“ابن تيمية شيخ الإسلام” وادعاء حب/كره الصوفية

كثيرا ما نقرأ أو نسمع في بعض المواقع الثقافية عن شيخ الإسلام ابن تيمية، كونه لا يكره الصوفية والمتصوفة ويحبهم لدرجة أنه يشرح أفكار أحد رواد التصوف “الجيلاني”[1]، كما تردّ طائفة أخرى وتهاجم شيخ الإسلام وتتهمه بتبديع وتكفير وقتل المتصوفة، ومنه فتح الباب على مصرعيه لتقول صراحة: إن ابن تيمية هو المصدر الأول للإرهاب وإن فتاواه في الجهاد مغذ أول للخلايا الإرهابية، لكن ما يهم موضوعنا هو ما قاله عن المتصوفة بعيدا عن التعصب أو الميل لأي جهة [المناصرة أو المعارضة]، تاركين شيخ الإسلام يتكلم هو نفسه عن المتصوفة وبالتالي لن يحتاج إلى من يدافع عنه أو يهاجمه.

ومن هنا يمكننا أن ننطلق من الإشكالية التالية لندع شيخ الإسلام يرد ويجيبنا بنفسه:

  • هل فعلا ابن تيمية يحب المتصوفة أم العكس؟
  • هل يراهم على صواب أم على ضلال؟ إذا كانت الإجابة بلا [أي يراهم على خطأ] فما التعديلات والحلول التي قدمها ليعدل هذا الخطأ؟
  • إذا كان هناك خلاف أو اختلاف حول التصور العقائدي بين المتصوفة وابن تيمية؛ فكيف تصرف أو تعايش شيخ الإسلام مع ذلك؟ هل كان السلم والسلام عنوانه أم السيف والسلاح حله؟

لمحة عن التصوف:

من المتفق علیه أن علم التصوف من العلوم الإسلامیة  إلى جانب الفقه والكلام وغیرها، وقد عد بعض الباحثین علم التصوف أحد العلوم الشرعیة، فإذا كان اختصاص الفقه أحكام الأفعال الخارجیة، اختُص التصوف بالأفعال الباطنیة. فیما ذهب آخرون إلى جعله مقابل علم الكلام والفلسفة من حیث أن التصوف له منهج خاص بالمعرفة یعتمد على التصفیة والحدس، فیما یعتمد علم الكلام على الجدل، والفلسفة على البرهان. والمعرفة الصوفیة تهدف أساسا إلى معرفة الله تعالى، فیذهب المتصوفة إلى أن المعرفة بالمخلوق تأتي من المعرفة بالخالق، بخلاف منهج المتكلمین القائم على النقل، والفلاسفة القائم على العقل. فكلاهما یستدل بمعرفة المخلوق على معرفة الخالق، فیما یعتمد التصوف المنهج الاستدلالي متجاوزا العقل والنقل معا.[2]

یرفض المتصوفة العقل كوسیلة للمعرفة الصوفیة، ومنشأ هذا الرفض لیس عدم الإیمان بقدرات العقل، بل إن كثیرا منهم یؤكد على أهمیة العقل ویذكر الأحادیث النبویة الواردة في مدحه، إلا أن هدف التصوف معرفة الذات الإلهیة، وهي معرفة غیبیة خارجة عن نطاق العقل الإنساني وإمكاناته المحدودة. وهي الخطوة الأولى والأساسیة لمعرفة الوجود، “إن التصوف -عبر تطوره- أخرج فلاسفة متصوفة مثل ابن عربي وغيره، كان عنوان فلسفتهم الأشهر هو (وحدة الوجود)، التي حذر منها السراج والقشيري وغيرهما، إذ قالوا: إن الجمع بلا تفرقة زندقة، والتفرقة بلا جمع تعطيل، وقصدوا بذلك التأكيد على عدم الخروج بتعميمات فلسفية لحالة الصوفي الشعورية في درجة الجمع أو الفناء.

