شيخُ المنوفية ” الأحمدي بن الحفني غزالة الأزهري ” #مصر

أجريتُ في كلامي عن أساتذتي الذين تشرفتُ بمعرفتهم أن أسوقه دون الالتزام بمذهبٍ معينٍ في كتابة الترجمة، وإنّما هي مشاهدُ مرئية لحالهم، ومشاعر فياضة يسجلها قلمي من حينٍ لآخر، فلا حرجَ إذا ما ألحّت عليّ عبق الذكريات أن أشرق وأغرب في تراجمهم، وجلّ مبتغاي أن أجدد الذكرى بمن عرفتُهم مِن العلماء، مع أنّي في غالب أحوالي أعترفُ بعجز قلمي عن إتيائه كلمات الشكر والتقدير في حقهم كما تجبُ، (شاهد المزيد من المقالات الإسلامية على موقع مقال في قسم إسلام )

ولستُ أزعم في هذه الكتاباتِ أنّها تعطي صورة متكاملة لهؤلاء البررة، وإنما قصاراي أن أرسم صورة نيرة حية لذوي الفضل والعلم تكاد أجيالٌ طالعةٌ تجهل جهودهم، كما أرجو بها أن تكون بدايةَ مشروعٍ يتكاتف فيه الجميع للالتفات إلى النابغين في كلّ فنون الحياة لتقييد حياتهم، خاصة مَن كانت لهم إسهاماتٌ واضحةٌ في المجال المعرفي.

أول لقاء مع الشيخ ” الأحمدي بن الحفني غزالة الأزهري “

كنتُ أسمع بعائلة سيدي أبي النصر القاوقجي من شيخي المعمر سيدي محمد بن سعد بدران الدمياطي، وأنّ بقايا أهله يقيمون في مدينة “شبين الكوم” بالمنوفية، وللأسرة القاوقجية جهودٌ متعددةٌ في العلم، وبفضل الاهتمامات بالأُسر العلمية حاولتُ الوصول إلى هذه الذرية، وعرفتُ أن حفيدة المسند الكبير أبي النصر القاوقجي على قيد الحياة، ولم يَجُل بخاطري ساعتها أنْ تنشأ بيني وبين أفراد عائلتها صلةٌ، ناهيك عن أن تتطور إلى صداقةٍ حميمةٍ وزيارات متواصلة.

أجل، عرفتُ أنّها تقيم في مدينة “شبين الكوم” مع أفراد عائلتها، فأسرعتُ لزيارتها بهذه المحافظة الحافلة بالعلماء والنجباء في شتى الميادين، وكان دليلي إلى بيتها سائق التاكسي الذي أشار إلى منزلها، وأنّها تقيم مع زوجها، وعندما طرقتُ الباب، فتح لي رجلٌ كبيرُ السنّ عرفني بنفسه، وأنه زوج السيدة فاطمة القاوقجية، وتبادلنا حديثاً طويلاً عرفتُ من خلاله أنّ السيدة فاطمة مقعدةٌ على فراش المرض، وهو منذُ وقتٍ طويلٍ قائمٌ على خدمتها.

الدهشة من طلاقة لسان الشيخ ” الأحمدي بن الحفني غزالة الأزهري ” ومعرفته الواسعة بالكثير من العلوم الدينية

انطلق لسانُه في الحديثِ معي في كلّ موضوعٍ يخطرُ على باله، في الفقه، والحديث، والتفسير، والأصلين، والأدب، والبلاغة، وأصول الحديث، والمنطق، وأنا من فرط دهشتي واجمٌ أمامه، ملتزم للصمت، مؤثر للسلامة، إذْ لا أستطيع مجاراته في أيّ من المسائل التي تطرق إليها، ومثله يُتَتلمذ عليه بحسنِ الإصغاءِ والصمت، ووقع في نفسي وقتها مقولة: “أولّ العلم الصمت”، وتفاجأت بتضلعه في العلوم العربية والشرعية.

تألمتُ كثيراً أنّني تأخرتْ معرفتي بهذا العالم الموسوعيّ، وخرجتُ من بيته يومها تتنازعني مشاعر شتى، فقد حزنتُ على الحالة الصحية للسيدة فاطمة القاوقجية، وبهرني زوجها العالم الشيخ الأحمدي غزالة بعلمة المتدفق، فكنتُ بين فرحةٍ وألم، وبقيتُ بعد هذه الزيارة موصول الأسباب بشيخنا، دائم الزيارة له، وفي بيته قرأتُ عليه كثيراً من المتون الأزهرية قراءةَ درسٍ وتحقيقٍ، وقرأتُ عليه وعلى زوجته السيدة فاطمة القاوقجية وأخيها السيد محمد أديب القاوقجي كتاب “الشمائل المحمدية” للإمام الترمذي قراءةَ روايةٍ.

لمحة عن حياة الشيخ ” الأحمدي بن الحفني غزالة الأزهري “

ولد شيخنا الأستاذ الأحمدي بن الحفني بن محمد بن علي بن إبراهيم بن أبي الخير بن سيد أحمد غزالة الشافعي الأزهري -وهو اسمه الكامل كما كتبته عنه- في قرية “ميت عافية” بشبين الكوم في اليوم الثاني من شهر صفر سنة 1344 يوافقه 21 أغسطس سنة 1925م في أسرة متوسطة الحال، وبدأ كعادة الأسر في الريف في هذا التوقيت بحفظ القرآن الكريم وهو في سن السادسة، حتى أتمّه على الشيخ حسن رزق السوداني وهو في الثانية عشر من عمره في شهر نوفمبر سنة 1937م.

