رسالة إلى صغيرتي

بقلم: رغد غازي

” أيامٌ مشرقة , وليالٍ مظلمة “هكذا أجابت ميساء حين سُئلت “ماهو أبسط وصفٍ للحياة؟” , سؤال طرح عليها وهي تقف مرتدية سترة من الصوف الأبيض الناعم, والدافئ وبيدها كأسٌ من شاي الورد الساخن حتى تحتسيه بينما تتأمل قطرات المطر التي تبلل الأزهار في حديقة المنزل. (رسالة إلى صغيرتي). (اقرأ المزيد من المقالات على موقع مقال من قسم خواطر، وشاهد فيديوهات موقعنا على اليوتيوب).

أُولى ذكريات ميساء مع المطر

أُولى ذكريات ميساء مع المطر تعودُ إلى يومِ ولادتها الذي قضت طفولتها وهي تطلب من والدتها أن تحكي لها عنه مرارًا وتكرارًا, تقول أم ميساء “رأينا القمرَ يا صغيرتي يختبىء خلف الغيوم, وعوضًا عن استعداد الشّمس للشروق, أخذت السماءُ تسقي الأرض بقطرات المطرِ وتطرقُ نوافذنا لنفتحها فتدُخل إلينا, في تلك اللحظة وضعتُكِ وأطلقتي أولى صرخاتِك مُعلمة الجميع بأن طفلةَ القمرِ والمطر قد وصلت إلى العالم”. كلماتُها هذه كانت كفيلة بإشباع عيني ميساء الفضوليّة, وإرضاءِ قلبِها المحبّ للسماء والمطر.

ومن على لسانها سمعنا: “حين تُمطر السماء, أشعر أنها استجابة للطفل الكتوم, ودعوة إلى مشاركتها أساه ودموعه التي سيُخبئها المطر عن الناس, فالجميع يمشي ورأسه مغطى بالمظلة ومامن سبيل لرؤية وجوه الأخرين.”

روح الطفولة التي كانت تعيش داخل ميساء

يمثل الطفل ميساء الصغيرة , بكل ذكرياتها ومشاعرها, ضحكاتها ودموعها, ماتحب وتكره, يقبع طفلي الصّغير في أعمق نقطة من عقلي, بعيدًا عن متناول الأيدي, وهو طفلُ نضج حامله وتغيّرت حياته لكنه مازال متعلّقا بالماضي, تتردد على أذنيه كلمات مثل “ابتعدِ, أنتِ لستِ ابنتي” و “سوف أُقدّمك صدقة لمن يريد تربية طفل”. قد تكُون مزحة  لكنّها جرحت قلب الصغير وتركته ينزف سنواتٍ طوال, في الليالِ المظلمة تراه يبكي وحيدًا ولا وجود لمن يسمع صوته, فيحفظه في قلبه, ثمّ يغلق عينيه بعد أن أرهقه البُكاء ويقول “لا بأس, سأكبُر وأنسى” … وكبر, لكن لم ينسى بل تعلّم تجاهل الصوت المغمور في النّهار المشرق والعيش كأن لم يكن.

تتجسّد أمام الناظرين فتاة في منتصف العشرينات, يصفونها بالقوة وشيء من الغرور, أمّا أنا فأرى بنتًا في التاسعة ترتدي لباسًا زاهي الألوان, مستلقية تحت السماء وتقص لنفسها حكاية خيالية عن أزهارٍ تتحدث وتطلب هطول المطر فتقول “يا سماءُ امطري, وارويني فأنا عطشة” وترد السماء عليها قائلة “لا بأس يا بُستاني لن أبخلَ عليك” ثمّ تجمع غيومها وتطلب منها إنزال قطراتِها لتسقي الزهور البيضاء والبنفسجيّة والزرقاء, فتنزل القطرات ببطء ثم تزداد سرعتها بالتدريج, وهي تتراقص وتطرق برقة كلّ زهرة لتأذن لها بالدخول إليها وروي عطشها.

كيف كانت ميساء تقضي فترة المساء؟

هكذا كانت تقضي ميساءُ الصّغيرة فترة المساء بعد انهاء واجباتِها المدرسيّة ومشاهدة بعض أفلام الكرتون, تسرحُ بخيالها وتنسج قصصًا يسعدُ بها قلبها اللطيف, وحين يأتي وقت النوم تتوقف وتعود إلى أرض الواقِع فتذكُر أنها في الغدّ ستذهبُ إلى المدرسة مجددا, ويستعد الخوفُ المدفون لملىء أفكارِها مجددًا.

فيعيدها في البداية إلى يومِ اختبار القبول في المدرسة الابتدائية الّذي فشلت فيه أثناء المحاولةِ الأولى وكان السببُ القلق, ثمّ إلى انضمامها أخيرًا للمدرسةِ وبكاءها في الشّارِع رافضة للدخول لأن المديرة كانت كلّ صباح تقفُ خارج مكتبها في الدور الثالث وتصرخ على الجميع حتى ينضبطوا. منذ ذلك الحين تملكها الخوف من المدرسة والمعلّم والزملاء حتّى منعها عن التعرّف عليهم ومشاركتهم اللعب والمرح فاكتفت بالجلوس وحيدة طيلة اليوم.

