العنوان يكمن فيها – #قصة

في التاسعِ من نيسان في الثامنة والأربعين من القرنِ العشرين ،يقولونَ عَن كَذبةٍ في هذا الشهر ،وَكانتْ الظُلمةُ التي حلّتْ علينا أكبرَ حقيقةٍ لا زلنا ننكرُها ونقولُ لها كَذبة ،نحنُ الذين ذُقنا الموتَ هنا ،أمسكَ الموتُ بنا بكلتا يديه ،شدَّ على رقابِنا حتى ذُقنا الويلات ،كنّا حُزانى، نشدُّ على أسناننا بالقدرِ الكافي ليقولَ عنّا مَنْ لا يعرفُنا، لقد امتلأ سواداً ،يا حسرتَه ماذا ذاق؟ ذاق الموتَ أيها الفتى فلا تراهن. (قصة الصمود ضد الظلم). (اقرأ المزيد من المقالات على موقع مقال من قسم قصة)

من نحن؟

نحن المنسيّون في الغروب أيّها العالم الذي يحيا إشراقةَ الصباح ،لمن لا يعرف ،نحنُ الذين نُسينا هنا خلف الجدار ،ولكن ليشهدَ اللهُ أنه لم تصبنا عاصفةُ الضعف ، واللهِ إنّا كنّا كالصخر الصلب ،كالشوك القاسي الذي يؤذي الريح ولا تؤذيه ،كنا أجمل من أن نُؤذى واهدأُ من أن نُلقى في قعرِ جهنّم، وكُنّا أصلبُ من أنْ نبكي نُحاباً على جُثةِ طفلٍ في طرفِ الشارعِ لا تعرفُها كَجثة بل دماء وجسد مدهوس جداً ،لأن يقينُنا التام بأن الروحَ هناكَ عالياً في السماءِ فرحة بالجنة بما آتاها الله ،فَبُشرى لها.

قصة الصمود ضد الظلم

لقد كنتُ هناك في أكثرِ بقاع الأرض اخضراراً ،حباً ،أماناً وترابطاً ،أغفو بلا أذى ،وأصحو بشعور الحرية، كانت وطن ، ابنتي الأولى والأجمل، أسميتها وطن ، لكي ابقى بها وتبقى بي ، لكي تكون منفاي وكل ملاجئي، تكون وطناً دائماً ، أينما حللتُ حلّتْ معي.
أمسكُ بيدها ونذهبُ بين الأشجارِ في الحقل الذي زُرع بالحُب ، بُنِيَ بالحُب ، بلمسةِ أمٍّ هادئة تأخذُكَ إلى أعماق رُوحِها وتُشعركَ بأنها هنا رغم كلّ الرَحيل ،ويَد أبٍ قويّة ، يدُ جدٍّ كبيرة تضيعُ يدُكَ بها وتتعرّقان معاً ،عِناقُ اخوة ، طيور الحرية التي تؤكدُ أنها سَتأتي لا محالة.

السرطان المظلم الذي احتلّ المدينة

كنّا هناك نحيا بالحب ،لا نأذي ولا نُؤذَى، لا نكرهُ ولا نُكرَه، لا نقتلُ ولا نُقتَل ونبغضُ الشرَّ ونأمرُ بالخير ،حتى نما مِن أَعماقِ الأرضِ السوداءِ سَرطانٌ مُظلِمٌ يُقالُ عنه احتلال ،يحتّلونَ ما بُنِيَ بالحُبِّ بأسلحةِ الكُره ،أرضٌ ما ذاقتْ مِن البغض شَيء ،وزاد تكتّلاً حتى أصبح رحيلُه يحتاجُ معجزةً من السماء ،تنزلُ به ،تَفتِكُ به ،تُرّحلُه عنا ، تقتلُه، تبيدُه، تجعلُه هباءً ،عند أولِ قنبلة ألقوها هنا ، أمسكتُ وطن ،ثم عانقتُها ،عانقتُها داخلي جداً ،عناقاً مؤلماً ،شددتُ على قميصِها حتى تأوّهتْ ،عانقتها بشدّة ، كنتُ أخبرها “أنْ لا تخافي يا صغيرتي ،أنا هنا”.