وأكد الغزالي على هذا إذ صرح بأن محاولة التعبير لغة أو لفظا عن المقام النهائي للعارف يؤدي إلى خطأ صريح لا يمكن الاحتراز منه… ولهذا قيل بأن فلسفة المتصوفة ناتجة عن محاولة العقل النظري، لتفسير التجربة الصوفية الشعورية الوجدانية… إن الصلة بين التصوف والفلسفة -تاريخيا- لم تكن حادة التناقض، والسبب الرئيس في هذا هو الدور الذي لعبته نظرية الاتصال عند فلاسفة الفيض منذ الفارابي حيث ظهر عندهم نزوع صوفي في تفسير المعرفة.”[3]

أسباب نشئة التصوف عند ابن خلدون

كما یعد مبحث التصوف من المباحث المهمة التي ظهرت في الفكر الإسلامي إلى جانب الفقه وعلم الكلام والفلسفة. وقد أثار هذا العلم جدلا كبیرا بین الباحثین في الفكر الإسلامي سواء من العرب والمسلمین أو المستشرقین حول مفهومه ومصطلحاته ومصادره ومناهجه ومرجعیاته. یرجع ابن خلدون أسباب نشوء التصوف في العالم الإسلامي إلى هیمنة المادة على الإنسان وتراجع القیم الأخلاقیة عما كان علیه جیل الصحابة، وانتشار الأهواء والنحل والصراعات حول السلطة، وتهافت الناس على المكاسب الدنیویة بشكل غیر مسبوق، فلم یجد الإنسان أمامه من حل سوى الارتماء في أحضان التصوف والابتعاد عن مشاغل الدنیا، والدخول في الممارسة العرفانیة قصد الحصول على السعادة الوجدانیة والراحة النفسیة والاستمتاع بالصفاء النوراني والاحتماء بالحضرة الربانیة.[4]

وبالتالي، فالتصوف هو تجربة فردية يعيشها الشخص المتصوف، هذه التجربة تختلف من شخص لآخر، تقوم الصوفيات [على اعتبار أن لكل تجربته الخاصة كما قلنا] على تزكية الذات والارتقاء بها إلى أسمى مراتبها إلى درجة القول بفكرة الحلول [التي استُشهد الحلاج بسببها] أي أن الله حل في بعض مخلوقاته؛ وهذا قد يؤدي بنا إلى فكرة وحدة الوجود عند ابن عربي الذي يرى أن لا حقيقة ولا وجود إلى للخالق سبحانه وما عداه وهمي زائف.

هل ابن تيمية يحب التصوف والصوفية ؟

مدح شيخ الإسلام الصوفية قائلا: “وأما أئمة الصوفية والمشايخ المشهورون من القدماء: مثل الجنيد بن محمد وأتباعه، ومثل الشيخ عبد القادر وأمثاله، فهؤلاء من أعظم الناس لزوما للأمر والنهي، وتوصية باتباع ذلك، وتحذيرا من المشي مع القدر، كما مشى أصحابهم أولئك، وهذا هو [الفرق الثاني] الذي تكلم فيه الجنيد مع أصحابه. والشيخ عبد القادر كلامه كله يدور على اتباع المأمور وترك المحذور، والصبر على المقدور، ولا يثبت طريقا تخالف ذلك أصلا لا هو ولا عامة المشايخ المقبولين عند المسلمين، ويحذر من ملاحظة القدر المحض بدون اتباع الأمر والنهي، كما أصحاب أولئك الصوفية الذين شهدوا القدر وتوحيد الربوبية، وغابوا عن الفرق الإلهي الديني الشرعي المحمدي، الذي يفرق بين محبوب الحث ومكروهه، ويثبت أنه لا إله إلا هو.”[5]

رد ابن تيمية على من نسب للحلاج كلاما مفاده أن العالم حديث وأن لا قديم مع الله [أصل التوحيد عند المعتزلة] واعتبر شيخ الإسلام أن هذا الكلام يتناقض ومسألة الحلول التي اشتهر بها الحلاج. ورغم أنه بدع المتصوفة في هذا المقام أيضا إلا أننا اعتبرنا مسألة الاستنكار لهذا الكلام دفاعا عن الحلاج [رغم أنه قال: في كثير من كلامه فساد واضطراب…]، يقول مبينا أن الحلاج لا يمكن أن يقول بحدوث العالم: “قلت: هذا الكلام –والله أعلم- هل هو صحيح عن الحلاج أم لا؟ فإن في الإسناد من لا أعرف حاله، فقد رأيت أشياء كثيرة منسوبة إلى الحلاج من مصنفات وكلمات ورسائل، وهي كذب عليه لا شك في ذلك، وإن كان في كثير من كلامه/الثابت عنه فساد واضطراب، لكن حملوه أكثر مما حمله، وصار كل من يريد أن يأتي بنوع من الشطح والطّامات يعزوه إلى الحلاج، لكون محله أقبل لذلك من غيره، ولكون قوم ممن يعظم المجهولات الهائلة يعظم مثل ذلك…”[6]

