شذراتٌ مِن سِير ذاتية

لا أعرف سيرة ذاتية  كُتبت إلا سعيتُ في الحصول عليها وقراءتها، وتقييد أهمّ ما ورد فيها مما يمكن الاستفادة منه، وتتنوع هذه السير، وتتباين رؤى كاتبيها، فهي لأناسٍ مختلفين في التخصص، ومتباينين في الفكر، لكنْ يجمعهم شيءٌ واحدٌ، وهو النفعُ العام للمجتمع، وأجزم أن كثيراً من نظراتك الفكرية عن بعض الكُتّاب ستختلف بعد قراءة سيرهم. (السِير الذاتية). (اقرأ المزيد من المقالات على موقع مقال من قسم أدب).

فوائد قراءة السِير الذاتية

إنّ السِير الذاتية كنزٌ مدفونٌ حقاً، يطلعك على كثيرٍ من التجارب والثقافات، فيقدم لك كاتب السيرة خلاصة تجربته في هذه الحياة بكلّ شفافية بعيداً عن تحسين الكلام، أو إبداء ما ليس موجوداً؛ لأنه جرت العادة أنّها تكتب في سني عمر متقدمة يستحيل معها الكذب أو الخداع، فغالب السير الشخصية تكتب في لحظات صدقٍ من كاتبيها مع أنفسهم.

مما كتبته الأستاذة سلوى العناني في سيرتها

كتبت الأستاذة سلوى العناني في سيرتها (بعض أوراقي) رؤيتها في الكتابة، فعددت أصدقاءها الثلاثة في هذه الحياة: الورقة والقلم والقُراء، وعنت بالقُرّاء مَن تتوجه لهم برسائلها، واصفة إياهم بأنهم أصدقاء ليس لهم عنوان، ولا يحملون هوية، وتسر إليهم بسعادة، وتتحدث لهم عما يكون في قلبها من كلامٍ ومشاعر، وفي نظرها أنّ هؤلاء الأصدقاء الغائبين عنها أصدق من غيرهم.

السيرة الذاتية لعالم الرياضيات الدكتور عبد العظيم أنيس

وأما عالمُ الرياضيات الدكتور عبد العظيم أنيس فقد سطّر في سيرته الذاتية (ذكريات من حياتي) كثيراً من المواقف العملية التي ينبغي التعرف عليها عن قرب، ولعلّ من أهم أفكاره المطروحة في هذا الكتاب ما كتبتُ عنه كثيراً، وهو الفرق بين المتعلم والمثقف، فيرى الدكتور أنيس أن أستاذ الجامعة ليس بضرورة الحال أن يكون مثقفاً؛ لأنّ كثيراً منهم قد لا يعرف شيئاً خارج تخصصه الجامعي، وإنّما المثقف من وجهة نظره هو مَن يستطيع توظيف التعليم في الحصول على الثقافة، فتعلم القراءة والكتابة عنده مرحلة أولية لتحصيل الثقافة التي هي الأساس.

شخصية د. عبد الوهاب المسيري

تميزت شخصية د. عبد الوهاب المسيري بالتحليل والتفسير، وتكمن سر شخصية المسيري في قدرته الفائقة على قراءة ما وراء الأحداث، فالحدث قد يكون معروفاً ومشهوراً عند الجميع، لكن يأتي المسيري بقوة تحليله فيستخرج  منه كثيراً من الأحداث، ويربط الأحداث بعضها ببعض، ولعلّ تمكنه في التحليل أتى من إصابته بداء “التأمل”  على حد تعبيره، وهو ما اعترف به في كثيرٍ من المناسبات، حيث تمكن التأمل منه منذ صغره، وهو بذلك يحاول دائماً أن يفسر ما حوله من أفعالٍ حتى يمكنه الاستيعاب لها.