مضينا نتخبط ، نسابقُ الزمنَ لِكي يحمي كلٌّ منا أحبَّ ما لديه، ركضتُ بوطن إلى المنزل ،إلى زوجتي التي تجعلُ من الموتِ حُبّاً ،كان الطريقُ قصيراً يحتاجُ بضعَ دقائق ولكن هذه المرة طالَ عليه الأمد ،لقد مكثتُ عامين لأصل ،تعرّقتُ ولهثتُ وارتجفت ،وصلتُ و دخلتُ من الباب كالريح معانقاً ابنتي ،لأجدَ زوجتي أُصيبتْ بالذعرِ علينا ، فعانقتُها وكانت وطن بين أشدِّ سندين لها فاطمئنتْ ،لقد كانت الشمسُ على وشك الرحيل ،وحينها كُتِبَ علينا الغروب ،لقد طال هذا الغروب علينا ،حتى الأن وانتَ تقرأ هذه الحروف لم تشرقِ الشمسَ بعد ،لا ادري إن كان مَن بعدنا سيأتي ويقرأ هذه الكلمات ويشاهد هذا الشروق مطمئنا، حقا إن شاهدته يا رفيقي أخبر العالم أننا كنا هنا وهزمنا الريح؟ اخبرهم.

اشتداد ظلم الاحتلال لنا

لقد زاد هذا المحتل سيوفه التي يلقيها علينا، لقد قطعت الكهرباء، شمعة واحد كانت تنير القرية كلها ، شمعة الثقة بأن الله لا يترك من التجأ اليه ولم يلتجأ الى اوطان اخرى يشعر فيها بالغربة، التجأ الى الله، حيث لا ملجأ سواه، السميع لانتحابنا، البصير بارتجافات الأطفال وبرودة ايدينا، خرجتُ في اليوم التالي مع رجال القرية، بقلوب صلبة ، كانوا أكثر عددا ،ولكن كنا اكثر ثقة، كانو أكثر ظلمة وكنا أكثر نورا ، والنور المنتصر دائما ، باطنه في الرحمة من ظاهره العذاب وحاشاه النور أن ينكسر.

كانت الأرض مليئة بالجثث والحزن

كانت حواف الطريق على غير عادتها مليئة بالجثث، كانت مليئة بالحزن، وكانت قلوبنا مصابة بالذعر ، ف منا من لا يجد نصف عائلته ، ومنا من فقد طفله ، ومنهم من فقد نفسه فأحال الذعر في جوفه الى حزن في اعماق احباءه ، وكنت انا من الذين لا زالوا مصابين بالذعر ، الذعر على فلذة كبدي التي كل اربطة قلبها معلقة بقلبي، فإن رحلتُ عاشت كجثة، وان رحلتْ مت كروح حية.

مضينا نلقي الحجارة على الطرف الاخر، نلقي بعجلات المركبات المحترقة، وكانت النساء تلقي بسهام اللعنات عليهم ، ويحكن لنا من الدعاء وطنا حراً، وليشهد الله إنهن لم يتركن إلحاحاً بالدعاء، ثم القوا قنبلة في الجو، فأغلقنا اذاننا لكي لا نسمع ما لا نريد ، لكي لا نضعف امام ما نريد ، اغلقناها ليس خوفا، بل لاننا نسمع ما نريد ، نحن الذين لا تُسرق منا اوطاننا حيث الملجأ والمنفى .
كانت عيناي لا تصدق ما ترى، هذه الاشجار التي زرعناها بالحب الكثير ، نمت معنا وكبرنا في ظلها ، تقتل أمام أعيننا فيسمع لها نحيباً ، وكان نحيبها يشعرني بسكرات الموت في جوفي ،والدموع تحفر مقابراً للموتى على خديّ ، فسحقاً لكم، لا ادري ماذا فعلت الاشجار لهم لكي يقتلوها ، رباه ايديهم كانها من قعر جهنم لا تبقي ولا تذر.