كبُرت ميساء ولا تزال الذكريات الحزينة لا تفارِقها

مضى على تِلك الأيام أكثرُ من عشرة أعوام, واليوم تقف كشابّة يلمع الشّغفُ في عينيها, بينما تختبىء الصّغيرة داخل أعمقِ نُقطة في عقلها, الذكريات الحزينة القديمة والمخاوف مازالتْ محفوظة هناك, تظهر نفسها من حينٍ إلى حين خشية أن تظل للأبد مقيدة معذبة في الداخل, لم تكُن ميساء تعلمُ بوجود روح الطّفولة في جوفِها حتى صادَفتْ منشورًا بعنوان “الطفل الدّاخلي” يحكِي قصة مشابهة لقصّتها صغيرٌ كَبِر عمره وظلّت نفسُه كالوليد يطلُب الحبّ والاهتمام, حينًا يبكي وحينًا يفرحْ, ويأمل أن يُسمع صوته يومًا.

أيقظَ الموضوع روحَ الفضولِ المتعطّشة للمعرفة داخِلها, ودفعتها لقضاء ساعاتٍ طوال تقرأ تفاصيلَ عنه ثمّ تفكر بكيف يُعقل أن تصلِ للعقد الثّاني من عمرها وروحُها لم تتخطّى الأول بعد؟ وكيف لَها أن تتخطاه أو تقترب من ذلك وهي مازالت تجهل الطّريق المؤدي إلى صغيرتها؟ وإن كان حقًا .. فهلْ من وسيلة للوصول إلى (ميساء الصّغيرة)؟ هل تَقدِر على مخاطبَتِها وفهمها؟ أم أن السبيل مسدودْ ؟ فكّرت وفكّرت إلى أن قالت لنفسها “ماذا لو كتبتُ رسالةً لطِفلتي ثمّ قرأتها على نفسي بعد حين؟” نهضتْ ميساءُ مسرعة وتوجّهت إلى مكتبها, أمسكتْ قلمها المفضّل المُصمم على شكل حوت الاوركا, وبدأت تكتُب رسالةً تقولُ فيها

رسالة ميساء لابنتها المستقبلية

”  إلى: وليدة الشّتاء, وساعاتِ الفجر مرحبًا , صغيرتي ميسو روحيَ النّاعِمة, ومصدرُ شغفي, وخيالي, وعيني اللامِعة أكتبُ لكِ رسالتي وكُلي أمل بإعادة بناء الجسر المتهالِك بيننا, لأقتربْ منك وأمسك بيديكِ مجددًا. اليوم أنَا, أستمتع بصوت المطر ورائحته مع لذة الشاي الأبيض بالفانيلّا وأدندن أغنيتي المُفضلة ( يوم الربيع ), وأعيشُ أيّامي ماضية في رحلة طويلة بحثًا عن التّالي بعدما استلمت بيمناي شهادتي الجامعيّة وأقسمت بالإخلاص لمهنتي المستقبليّة. ربّما لا تعلمين ولكن العالَم أجتاحه وباءٌ يدعى كورونا, بلاءٌ قيّد الجميع في منازِلِهم خشية الإصابةِ به, وأرهقَ السّاعين على خدمة المرضى والباحثينَ عن العلاج. لستُ متأكدة لماذا أحكي لكِ عنه, ولكنّه الأمر المسيطر على الحديث هذا العام.

الهدف من رسالة ميساء لابنتها

على العموم, هدفِي من هذه الرسّالة هو أن أقول لكِ ( لا بأس ). لم أنسَ كيف بكيتي حُزنًا على وجود حاجزٍ يمنعك عن التحدث واللّعب مع أقرانك, وفُقدانك للإحساس بالمحبّة الصادقة, ولا قلقكِ وخوفك الدائم من الأخرين, لم يغبْ عن بالي أيٌّ من هذا وتفاصيل كثيرة تعلمُها كلانا جيّدا, لكن لا بأس. لابأس في الجلوس وحدك على أنْ تُرهقي نفسكِ ابتغاء تكوين علاقاتٍ مع الآخرين.لابأس في قلّة كلامِك على أن تُكثري من الحديث فتندمي على كلمةٍ نطقت بها.

لابأس في ألا تجدي صديقًا صدوقًا, فهؤلاء سيأتونْ في الوقتِ المناسب. لابأس في اختلاف اهتماماتِك عمن حولك, فكُّلنا مختلف وسنجد يومًا من يُشاركِنا. لابأس في البُكاء, لابأس في الشكوى, ولابأس في السؤال.لا تُحملي نفسك مالا طاقة لكِ به, ولا تشغلي بالَكِ قبل النوم بالتّفكير بهذه الأمورْ .. ستُحل العقد يومًا, وسترين حولِكْ أيدٍ ممتدة تمسك بيدك وتُعينك على السير في الطريق الطّويلة, أولى هذه الأيدي .. يداكِ اليمنى واليسرى, يدانا أنا وأنتِ, لأننا روحٌ واحدة.”

بقلم: رغد غازي

 

أضف تعليقك هنا