سويداء القلب.. إلى ابنتي سلمى

رسالة من أب إلى ابنته..

إلى.. سويداء القلب

لم أنتبه كثيرًا لذاك الشعر الأبيض الذي امتلأ به رأسي وعلت به لحيتي، ولا لما أصابني من ألم في ظهري وقدميَّ، فقد شَارفْتُ على الخمسين من عمري، لكني للتو انتبهت لذلك، فقد جرتِ السنون ومرت الأعوام، وأصبح الرضيع شابًا والشباب شيوخًا، وأَراكِ من بين هؤلاءِ يا زهرةَ العمر ويا سويداء القلب ، وقد أكملتِ اليومَ ستةَ عشر ربيعًا من عمرك، مرت وكأنها لحظاتُ من ساعة بل وكأنها طرفةُ عين لم تشأ إلا أن تلحق بأختها.

إلى سويداء القلب .. ابنتي صاحبة الطفولة البريئة

وأعود بي إلى هناك.. يوم أن عرفتك قبل قدومك، ورأيتك قبل مجيئك، فقد كنتِ ولا زلتِ، أول أمنياتي في هذه الحياة، كم تمنيت من ربي أن أرزق بكِ، وأن تكوني لي كما أنتِ، وهناك -قبل ستة عشر عامًا- كنت أول بهجتي وسعادتي.. كنت سلمى.. فلو تذكرين كم كنتُ شديد الرجاء فيك، أدعو الله أن يرزقني بكِ، وأن يمنحني إياكِ، فكنت العطيةُ، وكنت الهبةُ والمنحةُ، لو تذكرين ما امتلأت بي روحي من سَعادة، وغَمرني من ألوانها، وكم من الفرحة حينما كنت أمسك يديك الممتلئتين الناعمتين، أقبلهما أحيانًا وأعضهما أحايين أخرى، وأنت بين ضحكة وصرخة، لو تذكرين كم أرهقتِ كتفي -وأنت صاحبة الوزن الثقيل- وكم آلمني ظهري من طول مكوثك عليه، وأنت تأبين أن يكون فراشك سواه، ومنامك إلاه..

هل تذكرين كم مرة أبيتِ إلا أن تنامي بين ذراعيَّ، ولا تطعمُك إلا يداي، ولا تأخذ بيديك إلا يداي، ولعلك تذكرين أو خطوة كانت لك وأنت تنقلين قدميك الثقيلتين، ساعتها تنفرج شفتاك بابتسامة بل بضحكة خرجت تملأ الدنيا فرحة وسعادة وبهجة وسرورًا.. هل تذكرين يوم أن كنت تقرأين حروف الهجاء لأول مرة ومع كل حرف بحركته وسكونه روحُ الحياة وإشراقها.. هل تذكرين كم مرة.. غَضِبتِ وأصَالحُك.. بَكيتِ ولا زِلتُ ألاعبُك وأمازحُك حتى ضَحكتِ.. نمتِ مرهقةً مُتعبةً وتأبى عاطفةُ الأبوةِ إلا أن توقظُكِ من سباتكِ العميقِ وأحلامكِ البريئة.. سقطت عَلى الدَّرجِ وفي الرَّدهَاتِ.. فأصابني الهَمُّ ونزل بي الغَمُّ، فأراني أَفقِد هُدوئي، وتفلتُ مني السكينةُ، وأفتقد الصَّواب في أفعالي بل وأقوالي، ولعلك لا تذكرين.. يوم أن أصابك الجوع، ولم يسكت عنك البكاءُ.. وأنتِ في لحظات عمْرك الأولى.. تبكين وأتأَلم، تصْرخين ولا أملك لك إلا التوتر والقلق، ولا أدري ما أقدمُ لك.. لحظاتٌ عشتها معك بين مشاعر لا أملك وصْفها، ولا أجيد التعبير عنها.. لكن ما لم تذكرينه أكثر مما قد يكون..