اقتحموا البيوت وقتلوا كل من فيها

حتى الطيور في جو السماء أراقوا دمها، دخلو يقتحمون البيوت ، يقتلون كل من فيها ، فتبكي زوايا البيت على اصحابها.ذقنا من الويل حتى حفرنا في جوف الثرى عن ما ندخله اجوفنا ، فقد ذاك اللحم منا حتى انطبق على العظم ، كنا نمشي لنصل الى السراب ولكن أهلكتنا الطرقات قبل وصولنا ، كان أمل واهم ، فقد كتب علينا القحط ف اللهم صبراً على ما لم نحط به خبرا
تحولت القرية الى مقبرة ، كانت القبور مكشوفة، الجثث واضحة لكنها ضاحكة مستبشرة بما آتاها، لا كفن ، فلم يعطونا من هذا الزمن لنكفن الجثث ، ولتطمئن قلوبهم نحن لا نكفن شهدائنا ، أبطالنا، الذين اهدو ارواحهم في سبيل احياء الأرض.

اقسم باني أخذت امشي في القرية واذ أن الجثث مستلقية في الارض متراصة، وكأن لعنة من السماء نزلت بها ف أراقت دمها.
عدت الى المنزل بعد ان ودعتنا الشمس ، كنت حزين لأن وطن كانت تحيا حرباً في عامها الثاني، ليس حرباَ بل مذبحة، لاني أثق بأن ما نحياه لا ينسى، يأخذ جزءاً من القلب يهلكه ، يظلمه، يزيده ظلمة، ويحرم من الشروق، فيبقى يعاني الغروب، كنت اخاف ان يصاب قلب ابنتي الذي لا يتعدى حجمه قبضة يدها الصغيرة بالظلمة، كنت اخاف أن يصاب وطني الصغير بجزء من الغروب، فأخذتها الى جواري لتغفو باطمئنان، وكأن لا حرب هنا.

هدموا البيوت عند الثالثة فجراً

في الثالثة فجراً ، هدموا بيتا في القرية بما فيه، اختلطت لحوم من فيه بحجارة االمنزل ، ومن أين لنا أن نجمع جثثاً ممزقة لكي نرتبها في قبر يليق بها، أي شيطان اوقظهم في تلك الساعة؟ ام انهم أذهبو عقولهم ليلاً عندما تهدأ النفوس وتشتعل الشهوات ويأن الأوان للسارق أن يقتحم منازل الأثرياء، وحان وقتهم ليسرقو الارض منا .دخلو من بعد هذا الجرح الى منزل اخر، فتحو الباب بالتخبط والقوة ، لم يستأذنو وجود النساء في الداخل ، ف اقتحمو أهل البيت ، قتلو فردا في ذلك المنزل ،لكنه سمع نحيبا قويا حينها وعرفنا جميعا بأن ذاك الفرد كان أماً، فقد كان نشيجا مؤلما ، وكأن ارواحهم تم سحبها من اجسادهم فباتو بلا شغف ، بلا لهفة، بلا احلام ، بلا شيء.

تدمرت كل أحلام وأُمنيات الأطفال

كل الاحلام التي رسمناها ، وكل الامنيات التي اخبرنا السماء بها ، كل احلام الاطفال في أن يصبحو شيئا سقطت في تلك الليلة ، فإذا الأرواح أريقت ، كيف للحلم أن يبقى؟في السادسة صباحا ، سمعت شهيقا ، لقد كان واضحا انه قريب من المنزل ، خرجت أتلمس أثر الصوت، كان طفلا أظنه في السادسة من عمره ، كان جالسا في الركن الخلفي من المنزل ، كان يبدو عليه الخوف، بشفتين زرقاوين ، وقلب خائف ، ووجه مصفر، امسكت بيده واذ ان يده زرقاء، اخذته الى الداخل ، واخبرت زوجتي ان تدفئه وتشبع بطنه الخاوية.

