إنفجار مرفأ بيروت يدمر متحف ذاكرتها (مع ملحق بالهبة اليابانية لمتحف سرسق لعام 1966)

متحف سرسق: الخراب والدمار في حضرة التراث والعراقة؛ رغم تخصصي بالدراسات اليابانية إلا إن تاريخ وطني لبنان وتراث مدينتي بيروت يبقى جزءاً من كياني الذاتي وأصلاً ثابتاً من هويتي الثقافية التي أعكسها من خلال مسيرتي الأكاديمية. وبعد تحية الإجلال والتقدير للشهداء والجرحى، فإن المُصاب الأليم طال أيضاَ تراثتنا وتاريخنا وحضارتنا، والذي يختصر متحف سرسق ومحتوياته الثمينة.

بيروت في التاريخ

تاريخياً، ومع أواخر القرن التاسع عشر كانت ولاية بيروت العثمانية في أوج تألقها، حيث أن مرفأها هو الرئيس في الحوض الشرقي للبحر المتوسط، رغم المنافسة الحامية مع مرفأ حيفا. ولكن ما ميز بور بيروت هو قربه من الداخل الشامي وحاضرته دمشق. ولا شك ان سكة الحديد الحجازية ساهمت في سرعة الإستيراد والتصدير، وفقاً لمعايير ذاك الزمان.

هذا الرخاء الإقتصادي رافقه رفاهية في نمط العيش، تجلى خصوصاً في بناء القصور (أو الفلل) طبقاً للتصميم المعماري الإيطالي ذي التوجه الجمالي الفني. إن عائلة سرسق الكريمة هي أصيلة في تاريخ مدينتنا ولها إسهاماتها العمرانية والمالية والثقافية، وكثيراً سمعت من المرحوم والدي أخبار الخواجة نقولا واللايدي إيفون سرسق وعلاقاتهم مع بيت الداعوق الكرام، خصوصاً في النصف الأول من القرن الماضي، وكذلك كانت الحكايات نفوذهم في الأشرفية والمرفأ، وأيضاً محبتهم التي وصلت إلى عين المريسة ورأس بيروت. ولطالما كان الوالد يدندن في لحظات هزاره أرجوزة الفنان الشعبي البيروتي القديم عمر الزعني، الشهيرة آنذاك:

لو كنت حصان في بيت سرسق***باكل فستق باكل بندق

قصر سرسق

قصر سرسق، بناه نقولا إبراهيم سرسق عام 1912، وهو كان ذواقة ومحباً للفنون. فأوصى بنقل ملكية قصره ومحتوياته إلى مدينة بيروت، شرط أن تحوِّله إلى متحف للفنون الوطنية والعالمية، يساعد على نشر المعارف الفنية، ويدعم الفنانين اللبنانيين ويعرض أعمالهم ويروِّج لها. مع كل معلومة جديدة كان الجذب الثقافي يتعاظم تجاه هذا الحلم الرائد، بداية مع وصية الواهب السيد نقولا سرسق والتي جاء فيها (الترجمة عن الإنكليزية):

“لذلك فإني أهب بهيئة وقف هذا العقار والمتحف الذي يحتويه من فنون وآثار حديثة وقديمة، من لبنان والدول العربية وكافة أنحاء العالم، مع تخصيص مساحة للفنانين اللبنانيين لعرض نتاجهم. مع التأكيد على إستمرارية هذا المتحف دائماً وأبدا…”.انتقلت ملكية القصر إلى بلدية بيروت بعد وفاة صاحبه عام 1952. غير أن وصيته لم تُنفذ، إذ أمر رئيس الجمهورية كميل شمعون بتحويل القصر إلى مضافة رسمية لاستقبال الملوك ورؤساء الدول الذين يزورون لبنان. ولكن في خلال حكم الرئيس فؤاد شهاب، وهو عهد المؤسسات، تم تنفيذ الوصية وتحول القصر الفخم إلى متحف أنيق عام 1961. افتتح “بـمعرض الخريف” الذي أصبح تقليداً سنوياً بعد ذلك. وتوالت فيه المعارض الكبرى المحلية منها والعالمية، من “الفن الإسلامي في المجموعات اللبنانية الخاصة”، إلى “الفن البلجيكي المعاصر”، وعوضات السجاد الشرقي الموسمية، وبالتأكيد الهدية اليابانية عام 1966، وهي عبارة عن 15 لوحة رسم خشبية (木版画 mokuhanga) [1] تعكس الفن الياباني الأصيل في أبهى تجلياته [2]( كوني متخصصاً بالدراسات اليابانية، سأرفق ملحقأً بالرسوم اليابانية الخمسة عشر الموجودة في المتحف آخر هذه المقالة).

