القتل كجزء من طبيعة الإنسان

” مخبأة داخل اللاوعي، هناك رغبة ملحة عند الإنسان في القتال” يقول بروفيسور جيمس موريارتي لشارلوك هولمز عندما أراد هولمز إفشال خططه لتدليع حرب عالمية بين الدول، ” إذن أنت لا تحاربني بقدر ما تحارب الطبيعة البشرية. ما هي إلا مسألة وقت وسوف يبدأون بإشعال الحرب بأنفسهم.” المغزى من الاقتباس هي أن طبيعتنا الموروثة هي التي تدفعنا للإعتداء على الآخرين و القتل ، وليست ظروف خاصة ولا البيئة المنشأة.

إنها غريزة النجاة في داخلنا، حتى لا نقع فريسة لعدوان الآخرين و إقصائهم لنا في عالم لا يوجد فيه رحمة. مهما تطورنا نحن البشر، ومهما توسعت حضارتنا، وتثبتت أخلاقياتنا الاجتماعية، مهما تثقفنا وتعلمنا وتفلسفنا، لا تزال تلك الفطرة تجري في داخل كل واحد منا، في أصغرنا وأكبرنا، من الولادة حتى الموت.

لكن هل هذا صحيح فعلاً؟ وإن كان صحيحاً فلماذا لا نرى القتل والعدوان في حياة غالبية الناس اليوم؟ هل لأننا تعودنا على القوانين الحكومية منذ ولادتنا التي أخرجتنا من طبيعتنا الوحشية إلى بيئة ودودة مسالمة؟ أم إن أخلاقيات مجتمعنا وتربيات التي تلقيناها من أباءنا وأمهاتنا هي التي تمنعنا من أن نكون مفترسين؟ تعال معي إلى رحلة البحث عن الإجابة، وأعدك بأنها ستكون رحلةً فاتحةً للعقل ومُغذية للفضول وغنية بالمعاني والقيم.

القتل عند الفلاسفة

نبدأ رحلتنا من فلسفة الأخلاقيات عند الفيلسوف الالماني ايمانويل كانط. هذا الفيلسوف هو ندرة من الفلاسفة الذين عاشوا كما دعا إليها فلسفتهم، وطبقوا ما كان يخط قلمهم ويدعوا عليه ألسنتهم. فهو شخصٌ لم يكسر أبداً قواعده الأخلاقية التي وضعها في كتبه الثلاثة (أسس غيبيات الأخلاق، نقد العقل العملي، ميتافيزيقا الأخلاق).

الأخلاق بالنسبة لكانط هو كل ما تم فعله أو قوله وفقاً ل”ضرورة قاطعة” عند الإنسان. ضرورة القاطعة تعني كل فعل أو قول لا بد منه وهو قاطع من الواجب وجوده في كل مكان وزمان وعند كل إنسان، وهو ضروري أيضاً لأن عدم تواجده وعند عدم تطبيقه سوف يؤدي إلى الفوضى وانهيار للمجتمعات البشرية. مثلاً، فعل عدم السرقة هو ضرورة قاطعة، ضروري لأنه لا يمكن العيش داخل مجتمع بشري لا يُطبق فيه أفراده تلك القاعدة، وهو قاطع يجب أن يطبق في كل زمان ومكان وعند كل إنسان (أي لا يمكن كسر القاعدة مهما كانت الظروف والأحوال ضيقة، حتى لو كان الإنسان يموت جوعاً، لا يباح له أن يسرق).

إذاً، كي تعلم إن كان فعلك وقولك أخلاقي أم غير أخلاقي، عليك أن تسأل نفسك هذين السؤالين:

  • هل سيتضرر المجتمع لو فعل وقال جميع الناس ما أفعله وأقوله الآن؟
  • هل أستطيع أن أفعله وأقوله في كل الأماكن والأزمان والأحوال من دون استثناء؟

إن كان جوابك للسؤال الأول بلا وللسؤال الثاني بنعم، فإنك في طريق صائب وفعلك وقولك هو أخلاقي، وإذا كان العكس فأنت ربما تفعل وتقول شيئاً غير أخلاقي ومضر للمجتمع.

ملخص مفهوم القتل عند “كانط”

هكذا كان القتل بالنسبة لكانط، حيث أنه غير مسموح لأي إنسان أن يقتل الآخر أو يعتدي عليه في جميع الأماكن والأزمان وفي شتى الظروف. سوف ينهار المجتمع عاجلاً أم آجلاً لو فعل جميع الناس هذا.

