واقع المدرسة العمومية

بقلم: طياش المهدي

المدرسة المغربية العمومية شبيهة بمسلخ السوق الأسبوعي، كانت فترة دراستي بالمدرسة العمومية أكبر عقاب لي من الله على أكل آدم للتفاح. مقال يتحدث عن المدارس العمومية ويمكنك قراءة المزيد من المقالات التي تتحدث عن التعليم من هنا.

كان الصباح يبدو باكراً أكثر من المطلوب، والأرض كئيبة ومبللة، والبرد يدخل كالحقن في العظام، وعليك أن تستيقظ وتفطر بالشاي المنكه بالشيبة الكئيبة، والزيت البلدي في صحن عميق، تحمل على ظهرك حقيبة أثقل من صندوق الخضار وتخرج في العاصفة لتطيرك في اتجاه المدرسة، يا لها من فكرة بلطجية تافهة، ثم في المدرسة تجلس رفقة تسعة وثلاثين تلميذاً من الحمقى بينما تكون أنت هو الأحمق رقم أربعين ويكون المعلم هو إله الحمقى والمغفلين. تتعلم في المدرسة باجتهاد كل ما يجعلك في النهاية بيدقا صالحا للتموضع بسلاسة واستسلام على رقعة شطرنج المجتمع والدولة والقانون. إنها سنوات طويلة من التعذيب المخابراتي والعقاب المستمر والانضباط المخيف وكوابيس الامتحانات والحفظ والاستظهار والاستيقاظ باكرا كجنود من دون رتبة والعودة جائعا ومتعبا وشاحبا كالكلاب الضالة بعد مسافات لانهائية تقطعها ذهابا إلى المدرسة دون معنى واضح ومقنع.

اليوم أيضا وأنا أرى أطفالا يحملون حقائب ثقيلة ويتوجهون في الصباح الباكر إلى المدرسة كسجناء عائدين إلى زنازينهم بعد انتهاء الاستراحة القصيرة تحت الشمس، أشيح بوجهي عنهم، أعرف كل تلك الكآبة التي تنتظرهم داخل الأقسام، خصوصا في فصل الشتاء، حين ينزل المساء باكرا وتدخل العتمة من نوافذ المدرسة المكسورة، ويشعل كسول مصباح الكهرباء ذا الإضاءة البرتقالية الباهتة، ويكح المعلم. لقد خبرت تلك الكآبة جيدا وبسببها حفرت أولى قصائدي على الطاولات بالبركار. أشيح عنهم بوجهي حتى لا أبكي شفقة عليهم، أكبر إهانة حملتها على ظهري طيلة تلك السنوات، هي غباء أن يطلبو منا أن نحمل كتبا بأكملها طيلة السنة ووزن كل كتاب لا يقل عن كيلو غرام بينما في كل مرة لا نقرأ من أي كتاب سوى صفحة واحدة أو نصف صفحة. لا أفهم إلى حد الآن لماذا عوض اختراع بليد اسمه الكتب المدرسية لا يخترعون اختراعا أقل بلادة اسمه الأوراق المدرسية، بحيث لا يأخذ التلميذ معه في حقيبته التي تشبه صخرة سيزيف سوى الأوراق التي سيحتاجها لدرس ذلك اليوم.

احتجت سنوات طويلة بعد خروجي من سجن المدرسة، احتجت إلى سنوات طويلة لأتقيأ ما تعلمته فيها، وقد كان التقيؤ أكثر صعوبة وإيلاما من البلع. لكني رغم ذلك كنت كل مرة أدخل سبابتي داخل فمي حتى تلمس بلعومي فأتقيأ المدرسة بطاولاتها ومعلميها ونوافذها المكسورة وطباشيرها الشبيه بالطحين وأناشيدها العسكرية وكتبها الجديدة المغلفة التي تشبه رائحتها رائحة فقدان الوعي ورائحة الصمت والكآبة والموت في المطر فوق الخرسانة ورائحة غرف الإنعاش، لم أرتح إلا بعد أن تقيأت كل شيء. عندها فقط ارتحت وعادت إلي الحياة والحرية والرغبة في المعرفة، فأحسست بجوع رهيب تجاه القراءة الحرة الممنوعة، والمكتبات. وقفت ذات مرة أمام مكتبة عملاقة وتساءلت: بما أن الكتب تأتي حتى البيت، إذن لماذا كان علينا الذهاب إلى مدارس ليس فيها مكتبات؟

في النهاية، ما الذي يتعلمه الأطفال من المدارس؟ سيتعلمون أن يصيروا بيادق مطيعة، وجنودا، وقططا منزوعة الأنياب، مقلمة الأظافر وجاهزة لاستهلاك أي شيء دون هضمه. كل دول العالم ترسل أطفالها إلى المدارس والنتيجة بعد قرون على ذلك هي: عالم حديث مسيخ مشوه لا يطاق إلا بالمهدئات. أعود الآن بذاكرتي لأفهم رفضي الدائم للمدرسة فأجد أن مصدره هو حنيني الجيني الطبيعي الحر إلى الحقول، الأنهار، وادي الذهب، الأسماك التي تطفو فوق الأمواج، الجبال، الصحاري الخاوية والغابات. ذلك الحنين الساحر الذي وحده يعلمني أخوّة الكائنات. (شاهد بعض مقاطع فيديو موقع مقال على يوتيوب).

بقلم: طياش المهدي

 

أضف تعليقك هنا