الإشادة بطريقة الجيلاني عند الصوفية

وقد استشهد شيخ الإسلام في معرض حديثه عن المتصوفة ومحاججة طريقتهم بالجيلاني الذي يرى أن أول ما يحتاجه العبد هو معرفة من صنع المصنوع ومن أحدث المحدَث، وأن يميز بين صفات الخالق والمخلوق كي يتجنب السالك الوقوع في الاتحاد والحلول، بعدها علق على كلام أبي القاسم ومدحه قائلا: “وهذا كلام حسن يناسب كلام الجنيد، وقد ضمن هذا الكلام التمييز بين المخلوق والخالق، لئلا يقع السالك في الاتحاد والحلول، كما وقع فيه طوائف، وذكر أصلين: التصديق والانقياد… وهذا من أصول أهل السنة، وأئمة المشايخ، خصوصا مشايخ الصوفية، فإن أصل طريقتهم الإرادة التي هي أساس العمل، فهم في الإرادات والعبادات والأعمال والأخلاق أعظم رسوخا منهم في المقالات والعلوم، وهم بذلك أعظم اهتماما، وأكثر عناية، بل لم يدخل في ذلك لم يكن من أهل الطريق بحال.”[7]

إذن، فقد أشاد ابن تيمية بطريقة الجيلاني التي توافق أهل السنة؛ لأن الدين والإيمان [من وجهة نظرهما] قول وعمل، وبالتالي، شيخ الإسلام لا يختلف مع من لا يخرج عن أن الدين –كما قلنا- قول وعمل؛ ويمتثل للأمر والنهي واجتناب الفواحش….

هل ابن تيمية يكره التصوف و الصوفية ؟

يقول شيخ الإسلام: “وأما زيارة القبور والأنبياء والصالحين لأجل طلب الحاجات منهم، أو دعائهم أو الإقسام بهم على الله، أو ظن أن الدعاء أو الصلاة عند قبورهم أفضل منه في المساجد والبيوت، فهذا ضلال وشرك وبدعة باتفاق أئمة المسلمين، ولم يكن أحد من الصحابة يفعل ذلك، ولا كانوا إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم يقفون يدعون لأنفسهم، ولهذا كره ذلك مالك وغيره من العلماء، وقالوا إنه من البدع التي لم يفعلها السلف…”[8].

وبالتالي فشعائر المتصوفة التي تقوم على زيارة القبور وغيرها مما أورد شيخ الإسلام في كلامه ضلال يؤدي إلى شرك ومن تم بدعة، ومنه فالتصوف ضلال وبدعة وشرك!

بعد التبديع والاتهام بالشرك والضلال ينتقل ابن تيمية إلى مخاطبة المقصودين مباشرة مع المبالغة في وصف طقوسهم مستبعدا أن التصوف الحقيقي ما هو إلا تجربة شخصية فردية، قد يخطأ البعض [على اعتبار كلام شيخ الإسلام صوابا] لكن ليس الجميع كذلك، يقول: “وكذلك الغلو في بعض المشايخ: إما في الشيخ عدي ويونس تقي والحلاج أو غيرهم، بل الغلو في علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- ونحوه، بل الغلو في المسيح -عليه السلام- ونحوه.

الغلو عند الصوفية من وجهة نظر ابن تيمية

فكل من غلا في حي، أو في رجل صالح؛ كمثل علي –رضي الله عنه- أو عدي أو نحوه، أو في من يعتقد فيه الصلاح، كالحلاج أو الحاكم الذي كان بمصر، أو يونس التقي ونحوهم، وجعل فيه نوعا من الإلهية مثل أن يقول: كل رزق لا يرزقنيه الشيخ فلان ما أريده، أو يقول إذا ذبح شاة: باسم سيدي، أو يعبده بالسجود له أو لغيره، أو يدعوه من دون الله تعالى؛ مثل أن يقول: يا سيدي فلان، اغفر لي أو ارحمني أو انصرني أو ارزقني، أو أغثني أو أجرني، أو توكلت عليك، أو أنت حسبي، أو أنا في حسبك، أو نحو هذه الأقوال والأفعال؛ التي هي من خصائص الربوبية التي لا تصلح لله تعالى –فكل هذا شرك وضلال يستثاب صاحبه، فإن تاب وإلا قتل. فإن الله إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لنعبد الله وحده لا شريك له، ولا نجعل مع الله إلها آخر. (395/3)