مميزات سيرته الذاتية

إنّ أهم ما تمتاز به السيرة الذاتية للمسيري (رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمر .. سيرة غير ذاتية غير موضوعية) اختلافها عن السير الذاتية المألوفة شكلاً ومضموناً، فنظرة المسيري للسيرة تختلف عمن سبقه من كُتّابها؛ لأنّ غالب السير الذاتية تكتب عن الفكر والنجاح، بينما كان يؤمن المسيري بضرورة كتابة السيرة وتوظيفها في الوصول إلى الفكر والنجاح، وهو أحد مطالبه، حيث طالب أن يكتب صاحب السيرة عن كيفية الوصول للنجاح الذي وصله، وليس عن النجاح فحسب، إذ الاستفادة من ذلك أقلّ.

السيرة الذاتية لمحيي اللباد

وفي السيرة الذاتية لمحيي اللباد (كشكول الرسام) يوضح لِقُرائه أنّ بعض الناس يتخذون أشخاصاً ضعفاء أو حمقى؛ لكي يظهروا أمام غيرهم أنهم الأقوياء أو العقلاء، وتكلم في سيرته عن نظرية ارتباط الحواس ببعضها، وارتباط التذكر بكلّ الحواس، فيمكن للشخص أن يشمّ رائحةً مَا يتذكر بها مكاناً ما أو شخصاً ما أو حدثاً حدث له، ولذا فإنّ هناك أشخاصاً يجتهدون في الاحتفاظ بكلّ ما يذكرهم بالماضي؛ لأنهم يشمون منها رائحة السابقين، وعبق التاريخ، والذكريات الخالدة.

ماذا يكشف لنا الفنان عدلي رزق الله في سيرته الذاتية؟

ويكشف لنا الفنان عدلي رزق الله في سيرته الذاتية (الوصول إلى البداية في الفن والحياة) أنّه دائم التطور، ودائم الاستمرار، ودائم البحث عن النجاح في حياته، وربما له رأي قد يختلف عن آراء الآخرين في التميز من خلال مقارنة الشخص بالآخرين ومقدار التميز عليهم، فصرح أن هذا التميز لا يعنيه ولا يبحث عنه، حيث لا يقارن نفسه بأحدٍ؛ لأنّ كلّ شخصٍ له ظروفه الخاصة، وبالتالي لا ينشغل بكونه متميزاً على فلان أو فلان.

وإنّما الذي يخصه ويهتم به أن يجد نفسه ويبحث عن ذاته في هذا التميز، وهو ما حاول أن يوصله إلى أولاده، فدائماً ما كان يصرح لهم ألا يحاولوا التصارع مع الآخرين، أو التسابق معهم، أو حصولهم على أعلى الدرجات، وإنما كانت غايته من تربيته لهم أن يحاولوا الحصول على الحد الأقصى في العلم واللعب والحياة … إلخ، اعتقاداً منه بأنّه إذا  كان حدك عالياً أو متوسطاً أو صغيراً فهو حدك الأقصى.

ميّزات السيرة الذاتية للشاعر عفيفي مطر

كذلك تميز الشاعر الكبير محمد عفيفي مطر في سيرته الذاتية (أوائل زيارات الدهشة هوامش التكوين .. سيرة ذاتية) بالصدق مع النفس، وذكر أن مصدر تكوينه كشاعر هي الدهشة؛ لأنه يؤمن أنها هي التي تثير إما التساؤل العقلي، وإما الإبداع الفني، ولفت انتباهنا لقضية قتل الإبداع، والانتقام من المتميزيين، وهي ظاهرةٌ منتشرةٌ، وذكر لنا قصة نشره لأول مقالةٍ له في مجلة الرسالة الجديدة عام 1954م، حيث كان يتصور أن هذه الخطوة سيفرح بها الكثيرون ممن حوله، لكن خاب ظنه؛ لأنّها أظهرت له سخائم النفوس، وكراهية التميز، وأصبحت كارثة بالنسبة له على العكس مما كان يرجوه.

