الجسد المعاصر بوصفه آلة راغبة

“استيقظ غريغور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه وقد تحول في فراشه إلى حشرة هائلة الحجم[1]”.

رواية المسخ ل”كافكا”

بهذا المعطى يستهل “كافكا2 ” روايته “المسخ”، مُقدما لنا نموذجا رهيبا لتحوّل راغب، تحوّل وإن لم يتقبله “سامسا3” لإفراطه المخيف والمرعب شكلا، فإنه يتبدى نتاجا شكليا طارئا لرغبة مُلحة في الخروج عن قوانين مجتمعه التي تقتل إنسانيته وتنتهك جسده وذاته. يجعل بطل الرواية من تحوله الحشري وسما جماليا لرغبة رائعة، مُقيّدة داخل فضاء مغلق مُروّع، ومُرفقة بـ”وعي”، وشرط “الوعي” الذي أقره “سبينوزا 4” لاكتمال المعنى الرغبوي قد تملّكه “سامسا”، غير أنّه تحوّل لدفق زائد قطع منه جسده القديم وألبسه آخر غروتيسكي، فعجز عن فهم طرق اشتغاله وكيفية تحريكه، لينتهي به الأمر لقتل آلته الراغبة تلك، أي قطع ذلك الدفق العاقر الذي نمى في غير محله، فخلف من بعده الفراغ والقحط.

الصورة رقم 01: فرانز كافكا، المسخ
الصورة رقم 01: فرانز كافكا، المسخ

مقارنة بين عمل “كافكا” وعمل الفنان “كريس بوردن”

إنّ الموت البيولوجي الذي تقبله “سامسا” وأدرك حتمية وقوعه على يد أقرب الناس إليه، مرده الدفق المفرط للـ”كوناتيس5Conatus والطاقة الراغبة التي اصطدمت بأنظمة مجتمعه المرعبة، فجعلت منه حشرة مقيته وكريهة. هذا الموت الرمزي نجد تباشيره كذلك عند الفنان الأدائي “كريس بوردن6Chris Burden، حيث يعمد إلى ممارسة نفس الحكم الذي أقره “سامسون”على نفسه، أي قطع ذلك الدفق البيولوجي في عمله الأدائي Shot of the name of art سنة1971 ،عبر طلق ناري اخترق كتلته اللحمية من بندقية صديقه، الذي شاركه حدثه الأدائي وأسند له وظيفة القطع والتفكيك. فالدفق الدموي، الذي يسيل من ذراعه بفعل الرصاصة، إشارة لموت تدريجي لجسد منهك وهش، وتلك الندوب هي قتل لأعضائه حتى يصير “جسدا بلا أعضاء” Corps sans organs كأحد النظريات  التي أخذها “جيل دولوز7”  بالبحث والتمحيص، ليطل علينا بالتالي كجسد منحل ومفتوح بشكل دائم، قابل للتركيب والتعديل المتواصل.

 

تجربة الموت في فن “كافكا” والفنان “كريس بوردن”

الصورة رقم 02:كريس بوردن،  Shot in the name of art، 1971

إذن، ترتبط تجربة الموت الرمزي عند “كافكا” و”كريس بوردن” Chris Burden دوما بفعل القطع، أي قطع دفق عضو معطل لصالح عضو آخر، يُنتج  بدوره دفقه من رماد الموت والتلاشي، كما أنّ كل رصاصة موجهة إلى جسد الفنان هي في الحقيقة طاقته الراغبة التي تصارع هشاشة الجسد وتصطدم به وتستنزفه  لصالح آلة راغبة أقوى وأقدر من الأولى.