والذين كانوا يدعون مع الله آلهة أخرى-مثل: الشمس والقمر والكواكب، والعزير والمسيح والملائكة، واللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى، ويغوث ويعوق ونسر، أو غير ذلك- لم يكونوا يعتقدون أنها تخلق الخلائق؛ أو أنها تنزل المطر، أو أنها تنبت النبات، وإنما كانوا يعبدون الأنبياء والملائكة والكواكب والجن والتماثيل المصورة لهؤلاء، أو يعبدون قبورهم، ويقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، ويقولون: هم شفعاؤنا عند الله.

فأرسل الله رسله تنهى أن يدعى أحد من دونه، لا دعاء عبادة، ولا دعاء استغاثة، وقال تعالى: {قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا. أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذاب إن عذاب ربك كان محذورا.}[الإسراء،56-57].(396/3)”[9]

ما وقف فيه عامة المتكلمين من الخطأ في مسمى التوحيد وأنواعه عند الصوفية

أدرج شيخ الإسلام في باب معنون بـ [بيان ما وقف فيه عامة المتكلمين من الخطأ في مسمى التوحيد وأنواعه] المتصوفة؛ يبين خلل اعتقادهم -إلى جانب المتكلمين الذين لم ينالوا رضا شيخ الإسلام (هذا ليس موضوعنا)- معبرا عن رفضه لفكرة الربوبية أي فكرة أن التوحيد والقول بوحدانية الخالق سبحانه وأن لا إله إلا هو هي الأساس والغاية التي يجب أن ينطلق منها المسلم ويتشبث بها، فالمتصوفة يرون أن التشبث بالخالق والاعتراف بوحدانيته وأنه مالك كل شيء وأن العارف بالله [المتصوف] الذي يسعى إلى مقام الفناء والذي يُقصد منه الترفع عن كل ما هو دنيوي والتشبث بكل ما هو إلهي روحاني رمزي، خصوصا أن “التصوف في جوهره هو أعلى صور التسامي، كما هو أعلى صور الجهاد والفداء”[10].

كل هذا في نظر ابن تيمية أشد من الشرك بالله سبحانه وتعالى! يقول:”وكذلك طوائف من أهل التصوف، المنتسبين إلى المعرفة، والتحقيق والتوحيد، غاية ما عندهم من التوحيد هو شهود هذا التوحيد، وأن يشهد أن الله رب كل شيء ومليكه وخالقه، ولاسيما إذا غاب العارف بموجوده عن/وجوده، وبمشهوده عن شهوده وبمعروفه عن معرفته، ودخل في فناء توحيد الربوبية بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، فهذا عندهم هو الغاية التي لا غاية وراءها.

ومعلوم أن هذا هو تحقيق ما أقر به المشركون من التوحيد، ولا يصير الرجل بمجرد هذا التوحيد مسلما، فضلا عن أن يكون وليا لله، أو من سادات الأولياء.

وطائفة من أهل التصوف والمعرفة يقررون هذا التوحيد مع إثبات الصفات، فيفنون في توحيد الربوبية مع إثبات الخالق للعالم، والمباين لمخلوقاته، وآخرون يضمون هذا إلى نفي الصفات، فيدخلون في التعطيل مع هذا، وهذا شر من حال كثير من المشركين.”[11]

