لو لم أكن خليليًا

صعيدي، طفيلي، حمصي، خليلي يجمع بينهم طيبة القلب وحسن المعشر وسرعة البديهة وبساطة العيش والكرم، بالرغم من حدة الطبع والاعتزاز بالنفس لدرجة الغرور والارتباط القوي فيما بينهم لدرجة التعصب، اشتهروا جميعا بالنكات الطريفة التي تبين قوتهم وتميزهم وبساطتهم وأحيانا التجني عليهم ووصفهم بالسذاجة والبلاهة، وأنا أعلن بكل صدق وافتخار بأنني ابن الخليل بكل مميزاتها وخصائص أهلها.

أين تقع مدينة الخليل؟

تقع الخليل، والخليل لا تقع إلا واقفة على طول الزمن، في جنوب فلسطين شمالها القدس وجنوبها غزة، يرجع تاريخها إلى أكثر من ستة آلاف سنة إن تجاهلنا اكتشاف قناع حجري ذهبي يعود لتسعة آلاف عام، استولى عليه الإسرائيليون طبعا، وسكنها الكنعانيين العرب وأسسوا فيها أربع قرى اجتمعت فيما بينها لتؤسس (قريات أربع) عاصمتهم تل رميدة التي أحاط بها سور عرضه أكثر من 10 أمتار وتخيل يا صديقي ارتفاعه، وبقيت هذه المدينة تصارع الحياة تكبو قرنا وتحيى قرنا إلى أن انتقلت الحياة منها إلى ما حول المسجد الإبراهيمي الشريف

الحارة التحتا يعني، والتفت البيوت حول المسجد شيئا فشيئا ولعلها بدأت في الجانب الأعلى من الحير (الشرق) ثم امتدت لتصل إلى سفح الوادي، والحير إن تسأل “يا خالي” سور ضخم مكون من ست مداميك حجرية ضخمة تشبه حجارة الأهرام يتجاوز طول بعضها ثمانية أمتار وارتفاعها أكثر من متر أما عرض السور فأكثر من مترين بني حول قبور الأنبياء إبراهيم وإسحق ويعقوب وزوجاتهم عليهم السلام.

ما الذي تعرضت له الخليل خلال عمرها الطويل العريق؟

تعرضت المدينة للتدمير عدة مرات منها حين هاجمها الفرس في فترة الدعوة النبوية، ثم تعرض أبناؤها للفناء في الحروب الصليبية وأصبح الحرم الابراهيمي كنيسة لكنه عاد حين عادت القدس على يد صلاح الدين الأيوبي، وأسكن صلاح الدين جنوده في الخليل ووضعهم على خط النار لحماية البلد، وعاد بعض الداريين من أبناء تميم الداري ليسكنوا حارة بني دار، وأسست عائلة النتشة حارة السواكنة، ثم انضم إلى المدينة حارة قيطون (أبو سنينة يخي) وحارة الشيخ (حارة القيادة) وكان بعض المتصوفين والعباد وطلاب العلم يسكنون داخل الحرم ويعيشون على شوربة سيدنا إبراهيم الخليل التي تطبخ لأهل البلد وزوارها وحجاج بيت الله الحرام، وآخخخ من طعم شوربة سيدنا إبراهيم خدلك سطل وروح جنب الحرم وخليهم يعبولك إياه وحطلك شوية سكر في الصحن وكل، والله أزكى من العسل، وكانت قديما تسمى السماط وتصنع من العدس وكان يُوزع فيها أكثر من خمسة عشر ألف رغيف يوميا، هي الكرم ولا بلاش.

الخليل تسرق القلوب بسحرها فما السر؟

تأسر الخليل قلب من يزورها وترغمه على عشق هوائها وترابها وزيتونها  وكرومها، فكم من زائر تخلى عن كل شيء ليسكنها ويجاور قبر الخليل عليه السلام، بل وأوصى أن يدفن فيها، ينتقل إليها الشيخ محمد علي الجعبري ولا تطيب نفسه إلا أن يلتحف ترابها، وهذا الشيخ علي البكّاء القائد في جيش السلطان المملوكي بيبرس قرر بعد معركة أرسوف أن يعيش في الخليل وتخلى لأجلها عن الدنيا ومغرياتها، فكرمه سلاطين المماليك وأهل البلد بزاوية ومقام في ظاهر البلد، والسقواتي صاحب النسب النبوي الشريف الذي زارها من المغرب العربي ولم يفلت من عشقها، وبات من شيوخها الذين يَستسقي بهم الناس والشيخ كنفهوش “الأدهمي” والشيخ الهروي والشيخ أحمد المجرد وكلهم من شيوخ الصوفية ودفنوا فيها وبات لمعظمهم ذرية يعيشون في ربوعها ويضحون من أجلها، والنعم فيهم والله.