التحقَ بالمعهد الديني الأزهري بشبين الكوم سنة 1939م؛ ليتلقى فيه العلوم الشرعية والعربية، وحفظ فيه المتون المتداولة، كمتن أبي شجاع، والآجرومية في النحو، والألفية لابن مالك، والرحبية، والجوهر المكنون، والسلم المنورق، وتلقى هذه المتون وغيرها على مشايخ المعهد الأجلاء، ومنهم: الشيخ عبد الباسط حجاب، والشيخ عبد الجليل عيسى، والشيخ أحمد البري الطنطاوي، وغيرهم، وحصل على الشهادة الثانوية الأزهرية بتفوق سنة 1948م.

مرحلة التحاق الشيخ ” الأحمدي بن الحفني غزالة الأزهري ” بكلية اللغة العربية في القاهرة

واصلَ أستاذنا دراسته بكلية اللغة العربية بالقاهرة، وهي كلية القمة في هذا التوقيت، وتخرج منها وحصل على “الإجازة العالية” عام 1952م، وفيها درس على أعلامها؛ ومنهم العلماء: الشيخ محمد عبد المنعم خفاجي، والشيخ محمد محيي الدين عبد الحميد، والشيخ عبد المتعال الصعيدي، والشيخ محمد أبو النجا سرحان، والشيخ عبد الجليل عيسى أبو النصر المالكي، وغيرهم من الأعلام.

لازم شيخنا في القاهرة شيخه العالم السيد محمد الحافظ بن عبد اللطيف بن سالم التيجاني إلى وفاته إلّا ما كان من مدة سفره للعراق، فقرأ عليه كتب الحديث وسمع منه الكثير، وأُجيز منه، والتقى بالسيد عبد الله بن الصديق الغماري وأخذ الإجازة منه، وأجازه أيضاً شيخنا المعمر سيدي محمد بن سعد بدران الدمياطي القاوقجي.

سفر ” الأحمدي بن الحفني غزالة الأزهري” إلى العراق

وعلى إثر تخرجه سافر إلى البصرة بالعراق مدرساً في مدارسها الثانوية، ومكثَ في العراق أربع سنوات مدرساً للغة العربية، إلى أنْ عاد إلى مصر، وعين إماماً وخطيباً ومدرساً بوزارة الأوقاف بعد رجوعه بسنة، وكان أولّ تعيينه بمدينة دمياط في مسجد البحر.

ترقى في الوظيفة، وانتقل بعدها إلى مسقط رأسه حتى أصبح مفتشاً على المساجد بشبين الكوم إلى أن أصبح مديراً لإدارة الأوقاف، وأحيل للتقاعد في شهر أغسطس عام 1990م، وإذا كانَ أستاذنا الأحمدي قد تقاعد من العمل، فهو لم يتخلّ عن المشاركة في الخطابة، فكان خطيب مسجد الأنصار بشبين الكوم، واستمرّ في ذلك إلى عام 2005م حيث أقعده المرض.

صفات الشيخ ” الأحمدي بن الحفني غزالة الأزهري ” وأطباعه وأخلاقه الحسنة

كان شيخنا حسن الطوية، جميل الصورة، ذا شخصيةٍ ودودة، يفتح بابه للطلبة ساعات طويلة دون كللٍ ومللٍ، مقبلاً على الناس، عفوياً، متمتعاً بنفسٍ مطمئنة وصفاءِ روح، لا تفارقه الابتسامة، ولا تسمع منه إلا طيب الكلام، ولا يدلك إلا على أحاسن الأفعال، وقد انشغل بالعلم والدعوة وعاش معهما من رَيَّق العمر إلى منتهاه.

قضى شيخنا سنيّن عمره المتأخرة ملازماً بيته، وتحالفتْ عليه هموم الشيخوخة ومرض زوجته، فاحتملها في صبرٍ تامٍ، وبقي إلى آخر أيامه يستقبل المستفيدين ويحتفي بالزائرين؛ ليؤديّ رسالته العلمية على أتمّ وجهٍ، حتى توفي يوم السبت 14 جمادى الآخرة 1433، يوافقه 5 مايو 2012م، وقد أورثني موته حسرة باقية، والغريب أنّه خرج من الدنيا في وقتٍ عقمت فيه المودات، وقلّ الوفاءُ، وساءني أنّه لم يقدر التقدير المستحق في حياته ولا بعد موته.

كانتْ لشيخنا في كلّ ميادينِ العلمِ مُشاركةٌ، وحسبُه فضلاً أنه شيّد للعلم محبينَ وكوّن نابهينَ، وأنّ أثره فيهم لنْ يموت ولوْ مات صاحبه، فسلامٌ على مَن عاشَ متواضعاً وماتَ غريباً، والبدرُ في الليلةِ الظلماءِ يُفتقدُ.

فيديو مقال شيخُ المنوفية ” الأحمدي بن الحفني غزالة الأزهري ” #مصر

أضف تعليقك هنا