أوردنا الجزء الأول من استبعاد ابن تيمية فكرة حدوث العالم عن الحلاج معتبرين أنه دافع بهذا عنه، انتقل بعدها لاستعراض كلام الغزالي عن الصوفية التي قسمها إلى قسمين: الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع الله، والصنف الثاني كلمات من الشطح غير مفهومة… بعدها انتقل إلى التعليق ومن بين ما قاله: “وقد يقال: إن هذا الكلام فيه من الشطح ما فيه. ومازال أهل المعرفة يعيبون الشطح الذي دخل فيه طائفة من الصوفية. حتى ذكر ذلك أبو حامد في [إحيائه] وغيره، وهو قسمان: شطح: هو ظلم وعدوان، وإن كان من ظلم الكفار. وشطح: هو جهل وهذيان، والإنسان ظلوم جهول… قلت: وهذا الكلام المحكي عن الحلاج فيه ما هو باطل، وفيه ما هو مجمل محتمل، وفيه ما لا يتحصل له معنى صحيح بل هو مضطرب، وفيه ما ليس معناه فائدة، وفيه ما هو حق، لكن اتباع الحق من غير طريق الحلاج أحسن وأشد وأنفع….”[12]

رأيي ابن تيمية بمأساة الحلاج

يعتبر شيخ الإسلام مأساة الحلاج جزاء يستحقه لأن عقيدته غير سليمة وخارجة عن العقيدة الإسلامية، فالحلاج –حسب وجهة نظر ابن تيمية- من أهل الإلحاد يستحق ما ناله جراء فساده، كما يعد أن من يدافع عن الحلاج ويتنكر لما حصل له ضال جاهل لا يفقه في أصول العقيدة حرفا، وهنا تستوقفنا مجموعة من التساؤلات من قبيل: هل فعلا الحلاج ملحدا رغم أنه مؤمن بالله ورسوله؟! ألم يُرو عنه صلى الله عليه وسلم أنه من مات على الشهادتين دخل الجنة؟! هل فعلا أجمع المسلمون على فسق عقيدة الحلاج أو أصحاب الحلول عامة؟! بأي معيار حكم شيخ الإسلام على المتصوفة أمثال الحلاج بالكفر [الإلحاد] ألم يكن الخلاف والاختلاف سمة ميزت المسلمين منذ وفاته صلى الله عليه وسلم؟! لماذا يحاكم شيخ الإسلام الحلاج مرة أخرى رغم ما بينهما من قرون؟! ثم هل فعلا من اعتبر أن مأساة الحلاج ظلما من الجانب الإنساني بعيدا عن الخلافات العقدية كافر مرتد!! ومعلوم ما هو عقاب المرتد ….. “سئل شيخ الإسلام-قدس الله روحه: ماذا تقول أئمة الإسلام في الحلاج؟ وفي من قال: أنا أعتقد ما يعتقده الحلاج: ماذا يجب عليه؟ ويقول: إنه قتل ظلما كما قتل بعض الأنبياء، ويقول: الحلاج من أولياء الله. فماذا يجب عليه بهذا الكلام، وهل قتل بسيف الشريعة؟

فأجاب:

الحمد لله، من اعتقد ما يعتقده الحلاج من المقالات التي قتل الحلاج عليها فهو كافر مرتد باتفاق المسلمين، فإن المسلمين إنما قتلوه على الحلول والاتحاد، ونحو ذلك من مقالات أهل الزندقة والإلحاد، كقوله: أنا الله، وقوله إله في السماء وإله في الأرض…. والحلاج كانت له مخاريق وأنواع من السحر، وله كتب منسوبة له في السحر. وبالجملة، فلا خلاف بين الأمة أن من قال بحلول الله في البشر، واتحاده به، وأن البشر يكون إله، فهو كافر مباح الدم، وعلى هذا قُتل الحلاج….

وقول القائل: أنه قتل ظلما، قول باطل، فإن وجوب قتله على ما أظهره من الإلحاد أمر واجب باتفاق المسلمين، لكن لما كان يظهر الإسلام ويبطن الإلحاد إلى أصحابه، وصار زنديقا، فلما أخذ وحبس أظهر التوبة، والفقهاء متنازعون في قبول توبة الزنديق، فأكثرهم لا يقبلها، وهو مذهب مالك وأهل المدينة، ومذهب أحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو أحد القولين في مذهب أبي حنيفة، ووجه في مذهب الشافعي، والقول الآخر تقبل توبته.

وقد اتفقوا على أنه إذا قتل مثل هذا لا يقال: قتل ظلما.

وأما قول القائل: إن الحلاج من أولياء الله، فالمتكلم بهذا جاهل قطعا، متكلم بما لا يعلم، لو لم يظهر من الحلاج أقوال أهل الإلحاد، فإن ولي الله من مات على ولاية الله، يحبه ويرضى عنه، والشهادة بهذا لغير من شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، لا تجوز عن كثير من العلماء أو أكثرهم….

