رحلة في دائرة

تخيل أنك تعيش داخل دائرة. جدران الدائرة تحاصرك من كل اتجاه، من ثم تخيل أنك ولسببٍ ما صرت خارج الدائرة، تصبح فجأة بلا ضغوطات ومحددات جدران الدائرة، طر بخيالك وتأمل. لا يوجد من يُملي عليك ما لم تفكر به جيداً، تجد نفسك في فضاء كبير تستطيع من خلاله التأمل بأفق أوسع وبفكر أكثر انفتاحاً بلا دائرة محصور التأمل من داخلها ويقف التأمل عندما تصل حدود جدار الدائرة.

عواقب الخروج عن معتقدات الآخرين وأفكارهم

كل من فكر وتأمل خارج الدائرة تم الاستهزاء به (على أقل تقدير)، وأما (أسوأ تقدير) فسجن وقتل وتعذيب وتشويه سمعة. الكثير من روائع الزمان في حياتهم عاشوا حياة صعبة واليوم يتم تداول أفكارهم كروائع تخلد سيرتهم. كانت جريمتهم يومها أن خرجوا من أسوار الدائرة، حل مشكلات الدائرة هي بالخروج من قيود الدائرة التي حالما تجتازها تجدها قيوداً ضعيفة، لا يمكن تكرار نفس الحل الفاشل لحل مشكلة لا ينفع معها هذا الحل، تكرار الحل الخاطئ هو غباء وتكرار تسميته حلاً هو تخلف عقلي.

الوطن الذي تضيع فيه الحقوق والأحلام

بين برهة واُخرى تعصف بالذهن الذكريات والحنين، يعيش في الوجدان وطن وجذور، يتقادم العمر في وطن يصعب العيش فيه وسط ضياع كبير للحقوق ومعاملة سيئة وتخلف فظيع في واقع الخدمات العامة. يسمع ويرى حقوق ومكارم في بلدان أخرى ما كانت لتُرى، بل لم تخطر له ولا في الأحلام، سمع عنها وشاهدها في بلدان أوروبا وآسيا وأمريكا فيتذكر معها ما سمعه من حكايات التاريخ والروايات الدينية بضرورة احترام حقوق الإنسان في هذا التاريخ الإسلامي الذي يضج بويلات وفظائع هدر حقوق المجتمعات بمسميات إسلامية لم ينج منها لا متدين ولا عاصي.

لم ينج منها حتى سلالة الرسول الأكرم (ص) وعترته الطاهرة وصحبه والتابعين قتلاً وإبادة واعتقال. بالرغم من ذلك يتم تداول روائع حقوق الأنسان ومكارم الأخلاق في الأحاديث والنصوص المكتوبة المرتبطة بالنبي (ص) ومن تبعه بإحسان بالرغم من أنها لم تتسيد ولم تتصدر المشهد ولم تتحقق على نطاق مستمر لا تاريخياً ولا حالياً.

الجهل والفساد الذي ساد تلك الأوطان

تعتز الناس بتراثها وموروثها وتاريخها وقصص الزمان، تتسلى فيها وإن لم يطبق أكثرها، بعضها حكايات لقضاء الوقت.. دردشة.. أو لغو.. أوطان ميزتها الفساد الإداري والتخلف وتفشي الجهل والفتن والأخبار الكاذبة، وهو الأمر البارز المميز، وأما النادر فهو وجود المخلصين ذوي محاسن الأخلاق ومحاسن التفكير في بعض المناصب، والعجب بقائهم بمناصبهم النادرة رغم إخلاصهم، والعجب العجاب أن لم تغيرهم المناصب لأسفل سافلين.

الإنسان كائن متطور، وكلما يتقدم العمر لا بد أن تأتي صداقات جديدة وعيشة جديدة وأفكار جديدة ورؤى جديدة، يُلهمك المحيط حولك الكثير من (المتبنيات) الفكرية حول المعيشة ووضعك الشخصي والمجتمع والدين والدنيا والآخرة والموروثات. يشعر البعض أحياناً بعدم الانتماء لمحيطه، ولا لما هو منسوب إليه من وطن ودين رغم أنه يعيش فيه ويتعايش معه يومياً.

صراع الماضي مع الحاضر

صراع ربما يكون طبيعياً ليس فيه عقدة ولا شرود ذهني بل محاولة لفهمٍ أكبر احتراماً لعقلك الكبير، صراع الماضي مع الحاضر، صراع الموروثات مع التجديد، صراع العلم مع الجهل، صراع مواكبة العيش باختلاف الظروف، صراع حين تسمع أو تشاهد بلدان تحترم القانون وتخافه فتحترمه لأنه قانون مهاب ومُصان مؤمنين الناس في تلك البلدان به أنه قانون لمصلحتهم في كافة الميادين الوظيفية والحياة العامة. قد تم تشريعه لخدمتهم فينزعج الناس مباشرة عند مشاهدتهم من يخالف القانون ولا يحترمه.

وبين بلدان أخرى دستورها الحرام والحلال والتفسيرات الدينية المختلفة والعيب والأعراف والتقاليد والموروثات إضافة للقانون الرسمي، فترى الناس موظفين وأناس عاديين تلف وتدور حول مطاطية كل ذاك فتتبعها بالحرف حيناً وتخالفها حيناً. تؤمن بها جداً وتحترمها عندما يروق المزاج، وتبعد عنها مسافاتٍ عند الانزعاج.

هل سنبقى مقيّدين بحدود تلك الدائرة؟

لا غرابة في تلك البلدان عندما يحاكم مدير عام ووزير ورئيس حتى على تهم قديمة تم الكشف عنها بعد تقاعده. ولا غرابة عندما يتعاطى الناس مع محاكمات ومحاسبات المسؤولين عندهم أنها شيء عادي وطبيعي. قانون مهاب يشمل الصغير والكبير لا فرق، يحاسب القانون من يعتدي على حق إنسان اخر ولو عند اعتقاله لجنحة ارتكبها فتجد الشرطي الذي يسيء المعاملة عند اعتقاله لمرتكب مخالفة يحاسب حاله حال من ارتكب المخالفة.

يكبر الصراع فتضرب الأمثلة حول كل جانب، يحلو مثال فيُبرزوه ولا يحلو مثال فيُغطوا عليه، مقيدين بقيود الدائرة ويصبح التفكير على ضوء ما وضعوك فيه أو ما حلا لنفسك أن تتموضع فيه فوجدت نفسك في دائرة تتخدر فيها فينفث من بقربك دخانه لتستنشقه أنت ومن ثم تزفره ليتنفسه الذي بقربك والشبابيك مغلقة. هكذا يتعاطون مخدرات التخلف والغباء والضياع.

فيديو مقال رحلة في دائرة

أضف تعليقك هنا