ووجه الشاعر نصيحته لكلّ موهوبٍ بأنّ غالب الناس لا يحبون التميز، وأنّ صاحب الموهبة يجب عليه أن يتملكه عناد التحقيق لذاتيته؛ بأن يكونَ قوياً صامداً معانداً، فيحافظ على موهبته بالكدح والعمل والسهر والتعب على نفسه وموهبته، ولا ينتظر من الآخرين مدحه والثناء عليه، أو حتى تشجيعه؛ لأنّ صاحب الموهبة يحاربه أقرب الناس له.

السيرة الذاتية للدكتورة سمحة الخولي

وأفردت الدكتورة سمحة الخولي في كتابها (من حياتي مع الموسيقى) كلاماً مهماً عن أبيها الشيخ أمين الخولي علامة البلاغة والنقد، وما كان بينهما من علاقةٍ طيبةٍ وحميمة مع اختلاف الرؤى وتباين التوجه، فسطرت في كتابها كيفية الحوار حين وجود الاختلاف، وتقبل رأي الآخرين وإن كنتَ مختلفاً معهم، ومن الأشياء التي لفتت انتباهي في هذه السيرة الانبهارُ بالغرب في كلّ شيء حتى وصل الانبهار بهم في الموسيقى كما سطرته، وهذا يعكس حالة الانبهار بما يكون في الغرب حتى في الأشياه الغريبة التي تتصادم مع عاداتنا، كما أن لها رؤية خاصة في تعليم الأطفال، حيث شددت على ضرورة أن يتولى أمر تعليمهم أفضل المتأهلين لذلك من معلمين وتربويين.

سيرة الأديب الأديب علاء الديب

عندما تضيق السبل بالمبدع، وتقسو عليه ظروف الحياة فإنّ موهبته تكون الملاذ الذي يلجأ إليه، وهذا ما بينه الأديب علاء الديب في سيرته الذاتية (وقفة قبل المنحدر .. من أوراق مثقف مصري)، حيث كانت الكتابة الملاذ الذي لجأ إليه حينما قست عليه الحياة؛ ليحتمي بالكتابة من قسوة الأشخاص المحيطين به، وله عادةٌ حسنةٌ خاصة به في تذكر أخطائه دوماً، فكان لا يرغب في نسيانها، بل يحاول استحضارها ليس رغبة في تعذيب نفسه، بل لتوضيح رؤية السير في طريقه، وكان يُرجع تخلف الشخص إلى كونه ينحصر بنفسه في المكان الموجود فيه، ولا يستطيع القدرة على رؤية ما هو أبعد من هذا المكان.

السيرة الذاتية للراوية محمد رجب البيومي

وانفرد أستاذنا الراوية محمد رجب البيومي في سيرته الذاتية (ظلال من حياتي) بطريقةٍ فريدةٍ حين الشروع في التأليف، فإذا ما أراد تأليف كتابٍ في موضوعٍ اختاره، أو توجيه ظروف خاصة فإنه ينظم وقته في القراءة حول الموضوع بعد جمعه المراجع؛ ليستوعب ما يمكن أن يكون موضع تحليل ومناقشة، وفي فترة تأليفه قلّ أنْ ينشغل بغير ما يتصل ببحثه الذي يبحث فيه، حتى لو وقع تحت يده كتاب يثير انتباهه فلا يلتفت إليه عن عمدٍ حتى لا تشتت أفكاره، وقبل البدء في الكتابة يستوعب المراجع قراءة، ثم يضع عناوين البحث الفرعية، وهكذا يبدأ في الكتابة إلى أن ينتهي من بحثه.

ذكرتُ في هذا المقال بعض كتابات السِير الذاتية ملتقطاً منها فوائد ودرراً أرجو أن تكون نافعةً لقارئها، ولعلي أعود إلى ذكر جملةٍ أخرى منها فيما بعدُ، ففيها الكثير من التجارب الشخصية التي تساعدك على النهوض بنفسك للأفضل، وأحسب أن مَن لم يطلع عليها سيفوته الكثير.

فيديو مقال شذراتٌ مِن سِير ذاتية

أضف تعليقك هنا