاري الخزرجي، وهي كأبيها تتكلم اللغة العربية الفصيحة المعربة، ولها الكثير من الأعمال العلمية والأدبية، وتعلقٌ وشغفٌ بالأدب واللغة.

بدأت الدكتورة عطية حياتها العلمية مبكرة، وقد تكلمت عن ذكرياتها الأدبية في الطفولة خصوصاً ما كان بينها وبين شيخها عبد العزيز الميمني في بحثٍ خاصٍ نشر في مجلة “ثقافة الهند” سنة 1994م، ومما ذكرته أنها فتحت عينيها في بيت أبيها محل رحل وزيارة كبار العلماء من مختلف البلدان على الأدب وحب العربية، فنشأت في هذا البيت العامر بالعلماء والمعرفة.

جالست في صغرهها الأساتذة الكبار، ومنهم شيخها الكبير عبد العزيز الميمني، فأخذت عنه الكثير، وكان يخصها بكثيرٍ من الطرائف العربية النادرة، والنكت والفوائد العلمية، وكانت تُعينه على نقل ما يحتاجه من كتبٍ من مكتبة أبيها، وفي هذه الأسرة العلمية كانت تحضر مناقشات علمية وأدبية بين أستاذها الميمني وأبيها الشيخ خليل وأختها الكبرى الأستاذة رقية بنت خليل الأنصاري، حيث كانت هي الأخرى شغوفة بالأدب العربي.

أعمال الدكتورة عطية ومآثرها

خلدت لنا أستاذتنا عطية الأنصاري سيرة شيخها الميمني في مقالها، كاتبة عن أسلوبه في اللغة العربية، وأنه ممن اندمج في كيان اللغة العربية، وتعرف على أسرارها، وحل رموزها المستعصية، وكمل نواقصها المشوهة، كما بينت تميز أسلوبه باستعماله الكلمات العربية القديمة، فكثيراً ما كان يلتزم المحسنات البديعية والسجع في كلامه.

اهتمت الأستاذة أيضاً بعلم الرواية والإسناد، فأخذت إجازة الرواية عن شيخها الأستاذ الميمني، وكتب لها بخطه: “وقد أجزت عطية بنت صديقي المرحوم الشيخ خليل بن محمد بن شيخنا الراوية الرحالة السند حسين بن محسن، إذ تروي ما أرويه عن جد أبيها” وكانت هذه الإجازة بمدينة كراتشي في بيت أبيها آخر شهر شوال سنة 1393، يوافقه أول ديسمبر سنة 1973م.

عُرفت بعد ذلك في الأوساط العلمية العربية بالأديبة العالمة والأستاذة المسندة، وقد وصفها بالشيخة العالمة غير واحد منهم شيخنا الأستاذ الكبير صالح بن عبد الله العصيمي كما حدثني بذلك، وشيخنا الأستاذ الدكتور عبد السميع الأنيس، وكتب عنها بعد اجتماعه بها:  “أنها تتكلم العربية بطلاقة، وتتميز بحدة الذكاء، والنباهة، والعلم، لا سيما اللغة العربية”.

ولشغفها بعلوم العربية -قراءة وتحدثاً وكتابة- أتقنت ترجمة الكتب، فكانت تحسن الترجمة من اللغة العربية إلى الأوردية، وقامت بترجمة عدة أعمال عربية، منها  كتاب “دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وأذكاره في الصباح والمساء” لشيخنا عبد السميع الأنيس، وطبع كتابها في دبي.

وفاتها

توفيت شيختنا بعدما أجزلت عطاءها للغة الضاد بعد حياةٍ حافلةٍ بالعلم ولقاء الأدباء ليلة الإثنين 21 من شهر جمادى الأول سنة 1437 يوافقه أول شهر مارس سنة 2016م، ودفنت في مقبرة الشارقة بدولة الإمارات العربية الشقيقة، وبموتها طوي تاريخٌ حافل من تاريخ الأسر العلمية الذي طالما أسفنا على فقدان هذا التاريخ المشرف من الأمة.