قصة الطفل الذي مات والداه وأخته

لقد كان باكيا جدا ، يخبرنا بصوت مرتج :” لقد كنت ابحث عن أبي، فقد أخبرتني أمي أن اجده ، فقد خرج منذ وقت طويل، بحثت عنه لم أجده ، لقد كانو اهل القرية امواتا ، عدت الى امي فوجدت جثة امي ، بحثت عن اختي فوجدتها تنزف الكثير امسكت يدي ثم استلقت بهدوء، أخبرتها ان لا تتركني وحيدا ، ولكنها كانت تنظر للأعلى ولم تسمعني، فهربت ، ومضيت امشي فسمعتهم من جديد وهربت هنا لأختبأ، لكنني خفت ليلا، خفت من الظلمة وغفوت هنا “.

يا صغيري ماذا ذقت أنت ،فقدت عائلتك وملجأك الآمن في يوم واحد ، يا حسرتك على ظلمة قلبك ،كان صغيرا بقلب كبير، حقاً كلما ذقت من المصائب كبرت أعواما كثيرة، كلما كبر عاما هذا الفتى ، كبر عامين من الاسى، وهكذا سيشيخ قريبا .ابقيته في المنزل وخرجت ،كانت القرية مراقة الدم ، منهكة الجسد، مسلوبة الروح وحزينة أيها الرفاق كما القلوب ،وكنت استطيع ان اسمع شهقات الأطفال الذين نامو في كفوف الطمأنينة ليستيقظوا بلوعة اليتم ، الذين ينظرون للسماء بعيون ذارفة، بأيد لا حيلة لها، بقلوب خائفة، وكأنهم يبحثون عن ارواح من يحبون ، الأيتام الذين لا يجدون فراديس للأطفال يلتجأون اليها.

الصبر الذي كان ينزله الله علينا بعد تلك المصائب

بكت أعينهم ولكن قلوبهم كانت راكدة بالسلام، لأن الله ينزل سكينته على من يشاء، واذا شاء الله خرّت قوات الأرض بلمحة عين، ولكنها الجنة، كان علينا أن نداهم حرباً عظيمة ليمتحن الصبر في أجوافنا ، ولأن الله يحبنا القى علينا من المصاب ما يزيدنا تمسكا به ، لقد أخذ الله أحب القلوب اليه فسلام على أرواحكم .هل تعرفون كيف أن ترى الانسان يذبح الانسان كما تُضحى البهائم؟ أن تقطع أرقبتهم أمام اطفالهم؟ أن يشق الجلد ويبدا الدم بالتدفق ، ثم العروق يتفجر الدم منها والروح تخرج قليلا قليلا، ثم يزاد القطع وتمضي الروح الى خالقها راضية مرضية لا تخشى شيء ولا ترجو من الدنيا شيء.

