الأنانية مفتاح العطاء

من منا لم يسمع بقصص التضحية النبيلة و البطولية؟ الجندي الذي سفكت دمائه مقابل مصلحة ما تراها بلاده في الحرب الشهيد الذي قضا حتفه من أجل قضية أو إيديولوجية ما، روميو و جولييت اللذان ماتا فداء لحبهما الملعون، السيد المسيح الذي قدم حياته قربانا لضمان مغفرة ذنوب أتباعه (النسخة الغربية للقصة)، الأم التي قايضت أحلامها و صحتها مقابل راحة عائلتها، و غيرها من الأمثلة الكثير، قصص نحب سماعها لأنها تتسم بمثالية مفرطة تتغذى على مخزون من الطراجيديا الرومنطيقية: مفهوم الموت والذوبان في شيء أكبر منا، مفهوم “الاستشهاد النبيل” المبجّل في الميثولوجيا و الموروث الأدبي و الديني، لكن من السذاجة الاعتقاد أن للعملة وجها واحدا، فهذا الموروث مهما يكن يحمل معه من إيجابيات، له جانب مظلم، جانب ابتعادنا عن المعنى الرمزي ووقوعنا في فخ المبالغة، فخ إسقاط المجاز على الواقع.

تناقضات الحياة

لقد أصبحنا نتسابق إلى إنكار الذات، نشيّد به، ونربت على كتفيه، لأنه من المعيب أن تعتقدوا أنكم ستكونون أبناء صالحين، أزواجا صالحين، مواطنين صالحين، مع احتفاظكم بنزاهتكم الذاتية، أخون نفسي أم أسقط من برج الآخرين؟ أموت من أجل حياة الآخرين؟ أم أحيا لنفسي و أصبح ميتا في نظرهم؟

ليس من العدل أن نجبر على الخروج بإجابة لهذه الأسألة، لكن الحياة غير عادلة كما يقولون، على مرّ التجارب الإنسانية لم يكن للتطرف نتائج حسنة، لكن هوسنا بالتطرف و بحدة المشاعر التي ترافقه لن ينتهي، يقال إن نبض الحياة يتسارع عند حافة الموت، ربما كان هذا تفسيرا لنشوة التطرف. إبتعدنا عن الحياة لأننا ابتعدنا عن أنفسنا، فأصبحنا بحاجة لمشاعر قوية، سلبية كانت أم إيجابية، لنشعر بوجودنا، لملأ الفراغ الداخلي، فما الحل إذن؟ أن نعطي لأنفسنا ما ننتظره من الآخرين من وراء “تضحيتنا” الأنانية الحب و التقدير أن نملأ الإناء بأنفسنا هكذا يصبح الإناء الممتلأ يفيض حبا على الآخرين و لا ينتظر أحدا ليملأه لكن مانفعله هو أننا نقايض الإناء بالماء. ننتظر إلى أن يأتي أحد ويدلنا إلى الماء لكي نشرب من الإناء معا و إذا لم يئت أحد؟ سنموت عطشا بلا شكّ!!

مفهوم العطاء والتضحية

المشكلة ليست في مفهومي العطاء والتضحية، بل بالمعاني المقرونة بهما. فنحن نضحي مؤقتا للحصول على ماهو أفضل و أجمل، مما يعطي معنى أعمق من: “هذا يجعلني شخصا جيدا” أو “هذا هو الشيء الصحيح” لتضحيتنا لا يجب أضحي فقط لكي آخذ الحب الذي أبخل به على نفسي، فإني بذلك أصب مشروبا من الحنطل قضيت ساعات في إعداده و أضفت إليه محليات اصطناعية (لأن بخلي منعني من شراء الفواكه و آمل أن لا يلاحظوا ذلك)، وأتوقع أن يستلذ به الناس و يقدروا مجهودي (لا يهم إذا أعجبني مشروب الحنطل أم لأن الهدف هو إرضاء الآخرين)، لكن من سيقدر مشروبا مصنوعا من الحنطل؟ التضحية يجب أن تخدم صاحبها أولا قبل أن تتوسع أشعتها لتنير درب الآخرين إذا كنت شخصا طموحا فسأضحي بوقتي و طاقتي لأصل لأهدافي المادية و المهنية، هل سيتفيد من هم حولي من ذلك؟ طبعا! لكن حبي لنفسي وسعيي لأهدافي هو الذي جعل هذا الحب ينتقل إلى الآخرين. إنه عطاء لا مشروط لا يضع كل آماله فوق أكتاف الآخرين، عطاء لا يتلوث بالمرارة إذا لم يقدره الآخرون، لأننا نحن المستفيد الأول وسعادة الآخرين هي فقط آثار جانبية حميدة.

تقدير الآخرين هو محرك عطاءنا

عندما تعد مشروبا من ألذ الفواكه الطازجة لينعشك أنت و من معك، يكون ردّ فعل الآخرين كرزة فوق كعكة استمتاعك بالمشروب. سيبادلك الناس نفس درجة الحب اللذي تكنه لنفسك. فمن الخطأ أن نتظاهر بإعطاء ما لا نمتلكه بغية أخذه من الآخرين، لأن الإحساس بالنقص و الفراغ لن يكون أبدا مصدرا للعطاء، فهو يجعلنا نحس بالبغض و العجز لأن “تقدير” الآخرين هو محرك “عطاءنا” الأساسي و بدونه نحن صحراء جرداء يابسة٬ و ربما سنتوقف عن العطاء إن لم نحقق به هذا الهدف المحوري، الوفرة الداخلية التي تأتي نتيجة سقي حديقتنا بأنفسنا هي منبع العطاء الذي لا ينضب، نعطي من حديقتنا بعطاء لأننا نعلم أنها ستثمر باستمرار، لا ننتظر من يسقيها مقابل أخذ الثمار، لكننا نسعد إذا تطوع أحد لفعل ذلك . فنحن نفرح إذا حصلنا على شيء إيجابي لكن إذا حدث العكس لن يحطم هذا عالمنا. لهذا….فالأنانية هي مفتاح العطاء.

فيديو مقال الأنانية مفتاح العطاء

أضف تعليقك هنا