فإذا جوز أن يشهد لبعض الناس أنه ولي الله في الباطن، إما بنص وإما بشهادة فالحلاج ليس من هؤلاء، فجمهور الأمة -يطعن عليه ويجعله من/ أهل الإلحاد- إن قدر على أنه يطلع على بعض الناس أنه ولي الله، ونحو ذلك مما يختص به أهل الصلاح….

ومن أعظم الإيمان والتقوى أن يتجنب مقالة أهل الإلحاد –كأهل الحلول والاتحاد- فمن وافق الحلاج على مثل هذه المقالة، لم يكن عارفا بالإيمان/والتقوى، فلا يكون عارفا بطريق أولياء الله، فلا يجوز أن يميز بين أولياء الله وغيرهم.”[13]

خلاصة

خلصنا إلى ما يلي:

  • ابن تيمية مدح الجيلاني [الحنبلي] وليس التصوف كله.
  • أثنى على المتصوفة الذين لم يخالفوا القرآن والسنة [من وجهة نظره هو] أمثال الجنيد البغدادي (ت298ه) وأتباعه وعبد القادر الجيلاني(ت561ه) وأتباعه
  • ابن تيمية كفر وبدع وزندق من يقول بالحلول ومن يدافع عن مأساة الحلاج [لأنه يستحق ما حصل له]
  • في معرض حديثه عن بدع المتصوفة، يدرج معهم الفرق الكلامية [ليست موضوعنا] وبالتالي كل من خالف عقيدة ابن تيمية هو ضال مبتدع…

الهوامش

[1] أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، المعروف بالجيلاني والكيلاني، (470-561)هو إمام صوفي وفقيه حنبلي، تنتسب له الطريقة القادرية الصوفية.

[2](محمد علي محمد رضا) الحكيم، المعرفة عند الصوفية، مجلة مركز دراسات الكوفة /جامعة الكوفة، مجلة فصلية محكمة، العدد39 سنة2015، ص77-78.

[3](ناجي حسين)جودة، المعرفة الصوفية دراسة فلسفية في مشكلات المعرفة، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 2006، ص125-126.

[4][4]محمد علي محمد رضا) الحكيم، المعرفة عند الصوفية، مجلة مركز دراسات الكوفة /جامعة الكوفة، مجلة فصلية محكمة، العدد39 سنة2015، ص 64-65.

[5] (تقي الدين أحمد) ابن تيمية الحراني، مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وساعده ابنه محمد، المجلد الثامن، الناشر مجمع الملك فهم لطباعة المصحف الشريف،فهرسة مكتبة الملك فهد الوطنية، سنة 2004، ص 369.

[6] (أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم) ابن تيمية، الاستقامة، الجزء الأول، تحقيق محمد رشاد سالم،الناشر إدارة الثقافة والنشر بالمندينة الجامعية –المملكة العربية السعودية، الطبعة الثانية 1991، ص 119.

[7] الاستقامة، ص 144.

[8] ابن تيمية، مجموعة الفتاوى، ج17، جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم وابنه، الناشر مجمع الملك فهم لطباعة المصحف الشريف، فهرسة الملك فهد الوطنية، طبعة 2004، ص471.

[9] (تقي الدين أحمد) ابن تيمية الحراني، مجموعة الفتاوى لشيخ الإسلام، اعتنى بها وأخرج أحاديثها عامر الجزار وأنور الباز، الجزء الثالث، الناشر دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع-ج.م.ع-المنصورة، الطبعة الثالثة1426/2003،،ص 244/245.

[10] (طه عبد الباقي) سرور، الحلاج شهيد التصوف الإسلامي، الناشر مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة القاهرة-مصر، طبعة 2012، ص 176.

[11]مجموعة الفتاوى، ج3، عناية عامر الجزار وأنور الباز، الناشر دار الوفاء-المنصورة،الطبعة الثالثة 2005، ص 70/71.

[12] الاستقامة، مرجع سابق، ص 121.

[13] (تقي الدين أحمد)ابن تيمية الحراني، مجموعة الفتاوى، ج2، اعتناء عامر جزار وأنور الباز، ص 290/291/292/293.

فيديو مقال “ابن تيمية شيخ الإسلام” وادعاء حب/كره الصوفية

أضف تعليقك هنا