مخلفات الحروب وآثارها على الإرث الإنساني

الحرب الأهلية (1975 – 1990) ألقت بظلالها وأضرارها على المتحف. ولكن عام 2015 تم إعادة ترميمه وتوسعته وزيادة طوابق وأجنحة إليه على يد المهندسين اللبناني جاك أبو خالد والفرنسي جان – ميشال فيلموت، وتحوّل إلى تحفة معمارية في جماليته. فبعد جهد استغرق 7 سنوات، وكلفة وصلت إلى 14 مليون دولار، وبإبهار بصري جمالي مع نقاء صوتي أوبرالي في صرح معماري تراثي يحتوي على مخزون حضاري ثقافي،. كلمة الرئيس معالي الدكتور طارق متري، رئيس “لجنة متحف سرسق” ، خليفة الرمز غسان تويني في تحمل الأمانة، “أننا لدينا مجموعات من المقتنيات في متحف سرسق هي في عهدتنا ونحن مؤتمنين عليها” وستسمر المسيرة لخدمة النهوض الثقافي للبنان وعاصمته، التي عنونت بلديتها بأن المتحف “مدعاة فخر وأَلق لبيروت كونها المركز الثقافي والأدبي للعالم العربي رغم كل المآسي” شاكرة “الحاج نقولا سرسق” كونه متعالياً في وصيته عن الحزازيات الطائفية والمذهبية واهباً إرثه الحضاري لمدينته وأبنائها بجميع طوائفهم من أجل لبنان الحضارة ومنبع الثقافة.

ترميم الآثار للحفاظ عليها

خلال الترميم، استحدث في المتحف أوديتوريوم بـ164 مقعدًا مخصصا للعروض السينمائية والمحاضرات، كما صُمّمت مكتبة متخصّصة للأبحاث فيها عدد كبير من الكتب والملفات وتضم أجهزة كومبيوتر مخصصة للزائرين. وضمت “الصيغة “الجديدة للمتحف أقساما مجهزة بأفضل التقنيات لحفظ الأعمال الفنيّة وترميمها. إضافة إلى ذلك ابتُكرت مساحة واسعة لورشات العمل الفنية المختلفة. وتم انشاء متجر ومطعم ضمن حديقة الدار السكني السابق، الذي يمثّل أيقونة معماريّة بيروتيّة أصيلة، لم يكن ينقصها إلا نافورة ماء كبيرة في وسط بركة تضفي سحراً  بصريا ًعلى المشهد العام.

يُمكن تقسيم المعروضات العديدة في المتحف إلى قسمين اثنين: يحمل الأول عنوان “بيروت”، التي وصفها المصور الفرنسي ماكسيم دو كامب في سطور قليلة: “أما بيروت فلا مثيل لها.. هنا يعتكف التأمليون والخائبون والمتأملون في الحياة.. يبدو لي أن المرء يستطيع العيش سعيداً هنا مكتفياً بالنظر على الجبال والبحر”.

بيروت الحديثة

يقودك معرض عن المساحات العامة في بيروت “الحديثة” في الطابق الأرضي إلى بيروت “أقدم” في الطابق السفلي الثاني. هناك يتابع الزائر تطور مدينة بيروت التي تحولت من إحدى المدن الساحلية الكثيرة على البحر المتوسط إلى عاصمة لبنان الكبير. يتميز هذا القسم بتقديم تطور بيروت بعيون المُستشرقين الفرنسيين الذين تحولوا إلى سلطة انتداب مع انهيار الخلافة العثمانية. رصدت عدسات هؤلاء وريشهم الفنية بناء مرفأ بيروت وتوسعته، ثم زيارة الإمبراطور الألماني غيليوم الثاني وأسطوله المهيب عام 1850. ثم امتداد الطرقات من المرفأ إلى القلاع القديمة وتفرعها في المناطق الساحلية كـ: الكرنتينا، المدور، الزيتونة، ومينا الحصن، نحو داخل المدينة، ثم المدافن وحرج بيروت، وصولاً إلى الضواحي. وهي المناطق التي وصلتها خانات توزعت حول بيروت في الحازمية وفرن الشباك وبئر حسن والبرجاوي وشاتيلا. ولم تغب صور ولوحات حمامات المدينة التي تُذكر بالطابع العثماني، ولا مدارس الإرساليات الغربية التي افتتحت فروعها في بيروت.

خلال زيارتي السابقة، أدهشتني الصور واللوحات الأصلية لمدينتي، خصوصاً الرؤية الفنية للمستشرقين، ففيها وجوه الناس، مسالك الطرقات، مآذن المساجد، أجراس الكنائس، بيوت الأهالي والأهم البحر وأمواجه وسفنه وصياديه. في كل برواز ألف قصة وقصة لا تعكس الشخصية المقصودة الرئيسية فقط، بل تكشف آلاف التفاصيل المحيطة بها، لدرجة أنها تبوح بأسرارها لأصحاب العيون الخبيرة الذين لديهم البصيرة إضافة إلى البصر.