أجازت لي الشيخة العالمة عطية بنت خليل الأنصاري ما ترويه عن مشايخها، وهي تروي بالإسناد المتصل إلى دواوين الإسلام وأعلام المسلمين عن شيخها الأستاذ عبد العزيز بن عبد الكريم بن يعقوب الميمني، وأبيها الشيخ خليل بن محمد بن حسين الأنصاري، وكلاهما يرويان عن جد أبيها المحدث الفقيه حسين بن محسن الأنصاري بسنده المشهور.

طيب الأثر

إحياءً لذكرى هذه العالمة الكبيرة فإني أروي من طريقها حديث قبض العلماء بالسند المتصل إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أخبرتني العالمة المسندة عطية بنت خليل الأنصاري (ت1437) إجازة، عن والدها الشيخ خليل وأستاذها عبد العزيز الميمني إجازة، عن جد أبيها حسين بن محمد الأنصاري، عن الحسن بن عبد الباري الأهدل، عن الوجيه عبد الرحمن بن سليمان الأهدل، عن والده سليمان بن يحيى بن عمر الأَهْدَل وعمه أبي بكر وإسماعيل بن محمد الرَّبَعيُ وابنه أحمد عن أحمد بن محمد شريف الأَهْدَل، وزاد الأولان: وعبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي،

عن يحيى بن عمر الأَهْدَل، وزاد المزجاجي: ومحمد بن أحمد بن عقيلة، عن حسن بن علي العجيمي، عن عيسى بن محمد الثعالبي، عن سلطان بن أحمد المزَّاحي، عن أحمد بن خليل السبكي، عن محمد بن أحمد الغيطي، عن زكريا بن محمد الأنصاري، عن إبراهيم بن صدقة الصالحي، عن إبراهيم بن أحمد التنوخي، عن أحمد بن أبي طالب الحجار، عن الحسين بن المبارك الزبيدي، عن عبدالأول بن عيسى السجزي، عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، عن عبد الله بن أحمد السرخسي، عن محمد بن يوسف الفربري، عن محمد بن إسماعيل البخاري، قال: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا» قَالَ الفِرَبْرِيُّ: حَدَّثَنَا عَبَّاسٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ هِشَامٍ نَحْوَهُ.

الإسناد إلى ثبت الشوكاني

أروي كذلك ثبت الشوكاني من طريقها، فعن شيختنا الدكتورة عطية بنت خليل الأنصاري (ت1437)، عن أبيها خليل بن محمد الأنصاري، عن جده حسين بن محسن الأنصاري (ت1327)، عن الشريف محمد بن ناصر الحازمي (ت1283)، عن القاضي محمد بن الشوكاني (ت1250).

(ح) وبسندٍ أعلى مما سبق أرويه بسندٍ ثلاثي عن شيخنا السيد عبد القادر بن أحمد السقاف (ت1431) عن السيد محمد بن سالم السري (ت1346) عن الشريف محمد بن ناصر الحازمي (ت1283) عن القاضي محمد الشوكاني (ت1250)، إلى غير ذلك من الأسانيد إلى هذا الثبت.

لئن كتمتُ أحزاني على هذه العالمة الكبيرة التي كانت في صدارة المشتغلات بالأدب العربي في عصرنا الحديث، فعزائي في فقدها هذه المحاولة لتعريف الناشئة بها وبأسرتها العلمية وإنْ شابها القصور، وقد يؤرخ لها مستقبلاً من غيري بأفضل مما كتبته، وحتمٌ علي أن أعتذر لها عن هذه الكتابة وتأخرها؛ لأن عطية الأنصارية تحتاج دراسة أعمق من ذلك، وحسبي أنّي حاولت.

فيديو مقال شيختنا العالمة الدكتورة عطية بنت خليل الأنصاري

أضف تعليقك هنا