مستشفى القراءة

عنوانٌ قد يكون مشوقاً عند بعضٍ غريباً عند آخرين، فكثيرون منّا يسمع عن مستشفى الحميات أو مستشفى الصدر أو مستشفى الولادة، وقد يغرب بك السمع فتسمع عن مستشفى الأمراض النفسية، كلّ هذه المستشفيات ترد على أسماعنا، ويتناقلها الناس فيما بينهم يومياً، فليس غريباً سماعها، أمّا الغريب نفسه أن يكون للقراءة عيادة أو مستشفى. (أهمية القراءة). (اقرأ المزيد من المقالات من قسم قراءة).

أهمية القراءة

قليلٌ منّا يؤمن بفكرة أنّ القراءة دواء للمشاكل، وعلاج للأزمات، إذ غاية ما يعرفونه عنها أنّها وسيلةٌ لقضاء أوقاتٍ سعيدة أثناء فراغهم، وأمّا الطلاب فلا يعرفون عنها إلا أنّها وسيلةُ نجاحٍ، وطريقُ حصول على درجاتٍ عالية، وهناك فئة أصبحت القراءة لديهم عادة لا يستطيعون الخلاص منها إلا أنّهم لا يعتقدون أنّها علاجٌ من أقوى أنواع العلاج.

يعود تاريخُ العلاج بالقراءة إلى زمنٍ بعيد حيث كتب الأستاذ إيليا حليم حنا في “مجلة الرسالة” في عددها (805) سنة (1368) مقالاً بعنوان: (عيادة المطالعة) ذكر فيه أن رجال التربية في البلاد الغربية يلحقون بكلياتهم ومدارسهم عيادات مطالعة لعلاج الطلاب الذين لم تغرس فيهم عادة القراءة، أو الذين لا يعرفون القراءة المحصل.

هل القراءة تعالج الأمراض النفسية؟

أجل، يمكن استخدام الكتب في علاج بعض الأمراض النفسية من خلال إطلاع المريض على بعض السير الذاتية للمرضى المشابهين له في هذا المرض، وقد دونوا سيرتهم الذاتية بعد تمام الشفاء، فيستكشف مكنونات نفسه بنفسه، والعلاج بالقراءة ربما يكون علاجاً إضافياً لبعض الأمراض يستخدمه الأطباء النفسيون في إرشاداتهم.

ومن ذلك قراءة كتب الروايات والقصص، حيث تجعل الشخص أكثر تمكناً ونجاحاً من الناحية الاجتماعية، ومطالعة السير الذاتية لكبار الناجحين يساعد الشباب على معرفة طرق النجاح واستخدام طرق مشابهة، والنظر في أخبار المصابين ممن سبقونا مما يُهون على المبتلين ما يصيبهم، والعكوف على قراءة كتب التاريخ يُعرف بأسباب تقدم وانهيار الحضارة في الأمم، وهكذا في بقية القراءات.

كيف كانت القراءة سابقاً وكيف أصبحت الآن؟

تتوفر الكتب أكثر مما سبق لكن الاستفادة منها -فيما أحسب- أقلّ من الماضي، ولك أن تقارن بين المثقفين في الأجيال الماضية والمثقفين في العصر الحالي مع التنبه أن نسبة الأميين فيما مضى كانت عالية جداً، فالمتعلمون كانوا قليلين بالنسبة لغيرهم إلا أنّهم متميزون بالثقافة الواسعة شغوفون بالمعرفة، واليوم أصبح المتعلمون متوفرين إلا أنّهم في الثقافة أميون مع سهولة الثقافة، ووفرة مصادر المعرفة.

يتخرج الطالب من مدرسته وبينه وبين الكتب فجوة هائلة، فالطالب المتميز لا يميل إليها ولا يرغب فيها، وأغلبية الطلبة يكرهون الكتب ومطالعتها مما يتحتم أن يكون في كلّ مدرسة في ظل تشخيص هذا الداء “عيادة القراءة” أو “عيادة المطالعة”، وهي لا تقلّ أهمية عن عيادة الطبيب، فلئن كانت عيادة الطبيب لدواء الأمراض الظاهرة فعيادة القراءة علاج الأمراض الباطنة، وعلاجُ الباطن أولى من علاج الظاهر، والبدءُ بدواء النفس مما ييسر علاج كلّ داء الجسم.

طبيب القراءة وآلية عمله

هذه العيادة يتسلمها مستشارٌ في القراءة بصيرٌ بفنونها، يتمحور عمله في تقديم الدعم والمشورة يومياً للمتعثرين في القراءة، وهم الطلاب الذين لا تتولد لديهم الرغبة في القراءة، أو يعتبرون الكتاب وحشاً كريهاً لا ينبغي الاقتراب منه، فيعمل على إزاحة الفجوة الهائلة بين الطلاب والكتاب، ويهتم في بداية إنشائها باستيعاب جميع الطلاب، وشرح مبادئ القراءة وأساسياتها، والتعريف بطرق القراءة الصحيحة، ومعرفة تقنيات القراءة المحددة.

يقوم طبيب “عيادة القراءة” بإجراء اختباراتٍ سريعةٍ للطلبة لقياس مدى سرعتهم على القراءة أو استيعابهم للمادة المقروءة، ومن خلال نتيجة القياس يعطي -كأيّ طبيب- الوصفة اللازمة لهذا الطالب من حيث نوعية الكتاب المقروء، وعدد الصفحات المقروءة، وقد يحدد له الوقت المناسب للقراءة بما يناسب حاله.من أهمّ أعماله تسجيلُ هذه الوقائع خصوصاً مع المتعثرين أو البطيئين في سجلٍ خاص؛ ليقارن بعد مدة سرعة الإنجاز من عدمه، ويكون نبراساً يهتدي به فيما بعد، وقد يحتاج الأمر في بدايته إلى تدريبهم في دوراتٍ خاصة على أنواع القراءة، وفوائدها، وكيفية تلخيص الكتب ونحو ذلك مما يحتاجه القارئ المبتدئ.