إلى ابنتي.. صاحبة القلب الطيب

بنيتي.. عرفتُ مع قدومِك السعادةَ وعاينت الفرحةَ، رأيت فيك براءةَ القلب ونقاءَ السريرة، وصدقَ المشاعر وصفاءَ النية، رأيت فيك البساطةَ بمعناها، ورأيت فيك الهدوءَ والاتزان، ورأيتُ فيك التفاؤلَ والإصرار.. رأيت فيك العنادَ.. لكن رأيتُ معه الاعتداد بالرأي والثقةَ بالنفس.. رأيت فيك حبَّ النفسِ لكن رأيت معه الإصرارَ والعزيمةَ والتحمُّل، وحبُّك لأسرتك وأخواتك فاق كل حدٍّ، رأيته في خوفك عليهم وحرصِك على متابعتهم وإن شئتِ قلت مراقبتهم..

إلى ابنتي.. بهجة وروح حياتي

بنيتي لو تعلمين.. ما أنت لي؟!!! أقول.. ولست أفصح عن سرٍ، ولا أكشف عن خفايا.. إنك رؤياي قبل قدومك، وأمنيتي في شبابي، وبهجتي وسروري في حياتي.. إنك روحي التي تملأ حياتي بهجة وسرورًا، وسكينة وهدوءًا.. فلم أشأ أن يكون لك اسم غير(سلمى) فكنت السلامة والهدوء والسكينة والوقار..

إلى ابنتي.. الطموحة ذات الشخصية القوية والخلق الحسن

بنيتي.. ومن جميل ما قدر الله لك أن يكتمل ربيعُك السادسُ عشر وأنت على أعتاب مرحلة جديدة من سني عمرك.. تعرفين فيها أصنافًا من البشر.. وتتعرضين لألوان من مواقف الحياة.. وتَمرِّين بتجاربَ عدة.. لا تمر بك واحدة إلا وتكتسبين منها دروسًا ودروسًا.. تتعلمين منها وتتعلمين .. وإني لعلى يقين -والله يرعاك- أنك ستكونين مثالاً -كما كنت دومًا- للخوف من الله، ومراقبته في السر قبل العَلن، وللهدوء والاتزان، للأدب والأخلاق، للعلم والثقافة والمعرفة، للبحث عن التطور المستمر والتجديد المتواصل، ستكونين مثالًا للفتاة التي تشق طريقها وسط الدخان، وتعرف معَالمه بين الركَام، ولا تلتفتُ إلى طامعٍ ولا غادرٍ ولا جبان، ستكونين واضحة الهدف، واضحة الغاية، مخلصة في قصْدك وغايتك، تفيضين حبًا للآخرين، وبرًا بكل محتاج، وعونًا لك من يمد يده، ستكونين واعيةً لكل متربص، يقظةً حذرةً فطنةً، فلا تغفلين عن غايتك، تنتبهين لُخلقك وحيائك -فهما روحك ودمك- فلست شيئًا إلا بهما، ذات ذكاء ودُربة، لا تقعين في شَرَك مُتَلونٍ، ولا كلماتٍ معسولةٍ من ذئاب البشر وقطعانهم.. وسبيل ذلك كله هو أن يكون الله معينك وسندك وملجؤك، فإن كان.. فمن يملك هزيمتك، ومن يقدر على أن ينال منك، ولا عجب ﵣفَٱللَّهُ خَيۡرٌ حَٰفِظٗاۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ ٦٤ﵢ ﵝيُوسُف الآية ﵔﵖﵜ. ستة عشر ربيعًا مرت من عمرك، نهاية مرحلة جميلة وبداية لمرحلة أجمل -بإذن الله تعالى-، لن أمَلَّ من الدعاء لك بالتوفيق في حياتك كلها، ولمَ لا فأنت القَلبُ، بل.. سويداءُ القلبِ.

إليك يا ابنتي.. إليك يا ابنتي(سلمى) …في غرة ربيعك السابع عشر.

فيديو مقال سويداء القلب.. إلى ابنتي سلمى

أضف تعليقك هنا