عند عودة الأب إلى المنزل وجد زوجته ميتة 

كل حركة في القرية كان عليها أن تبتلع نصيبها من الرصاص لتركن في زاوية ما لا يجدها أحد ،لقد قاومنا حقا وقتلنا أقلية منهم ولكن خلال ساعات قليلة أبادو من رجالنا الكثير ،كانت القرية كأن أحدهم دخل مسجدا مكتظا فبدأ بقتلهم فردا فردا فكانوا كالبنيان المرصوص ف ماتو كذلك.بدأو في تلك الساعة ، بتفجير البيوت كلها ، فهرولت الى بيتي ، وجدت وطن والطفل الحزين ولكنني لم أجد أمها حقاً ، بحثت في زوايا البيت ، صرخت باسمها ،شعرت بالفزع ، كاد قلبي يتمزق هلعاً، أخذت وطن والطفل ومضيت اعدو ، كنت أمضي الى لا شيء، لا أعرف الى اين هربت والموت يحل بي من كل مكان ، ولكنني توقفت في تلك اللحظة ، وحنيت نفسي لأجلس باكيا على جثة زوجتي ، لقد فقدتها ، سقطت دموعي على وجهها، توسلت اليها أن تفتح عيناها ولكن لم تسمع.

كانت شفتاها ضاحكة

كانت شفتاها ضاحكة، حينها كسر شيئا ما بداخلي ،انه شعور الفقدان ، كان نور الله وحب وطن ما بقي ليمنحني القوة لأن اكمل ، ما كنت اريد أن ترى وطن وطنها منهك ، وامها فاقدة القوى ، وأباها شديد الضعف ، ما كنت اريد أن ترى الإثم قبل ان تعرف معناه ،ما كنت اريد ان ترى هذا ، لكنها رأت ، وعرفت أن هذي الطفلة رأت من الدنيا ما يجعلها تكره العيش، فبكت وبكى الوطن وذرفنا من الدموع ما ذرفنا.

كانت القرية مليئة بالصراخ مليئة بالجثث

حقا لا استطيع أن اخبركم كم بلغ عدد الجثث ، لأنهم لم يكونوا أرقاما ،كانوا عالماً بأكلمه ، وجوهاً مليئة بالألم ، بقلوب حالمة، ارواح كانت تبحث عن الحياة حتى صادفها الموت ، تأوهت كثيرا وهي تحاول أن تحيا ،ولكنه الموت يا رفاق.كانت القرية مليئة بالصراخ ، مليئة بالجثث، والأشخاص يتخبطون بخطى مرتجة، بقلوب خائفة، في اتجاهات غير معروفة، فالطريق مغلق وما من سبيل نلتجأ اليه سوى الله ،ذاك الطفل الحزين لا أدري في أي بقعة حل ،او اي لعنة من السماء سقطت به.

مضيت أبحث عنه بكل اتجاهاتي ، كان هناك بعيدا عني ركضت باتجاهه كانت يده تريق دما ، أخبريي انه سقط بينما الناس لا تراه وتجري من حوله، حملته بذراعي الاخرى وركضت الى اللاشيء، وصلت الى حافة الجدار، كانو الناس يذهبون من القرية الى عالم اخر ، لا يعرفون أين يصل ، لقد كان يصعدون عنه ويقفزون وتسمع تأوه سقوطهم في الجهة الأخرى ،لقد أسررت لرجل أن هذين الطفلين في روحك ، فإن استطعت أن توصلهم لأكثر ما تستطيع من الحياة فأوصلهم،واحرص قدر المستطاع أن لا يمسك الموت بهم.

أرسلتُ ابنتي لمكان بعيد خوفاً عليها

واني أثق أن الحفظ حفظ الله، ف ربت على كتفي وصعد على الجدار ليكون في اعلاه ، أعطيته الطفل وثم وطني الصغير الآمن المستقر الذي لا يرى الا السلام ولا يشعر بالحرب ، فشد عليهم وقفز الى وراء الجدار وسمعت توأهه وبكاء وطن، ف انقبض قلبي، وخضت صراعا بين حب الوطن وحب الابن ، وكان صعبا أن امضي باتجاه الوطن تاركا دموع ابنتي تناديني وترجوني أن يا كل قواي لا تتركني وحيدا أعاني الضعف.