إنّ مفهوم الآلات الراغبة Les machines désirantes  لـ”جيل دولوز” وشريكه في الكتابة “فيليكس غوتاري8” يُبشر بجسد أعضاءه في تغيّر مستمر، قائم على التنضيد الرغبوي، يُنتج تدفقات تُقطع لصالح أعضاء أخرى، فالأثداء آلات تنتج دفقها من الحليب، يقطعه الفم كآلة من الحلمة، والتي بدورها تتزاوج مع آلة المعدة وهكذا دواليك، دفق يتلوه قطع، يتلوه دفق، فعود على بدء.في ذات السياق يعمد الفنان الإيطالي “فرنكو ب 9Franko B  في عملة الأدائي I miss you إلى فتح أوردة ذراعيه ثم المشي جيئة وذهابا على المنصة وأمام الجمهور وهو ينزف ،ففي كل خطوة يخطوها  الفنان  يُسقط دفقه دما  يُلوّث به بياض الأرض، والبياض هنا تيمة العذرية، وكل قطرة دم تنزل هي طاقة راغبة تقتطع بكارة الأرض، أي مجال الإسفال والتخفيض، لتطرح دفقا آخر يمتزج فيه الدم بالأرض، أي المتعالي بالسفلي المُحايث.

الجسم الرغبوي عند “دولوز”

الصورة رقم 03: فرنكو ب ،( I miss you، ، (1999-2005
الصورة رقم 03: فرنكو ب ،( I miss you، ، (1999-2005

تُساءل إذن تلك التجارب الأدائية المنظومة الجسدية وتطرح إمكانية مراجعة كفاءتها، عبر كشف هشاشتها وخورها البيولوجي، مُبشرة بالتالي بجسد بلا أعضاء، أي جسدا مفتوحا قابلا للتغيير والإصلاح، بلا بداية أو نهاية، جسد ينمو كـ”جذمور” “دولوز” من الوسط، يبحث في ترحاله الرغبوي عن بدائل يحقق بها فرادته عبر منظومة بنيوية قائمة على الإرتصاف، أي إلتقاءات لأعضاء تشطب الاختلاف وتُلغي الحدود بين المجال البيولوجي والتقني الآلي. إنّ الراهن الفني اليوم راهن راغب، يتشكل من القطائع والتدفقات، يُخضع عندها الفنان كتلته النابضة للتجريب والملاحظة والتعديل في مجاوزة لتلك الهشاشة، وسحب الجسد من تخوم العطالة، مقابل التبشير بعصر الجسد الرغبوي الفائق.

الهوامش:

[1]– فرانز كافكا، ترجمة ابراهيم وطفي، الانمساخ، ص 11، منشورات وطفي، دمشق، 2014.

2فرانز كافكا Franz Kafka (1883-1924): كاتب نمساوي. يعد أحد أهم أدباء القرن العشرين. تعد روايته “المتحول” Métamorphose من بين أعماله التي لاقت نجاحا لافتا.

3-غريغور سامسا، بطل رواية المتحول.

4- باروخ سبينوزا  بالهولندية  : Baruch Spinoza  فيلسوف هولندي من أهم فلاسفة القرن 17.

5- كوناتيس  conatus: في المصطلح السبينوزي تشير بشكل عام الى القدرة او الجهد الذي يسمح لكل كائن أن يوجد ويفعل وبان يحفظ وجوده واستمرارية فعله. انها بمعنى قدرة انتاجية وابداعية تمتلكها الرغبة كي تصبح بإمكانها أن تعبر عن نفسها عبر الفعل.

6- كريس بوردن Chris Burden   ( 1946–2015):  فنان أدائي أمريكي.

7-جيل دولوز Gilles Deleuze ( 1925–1995) هو فيلسوف فرنسي كتب في الفلسفة والأدب والأفلام والفنون الجميلة من أوائل الخمسينيات.

8-  فيليكس غوتاري  Félix Guattari ( 1930–1992) : فيلسوف فرنسي.

9-  فرنكو ب  Franko B   ( 1960–) : فنان أدائي ايطالي معاصر.

فيديو مقال الجسد المعاصر بوصفه آلة راغبة

 

أضف تعليقك هنا