بالرغم من ذلك، إلا إننا سرعان ما سوف نقع في مأزق إن طبقنا ذلك القانون الأخلاقي في كل الأحوال. ماذا لو كان هناك مثلاً شخص ما يحاول قتلك، ألا يجب عليك أن تدافع عن نفسك وتفعل المثل له؟ ألم يبح الإسلام قتل مسلم آخر كدفاع عن النفس؟

من الجدير ذكره إن كانط ظن أن الأخلاقيات تنبع من داخل الإنسان وآتية من طبيعته الموروثة. هذه الأخلاقيات تطورت عند البشر لكي يتواصلوا ويتفاعلوا مع البعض بشكل أسهل من دون إظهار علامات العداء ضد الأصدقاء. إنها وسيلة لتكوين الصداقات وتوسيع المجتمع والحفاظ على الوحدة البشرية.

القتل جزء من طبيعة الإنسان

فكرة القتل كجزء من طبيعة الإنسان ليست جديدة، نرى مثلاً توماس هوبز، أحد فلاسفة السياسيين الانكليز، أعتقد بأن الحياة الإنسان في الطبيعة بغياب الحضارة والنظام والأخلاق كانت ” منعزلة، فقيرة، سيئة، وحشية، وقصيرة.”

كان الإنسان يعيش في خوف وخطر دائم من الإنسان الآخر، وأُزيل هذا العائق عندما تكونت المدن وتوسعت المجتمعات إلى أكثر من عائلة وقبيلة. بدأ الإنسان حينها بوضع قوانين مدنية وأخلاقيات عالمية لجذب البشر من مختلف الأصناف واللغات والخلفيات للعيش بالقرب من بعضهم البعض.

لكننا حتى لو اعترفنا بظهور الأخلاقيات من طبيعتنا الاجتماعية، هناك عديد من الأشخاص لا يتبعون تلك القواعد الاخلاقية التي وضعتها المجتمع والحكومة والبيئة العالمية الاجتماعية عامةً. لو اعترفنا بوجود برمجيات اخلاقية داخل عقولنا تمنع دوائر العصبية العدائية من التنشط عند تواجدنا داخل المجتمع، فنحن، بشكل باطني، نعترف أيضاً بوجود تلك الدوائر العصبية العدائية المبرمجة الوراثية داخل عقولنا التي تجعلنا مفترسين ووحشيين وقتلة. وإلا، ما فائدة الاخلاقيات إن لم تكن تمنعنا من إظهار غرائزنا العدائية ضد الآخرين؟ إن لم تكن السرقة والقتل والاغتصاب والغش ليست من طبيعتنا الموروثة، فما الداعي إذاً إلى وضع أخلاقيات تنفرنا من فعل تلك الأفعال المشينة؟

القتل عند العلماء

أظهرت دراسة اسبانية نقلتها مجلة الطبيعة (Nature) في عام 2016 إن هناك ميل واضح عند الرئيسيات لقتل أعضاء من نفس فصيلتهم. الرئيسيات هم الثدييات الذين يعيشون على الاشجار ويمتلكون أدمغة كبيرة نسبياً. فقد حللوا أكثر من 1020 فصيلة، وكذلك 600 جماعة سكانية بشرية قديمة رجوعاً حتى إلى العصر الحجري. وجدت الدراسة إن العداوة هي أكثر شيوعاً في الثدييات الذين يمتلكون سلوكيات اجتماعية وسلوكيات اقليمية. حوالي 2 بالمئة من الوفيات في اوائل البشر كانت مصدرها العداوة بين نفس الفصيلة.

على ماذا اختلف العلماء؟

أختلف العلماء في كون الميل جيني أم هو ميل بيئي وتربوي. لكن أكثرهم يعتقد أن القتل والعداوة عند الإنسان مصدرها جيني أكثر مما هو بيئي. فعبر الملايين من السنين، تطور الانسان ليظهر العداء ضد اي واحد يعتدي عليه وعلى عائلته وأرضه وممتلكاته. الشخص الذي لم يقدر على ذلك أو لم يظهر فطريا عنده تلك الغرائز القتل مات ولم يستطع أن ينقل جيناته إلى الجيل الآخر. بذلك، انقرضت الكائنات المسالمة وعجزت عن العيش داخل كائنات تطورت لتظهر تلك الغرائز.

هذه الدراسة لم تكن حديثة من نوعها، فهناك دراسة أخرى أجريت في عام 1960 وجدت أن أحفور ذات عمر مليوني سنة لم يكن صياداً ماهراً فقط، بل كان قاتلاً شرساً تمكن من دفع فصيلة قريبة من فصيلته إلى الإنقراض في سهول أفريقيا.

لو رجعنا قليلاً في التاريخ إلى الوراء، لأكتشفنا أن الطبيب النفساني الشهير سيغموند فرويد كان لديه نظرية أخرى عن القتل كجزء من طبيعة الإنسان. حيث أعتقد أن هناك قسمان للطبيعة الوراثية البشرية : غريزة الحياة وغريزة الموت.