ولكنني كبحت الرغبة واثقا أن الله لا يجعلني أحيا والحسرة تسري في عروقي ، وثقت بالله ومضيت ، ركضت مع مجموعة من رجال القرية ، واخذنا كل منا بندقيته ، واخذنا بالمواجهة، كان القرية تعبق برائحة الموت ، وأخذنا نسحب من الجثث بقدر نا نستطيع ، ونحافظ على ما تبقى في هذي البقعة من رمق للعيش،عندما قررت الشمس أن ترحل ، انسحبو جمعا وعم في القرية هدوء مبالغ فيه ، فقد هرب من هرب وذاق الموت من ذاق والتجأنا واغتربنا وافترقنا وتيتمنا ورملت نساؤنا وقتلوا رجالنا وذاقت قلوبنا لوعة الفراق وحزن الوطن ، لقد عم الهدوء لأنه لم تكن هناك أنفاس كثيرة في القرية، لأنه لم تكن هناك الكثير من القلوب النابضة، كانت أغلبها تعاني الوقوف ، خوفا او هلعا او قتلا او عاصفة الرصاص.

لكنني لازلت في الوطن رغم صعوبة الحياة

كم من الأرواح صعدت وكم من الجثث استلقت ،وكم من الاحلام علقت في قائمة المستحيل لكننا هنا ، لا زلنا في الوطن ، ونلنا من الشهادة الكثير ، ولكنها لوعة زوجتي التي كانت امامي بين الجثث ، كان يعز علي أن اراها مستلقؤة أرصا لا تسمعني ولا تبدي أي شيء، ووطن التي لا ادري أين بقت ، في أي ركن بقت، كان علي أن افكر ككل الآباء، هل تراها تعاني من معدة خاوية،او خوف شديد او برودة أطرافها ، لكنني كنت أدعو أن تكون حية، حية فقط ولو برمق قليل.

نحن المنسيون هنا في صفحة بلا رقم في كتاب بلا عنوان ، في ارض سلبت منها كل حقوق الانسانية، وسٌمعت منها صرخات القهر ، انا المنسيُّ هنا بلا كتفٍ أستندُ إليه ،أجلسُ على حافةِ المقهى الآن وانظر الى النافذة بانتظار وطن ،أن تعودَ الي تعانقني داخلها تشد على جسدي الضعيف ، تكون قوتي كما كنت قوتها ، تكون وطني كما كانت وكما ستبقى، في كل يوم تشد الوحدة علي بكلتها يديها، تكاد روحي تخرج الى بارئها ، وكلما حل شتاء أعاني بردا في قلبي.

انتظر عودة ابنتي والشوق يأسِرُني

انا لم أشعر بشيء منذ ذاك اليوم ، كنت جسدا أسير بالطرقات وفي كل خطوة أعود في قوتي عاما من الضعف ،والقي على نفسي بسهام اللوم بأنني كنت السبب في كل الذي حدث فينكسر في داخلي شيئا آخر وبينما أغرق في هذا التفكير المؤذي، أشعر بالموت ينتزعني ولكنه بعيد عن الحقيقة اميالا كثيرة ولكنه الشعور كان اشد ألما يا رفاقي ، بقيت انتظر عشرون عاما على رصيف الشوق وخفت ان يكون الشوق هذه المرة لروح مفقودة ولكن هذه المرة كان اليقين من يلهى بهذا القلب.

عندما كنتُ جالساً في المقهى جاءت فتاة بعيون حالمة

في يوم بائس ،وبينما اجلسُ في المقهى أبصرتُ من بعيد فتاةً طويلة بعيون حالمة وكأن قلوب المتلهفين اتخذت الشغف من عيناها ،تنظرُ للسماء ،تضاحكُ الطيور وتمشي بلهفة ، بقلب يتسع لوطن منكسر ان يطمئن به ، دخلتْ من باب المقهى، وألقتْ سلاماً علينا وتابعتْ بالسؤال عن بيتي لقد سمعتُ حقاً اسمي حينها ، فراودني الشعور الآمن مع كمٍّ هائل من الشعور في صدري ، فأجبتها” انا أقطن هنا” فنظرتْ إليّ واتسعتْ عيناها لتلحقَ ملامحَ وجهِها ابتسامةٌ عميقة تخرج من الأعماقِ وتقول “أبي” بينما قالتها وكأن زوايا الوطن ضجت بالفرح ، وزوايا المقهى أعلنت السلام بكتابة خاتمة كتاب الشوق ،يالا شوقي لتلك الكلمة التي غابت طويلاً ،يقيني سُقِيَ ،ولهفتي أُشبِعتْ ،وحزني خُتِم.