الخليل أبية على مرِّ العصور

تلفُظُ الخليل المعتدين ولا يعمر عليها ظالم، أرسل محمد علي باشا ابنه بحملة على الشام ولما وصل الخليل نصب المدافع حولها ودك أبنيتها بلا رحمة، فالتجأ الناس لزاوية الشيخ علي البكاء لأن الحرم الابراهيمي كان من أهداف القصف، فعميت الخيول وأصحابها حين بدأ الاقتحام في زقاق العميان، ورحل عنها ذليلا على يد ابن الخليل عبد الرحمن عمرو، من حارة بني دار، وشاركت الخليل بالثورة ضد الإنجليز فتقدم رجالها الصفوف وهاجموا الإنجليز بحرب عصابات مؤلمة لدرجة أن الانجليز أرسلوا للقائد عبد الحليم الجولاني (لقبه الشلف) فرقة عسكرية ومعها طائرات تقذف النار على جنودٍ يحملون السلاح الأبيض وبعضاً مما غنموه من هجماتهم على المخازن والمعسكرات من بئر السبع إلى بيت لحم، بس على مين يا عمّي، فأوقع المقاتلين طائرتين عسكريتين وأعادوا الفرقة محملة بأذيال الذل والخيبة، وحمى الخلايلة القائد عبد القادر الحسيني من هجمة مفاجئة من الإنجليز وأدخلوه باسم مستعار للمستشفى الوحيد في الخليل (مستشفى سانت جون الإنجليزي) ثم هربوه إلى لبنان.

الخليل جنة الله على أرضه

الشهد في عنب الخليل وعيون ماء سلسبيل؛ لكن البعض يشتهي الحصرم مع الملح ولن تتخيل الطعم إلا إذا جربته، وأبناء الخليل ملح البلاد لأنهم يعطونها النكهة والطعم وحيثما وُجِدوا تجدهم مميزين ولهم بصمة يشعر بها الناس إيجابيا في كل المجالات، حيث حملوا صناعتهم لكل الدنيا وتميزوا بالدقة والإخلاص في كل حرفة، فقد تعلم أهل الخليل صناعة الزجاج وأبدعوا فيها وأصبحت جزءا من تراثهم وطريقة حياتهم، كما اشتهروا بصناعة الفخار ودبغ الجلود ونقش الحجارة وغيرها، وبرعوا في التجارة منذ القدم وكانت مهارتهم وأمانتهم وإخلاصهم تظهر منذ اللحظة الأولى، فيحبهم الناس ويرتاحون بالتعامل معهم حتى يصبحوا من أهل البلد المُضيف، ولربّما زوجوهم بناتهم وتركوا بعضا من ذريتهم في تلك البلاد، ويصبح لنسلهم اسم يدل على انتمائهم لبلدهم كعائلة الخليلي أو الخلايلة وغيرها، وهم يمتازون بالحمية لأبناء بلدهم ولو لم يكن من قرابتهم فلا يرضون له الضيم أبدا ويدافعون عنه وينصفونه دائما، وعلى الرغم من ذلك ما أسهل رضوخهم للحق ورجوعهم للشرع إن حادوا عنه.

الخليل اقتصاديًا

تساهم الخليل بأكثر من أربعين بالمئة من الدخل المحلي لفلسطين، وفيها عدد من المنشآت الصناعية التي تصدر إلى معظم دول العالم كمصانع اللدائن (قه؛ قصدي البلاستيك يعني) والفرشات الطبية والأحذية وغيرها، ويُستخرج من جبالها أفضل أنواع الحجارة التي تُصنّع بحرفيّة عالية وبجودة منافسة، وبالرغم من معوقات الاحتلال ومشاكل النقل إلا أنها أصبحت السفير الذي يلف العالم حاملا اسم الخليل ومعبرا عن مهارة أهلها وحرفيتهم ؛ ويستورد تجار الخليل كميات هائلة من البضائع التركية والصينيه (يكفينا شر الكورونا يا رب) وغيرها، ثم يتم توزيعها على مدن الضفة الغربية وغزة والداخل، كما أن سوق الخليل الصناعي والتجاري يستقطب الناس من كل الضفة والداخل (عرب 48) لجودة البضاعة ورخص السعر، ويعتمد أهل الخليل في معاشهم على الزراعة والتجارة والحرف اليدوية والعمل في المصانع والوظائف الحكومية، والخليلي يكسر الصخر ويصهر الجبال ويقطع الأرض طولا وعرضا ولا يقبل ذل السؤال أو ثبوط الهمة ومخادع النساء.

لو لم أكن خليليًا لتمنيت ذلك

لو لم أكن خليلياً لأحببت وطني وقدست ترابه، ورفعت يدي تحية للخليل بمسجدها الابراهيمي وتكيّتها التي امتدت فكرتها من أبي الفقراء والمساكين والضيفان إبراهيم الخليل إلى يومنا الحاضر لا ترد زائرًا ولا مقيمًا فقيرًا أو غنيًا، والمقامات والزوايا الصوفية والأربطة والمدارس والحارات، ولرفعت القبعة (زي الأجانب يعني) لأهلها الصابرين المرابطين حماة الحرم وأول من هب لنصرة الأقصى واستجاب لثورة البراق لكن أجار جيرانه من اليهود وحافظ على حياتهم، واستجاب لدعوة مفتي القدس الحاج أمين الحسيني للعيش في القدس لسد النقص الديمغرافي الذي أصابها في فترة ما، بلد المجاهدين والأسرى والمرابطين إلى يوم الدين.

فيديو مقال لو لم أكن خليليًا

أضف تعليقك هنا