تتمثل غريزة الحياة في الأفعال التي تُعزز بقاء الفرد والمجتمع على قيد الحياة. غرائز البقاء مثل التنفس، والأكل، والشعور بالألم عند الجراح، وكذلك غريزة الجنس التي تحفظ جينات الفرد وتُبقي المجتمع حياً.

أما غريزة الموت فهي رغبة الإنسان في الموت، في الفناء، وتتمثل في تصرفات مثل العدوان والتدمير. هذه الغريزة تكون مغلوبة في دماغ أغلبية البشر من قبل غريزة الحياة، لذلك استنتج فرويد أن غالبية الناس لا يقومون بالتعدي على أنفسهم أو الانتحار، وبالرغم من أن هذه الرغبة موجودة داخل الإنسان فإنها ضعيفة لا تؤدي لتدميره، لكنها ما زالت متفشية، وهي موجهة نحو الآخرين بدلاً عن الذات. هناك رغبة عارمة في داخلنا في الاعتداء على الآخرين وقتلهم، رغبة جامحة في تدمير الكون وأنظمته، رغبة في الفوضى والعشوائية، رغبة في الرجوع إلى ما قبل الولادة.

علينا أن نعيد توجيه عدائنا إلى شيء أكثر إيجابي

لنفترض أننا اعترفنا بوجود غريزة القتل داخل عقل الإنسان ولا نستطيع التخلص منه أبداً مهما حاولنا. هل نترك كل تلك القوانين الدولية ونطلق سراح وحشيتنا من دون جزاء؟ هل يمكننا تبرير الحروب بهذه الحجة؟ كيف يمكننا العيش في هذا العصر العولمي بسلام واطمئنان إن كنا نخاف من طبيعة جيراننا العدائي فضلاً عن المجتمعات البعيدة الأخرى؟ كيف نستطيع أن نسيطر على هذه الغريزة ونروضها حتى لا تدمر ترابط المجتمعات وتقارب الأمم؟

الجواب هو أنه يمكننا إعادة توجيه هذه الطاقة المكبوتة في داخلنا إلى شيء أكثر إبداعاً وفائدة. أظهر كونراد لورنز، خبير في علم ايثولوجيا (علم دراسة سلوكيات الحيوان في الطبيعة)، أن هناك بعض من الحيوانات لا تلجأ إلى القتل والعداء إطلاقاً، بل إلى عمليات التخويف والإستعراض العضلات للعدو من نفس الفصيلة فقط من دون قتله أو حتى اذيته. تقوم بعض من الطيور بإعادة توجيه هذا العداء إلى مبارزات الرقص واللعب من أجل كسب الأقليم أو الأنثى أو من أجل القيادة. أعطى لورنز انطباعاً في كتابه (عن العداء) أنه يمكن السيطرة على طبيعة العدوانية للإنسان وتحويله إلى شيء أكثر ايجابي وابداعي، وأستدل بالسباق الذي حصل بين السوفييت والأمريكان للصعود إلى الفضاء، وهي نتجت عن عداء أممي ومنافسة تقنية.

الخاتمة

اتضح في النهاية إننا فعلاً من نسل قابيل، لقد قتلنا إخواننا وأصدقاءنا وعائلتنا الذين لم يمتلكوا نفس الغرائز، ولم يتبادلوا نفس الغضب والكراهية (اللتان هما نذيران للقتل) معنا. القتل والعداء هما من طبيعة الإنسان، الأخلاق والرحمة هما أيضاً من طبيعة الإنسان، علينا إلا نيأس. من الصعب جداً بتقنيات هذا العصر أن نسيطر بالكامل على كراهيتنا وغضبنا وغرائزنا البدائية التي ساعدتنا يوماً ما في البقاء على قيد الحياة لكنها الآن أصبحت بلا فائدة لنا مع تطور الحضارات وتقاربها مع بعضها البعض. وحتى لو استطعنا أن نقلل من العدائية في جيل واحد من أجيال البشرية، فهذا ليس كفيلاً بأن ينتج منه جيل القادم أقل عدواناً.

ربما نقدر في يوم من الأيام أن نتلاعب في جيناتنا بمسؤولية وبمعرفة كاملة لنستئصل هذا الورم القديم من أدمغتنا البشرية حتى يتسنى لنا وللأجيال القادمة أن يتمتعوا بسلام شامل ومحبة تامة، عالم خال من الحروب والكراهية والعداء. لكن الآن، علينا أن نتعايش مع هذا الوحش الذي في داخلنا ونروضه على التهدئة إلى أن نجد علاجاً شافياً كافياً له.

فيديو مقال القتل كجزء من طبيعة الإنسان

 

أضف تعليقك هنا