ما هو سبب عزوف الطلاب عن القراءة؟

لا أكونُ كاذباً حين أقول إن سبب عزوف الطلاب عن القراءة هو عدم وجود بيئة ملائمة لهم، وعدم توفر مستشارٍ خاص في المدرسة للقراءة وفنونها مما يترتب عليه عدم الإلمام بطرق القراءة الصحيحة، أو معرفة مهارات القراءة، إذ للقراءة أنواعٌ وأهدافٌ، فإذا تعرف الطالب عليها ساعده ذلك على دخول عالم القراء، والولوج في القراءة.

هذا الطبيب المدرسي يكون متنقلاً بين الطلاب، فتحركاته ميدانية بصفة يومية، يجلب الطلاب بنفسه إلى عيادته، ويحفزهم ويرشدهم على القراءة، ويُكون مجموعات طلابية للقراءة يشرف عليها، ويختار النبهاء من الطلاب لتكوين قاعدة جماهيرية في المدرسة للتحبيب في الدخول إلى عالم القراءة، ويعقد مسابقات على بعض الكتب، ولا ينتظر المريض حتى يأتي إليه في عيادته، بل يبادر هو في إحضار طلابه، ويخصص ركناً في المدرسة للقراء يعرف باسمهم، فالارتباط بالمكان مما يساعد على التشجيع، ولا شك أن الأفكار كثيرة إلا أنها تختلف باختلاف البيئة، ولن يعدم الحريص ذو الهمة على نفع طلابه والتحايل عليهم بأيّ وسيلة؛ لتكون القراءة زاداً ضرورياً لا يقل عن ضرورة الأكل والشرب.

لماذا الطلاب لا يقرؤون؟

إن سألتَني لماذا الطلاب لا يقرؤون؟ لا يقرؤون -عن تجربةٍ ومشاهدةٍ- لعدم معرفتهم بكيفية القراءة، لا لعدم رغبتهم، فتغفل المدارس جانبا مهماً من أولوياتها، وهو تعليمهم أساليب وطرق المطالعة، فالقراءةُ حِرفة من الحرف، وشأنُ الحرفِ التعلم ثم الممارسة، فأسباب عزوف الطلاب فقدانهم المشرفين على تزويدهم بكيفية الاستفادة من الكتب، فلم يوجهوا إلى ذلك، ولذا انقلبت غالب اهتمامات الطلاب إلى أمورٍ أخرى مالت إليها قلوبهم بطريقةٍ ما، فالطالب كغيره عدوّ ما يجهله.

من هو المسؤول عن تكوين عادة القراءة عند الطلاب؟

لم تتكون عادةُ القراءة لدى الطالب في مدرسته، فيرى معلمين لا يهتمون بها، وإذا رجع إلى بيته وجده خالياً من الكتب، وشاهد أباً لا يحب القراءة، وأماً تنشغل بكلّ شيء إلا من المطالعة، فمن أين تتولد الدافعية للقراءة عند هذا الطالب، ولو تغير الحال فأصبحت المدرسة معتنية بالقراءة، ووجد مكاناً في المدرسة يحتضنه ويلبي رغباته فيها، وتحصل في البيت والمدرسة على بغيته من الكتب، وفي البيئة العامة وجد معلماً وأباً وأماً يطالعون الكتب، فبطبيعة الحال سيتغير موقفه للأفضل.

أعتقد اعتقاداً لا ريب فيه أنّ المدرسة هي المسؤولة مسؤولية كاملة على تكوين عادة القراءة لدى طلابها، فإذا فشلت المدرسة في تكوين وتحقيق هذه العادة فهي لغيرها من الأمور المهمة أبعد، وتتطلب الحالة الراهنة لطلابنا تغيراً أساسياً في المدارس وأهدافها مع إعطاء المطالعة والثقافة حجمهما لدى الطلاب، فلأن يخرج الطالب قارئاً شغوفاً بالثقافة باحثاً عن المعرفة خير لنفسه ومجتمعه من حصوله على أعلى الدرجات وهو أميّ المعرفة ، فارغ الذهن، عديم التفكير، كاره للكتب، مبتعد عن القراءة.

أخرجوا طلاباً شغوفين بالقراءة متشوقين إلى الثقافة

وقفتُ بنفسي على حادثة طالب غير راغب في القراءة بأيّ حالٍ من الأحوال، معرضٍ عنها بكلّ ما تحمله الكلمة، مقبل على كلّ ما سواها، تدرجت معه في مطالعة الكتب بمنهجية محددة رسمتها له ظهرت آثارها بعد مدةٍ قصيرة، وما زال المنهج يرسم نفسه حتى كان آخر عهدي به أنّه ينتهي من قراءة كتاب أسبوعي لا يقلّ عن 200 صفحة، وهو عدد صفحات كثيرة بالنسبة لوضعه السابق، وكان فاتحةَ خيرٍ على أسرته، فجعلهم يهتمون بالقراءة كما أخبرني والده بعد مدة من الزمن شاكراً صنيعي معه.أخرجوا طلاباً شغوفين بالقراءة متشوقين إلى الثقافة، وداووا أنفسكم وأولادكم وطلابكم بالكتب ومطالعتها.

فيديو مقال مستشفى القراءة

أضف تعليقك هنا