انتفضتُ من مكاني وكأنَّ الدم جرى في عروقي

انتفضتُ من مكاني وكأنَّ الدم جرى في عروقي ، وكأنني عدت في العمر أعواما كثيرة ،وتفوهت “وطن”، لتركضَ نحوي كطفلٍ صغير يعاني اليتمَ الشديد ، تعانقُني ،تقبلُني ،تشدُّ علي ،وأن يا أبي” وطنك ، هذي وطنك ، يا كل أوطاني يا لهفتي وشغفي يا حريتي ومنفاي ،يا كل ملاجئي ،يا رفاقي وأمي وأملي ويقيني”وحينها كنتُ الشوكَ الذي أزهر ،كنت الجيفة التي عاد بها رمقُ الحياة ،كنتُ الأرضَ الجدباءَ التي جرت بها المياه.

نعم إنها ابنتي وطن عادت لأحضاني

وطن الأن أمامي ولكنها ليست الطفلة الرضيعة التي كانت في كف ابيها ،انها في اشد ايات الحسن للفتيات، جلست بجانبي وانا انظر في عيناها، واخبرتني بعيونها الباكية، لم اكن اعرف شيئا لقد اتيت الان من الغرب، لقد اكملت الدراسات العليا في القانون، لأحيي هذه الأرض التي سلبت منها كل حقوق العيش، ومن اجل كل تلك الجثث التي هدرت.

اخبرني الرجل الذي كنت احيا عنده انه ليس ابي ، وانني من هذه القرية وانك تكون أبي، وامي رافقها الموت ، اخبرني انك خفت علي ،فأرسلتني معه واوصيته بي، ليس تخليا وانما خوفا علي، فقد كانت القرية وكأنها حربا ، عندما أخبرني خفت ان اعود هنا ويخبرونني بأنك غادرت هذه الحياة ولكنه اليقين يا ابي”، كنت اعلم كل ما تقوله ، ولكنني كنت أستمع اليها بشغف للنهاية، ان ابنتي كانت تشعر بذات الشعور ويقودها ذات اليقين ونحلم بذات الحلم.

لقد كنت أنظر إليها وكأنها أجمل ما وُجد في هذه الأرض

لقد كنت انظر إليها وكأنها اجمل ما وُجد في هذي الارض،لقد شعرت منذ أول طرفة عين انها وطن، لا تلقي علي بسهام اللوم ، لكنها الأبوة و”لا تيأسوا من رَوح الله” كانتا تربتان على كتفي .نعم يا رفاق ،نحنُ الذين نشتاقُ لأبنائنا ثلاثون عاماً دون أنْ يمسنا الإستسلام ،نحنُ السلامُ لهذي الحرب ،نحن الياسمين الذي نما على تلك الخدين التي حُفِرَ بها مقابراً للموتى ،كيف لنا أن نبثَّ فيها الإستسلام ، كيف نخون الارض .أمسكتُ يدها ولكن يدها كانت الاقوى هذه المرة ، وخرجنا ننظر للسماء ،ويُسرُّ الأفقُ لي :يا أيها المنسي في المقهى، خلف جدران الأسى ها قد نلت مرادك فبشرى لك” ومضيتُ أفرحُ وكأنني في العشرين من العُمر.

فيديو مقال العنوان يكمن فيها – #قصة

أضف تعليقك هنا