لم ننتهِ بعد بالحديث عن بيروت…

يزيد الإعجاب بعد الدخول من باب الصرح حيث تجد نفسك في رحلة عبر الزمان والمكان في تاريخ مدينة بيروت منذ عقود. ولفتني عندما ذرته تفصيل تاريخ الملاعب الرياضية في مدينتي لدرجة أدهشتني، فعرفتني على من أنشأ ولعب على رمل أرض جلول ووطى المصيطبة والكرنتينا وسن الفيل، وهي الملاعب التي لعبت ودربت وشاهدت عشرات المباريات على أرضها، ولم أعرف تاريخها حتى تلك اللحظة.

إلى القسم الثاني، حيث تقدم بيروت نفسها بصفتها مدينة للفن المعاصر، فـ “المدن كالأحلام تصنعها الرغبات والمخاوف، وإن كان خيط سريرتها سرياً، تبقى قواعدها عبثية..”، كما قال الشاعر الإيطالي. ويا لجمال لوحات الفن الحديث، والتي تمتد فترات رسمها طوال خمسة عقود واكب فيها المتحف ولادة النمط التجريدي في الرسم. وهي تعتبر ثروة علمية لأي باحث يرغب في التعمق في التاريخ والتراث اللبناني أو يكون متذوقاً للفن العالمي ويرغب خوض غمار البحث والكتابة عنه لتعريف القارئ العربي عن ثمرات فنون الأمم المتقدمة.

عراقة وأصالة

يجد القيمون على هذا المتحف الذي يعد من بين الأشهر في العاصمة اللبنانية، أنه يعود مرة أخرى إلى نقطة الصفر. فقد عصف الانفجار -بالمكان الذي يبعد ما يقارب ميلاً عن المرفأ- بالنوافذ والأبواب المشغولة بعناية فائقة، وبالزجاج الملون الذي كان يمنحه سحراً خاصاً في الليل. فأضرار متحف سرسق شاملة ولا تحصر بـ 20 إلى 30 عملاً فنياً. التنقيب يكشف كل يوم عن خسائر جديدة. ولا يجرؤ محبو المتحف سوى أن يتمنوا “النجاة” لـ 5000 قطعة فنية من لوحات وتماثيل ومنحوتات وإيقونات تعود للقرنين التاسع عشر والثامن عشر.

وأن يتمنوا تصدّعات أقلّ في عمارته العريقة التي تدمج عناصر إيطالية وعثمانية، كانت نموذجية في نمط بناء فلل وقصور لبنان في مطلع القرن. ويتمنون أن أذىً أخف قد أصاب الصالون العربي حيث كان سرسق يستقبل ضيوفه. وأن الخشب الدمشقي المنحوت باليد، الذي يشكل جدرانه وسقفه، لم يتهاوَ برمّته. وأن يكون ما تهاوى صالحًا للانقاذ، بدون أن يفقد أصالته، في متحف سرسق، حيث كان يمكن إعادة إكتشاف روعة المكان مع هندسة حدائقه وجمالية المنظر الطبيعي الذي يذكر ببيروت الأمس التي تفجر قلبها واستشهد فلذات أكبادها، والتي غزتها غابات الإسمنت وفوضى البناء، وتزكمها هذه الأيام رائحة النفايات.

ملحق المعروضات اليابانية في المتحف

1- https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0289_0.jpg?itok=ZKXNyfH_

2-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0290_1.jpg?itok=szDxXtwz

3-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0291_0.jpg?itok=-wNpFDpz

4-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0292_1.jpg?itok=CeQ-cgMq

5-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0293_0.jpg?itok=O2MsIEg9

6-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0294_1.jpg?itok=uK3rP44k

7-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0295.png?itok=tAnkbfQp

8-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0296_0.jpg?itok=__NkEdyl

9-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0297_0.jpg?itok=ZGglKXe5

10 -https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0298_1.jpg?itok=PHvFLhOh

11-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0299_0.jpg?itok=3-ljBvuu

12-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0300_0.jpg?itok=7CclNMDD

13-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0301_0.jpg?itok=t9vWxoJ1

14https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0302_1.jpg?itok=aBgdUKFI

15-https://sursock.museum/sites/default/files/styles/collection_thumb/public/header_hag_0303_0.jpg?itok=tyMCOA_o

فيديو مقال إنفجار مرفأ بيروت يدمر متحف ذاكرتها (مع ملحق بالهبة اليابانية لمتحف سرسق لعام 1966)

 

أضف تعليقك هنا