البحوث النوعية: قراءة نقدية

بقلم: عبدالعزيز عوض ماطر الروقي

يُرجّع بعض الباحثين ظهور البحث النوعي للقرن 19 إلا أنه خبا ثم عاد بقوة نهاية القرن 20، وقد كان هناك خصام بين أنصار المنهج الكمي والنوعي كل يقلل من علمية الآخر، ثم تم التوصل إلى اتفاق أن لكل مصداقيته، ويمكن الاستفادة بالدمج بينهما، وجودة البحث تكمن في ربط منهجية البحث بسؤاله.

ولا يزال البحث النوعي يمثل حلقة مفقودة في ممارسة الكثير من الباحثين العرب في المجالات التربوية والاجتماعية والصحية والإعلامية والإدارية…؛ مما خلق أزمة حقيقة وتحديات كثيرة، لا سيما وأنه لا زال تكميم الظواهر يسيطر على المشهد البحثي، إذ يختزل البيانات في رموز وأرقام وجداول وأشكال.

هذا “الاختزال الكمي” للظاهرة الإنسانية المعقدة دعا إلى المزيد من التأمل والملاحظة المستمرة والنظرة العميقة الفاحصة والباحثة عن الأسباب والعوامل والمؤثرات في طبيعة النفس البشرية بطرق بحثية تعتمد على دراسة الظاهرة في ظروفها الطبيعية باعتبارها مصدراً مباشراً للبيانات، بحيث يتم عرض البيانات بطريقة وصفية تستخدم الكلمات والصور ونادراً ما تستخدم الأرقام.

ما هو سبب الإقبال على البحث النوعي؟

ويشير راشد العبدالكريم في كتابه البحث النوعي في التربية إلى أسباب تزايد الاقبال على البحث النوعي في ما يلي:

  • عدم الرضى عن نتائج البحوث الكمية.
  • رغبة المعلمين أن يكون لهم دور أكبر في البحث التربوي، وميلهم إلى البحوث الإجرائية.
  • انفتاح مجال البحث التربوي لكافة الفئات.

على ماذا يركّز البحث النوعي؟

ويركز البحث النوعي على وصف الظاهرة والسعي لتحقيق فهم أعمق لها من خلال المنحنى الاستقرائي التفسيري للمعلومات، والسؤال فيه مفتوح النهاية، ويهتم بالمعنى أكثر من السبب والنتيجة. ولقد شهدت سنوات مضت سجالا بين التوجهين (الكمي والنوعي) في محاولة لإثبات تفوق توجه على الآخر، ولكن بدأت المراجع الحديثة تميل إلى تبيان الاختلاف دون الدخول في التفضيل؛ للقناعة المتنامية باختلاف هدف ومجال كل من التوجهين، وأبرز الفروق الأساسية بين البحث النوعي والبحث الكمي ما يلي:

  • من حيث المبدأ يعتمد البحث الكمي على الكم والعدد في المعلومة، بينما يعتمد البحث النوعي على نوعية المعلومة والمعنى المرتبط بها دون التركيز على الكم.
  • المفاهيم الأساسية للكمي: المتغير، الثبات، الصدق، التجريب، بينما المفاهيم الأساسية للنوعي: المعنى، الفهم، الحياة اليومية.
  • الأهداف للكمي: وصف إحصائي، علاقة بين متغيرات، تعميم، بينما الأهداف للنوعي: وصف حقائق، بناء الفهم، بناء المعنى.
  • خطة البحث للكمي: مكثف، مفصل، عمق في مراجعة الأدبيات، بينما خطة البحث للنوعي: مختصرة، مبدئية، لا يوجد عمق في مراجعة الأدبيات.
  • البيانات للكمي: كمية، مقاييس، إحصاء، بينما البيانات للنوعي: وصفية، صور، مصنوعات يدوية.
  • العينة للكمي: كبيرة، طبقية، مجموعة ضابطة، بينما العينة للنوعي: صغيرة، غير ممثلة، متنامية.
  • الطرق والأساليب للكمي: تجريب، مسحي، شبه تجريب، مقابلة مغلقة، بينما الطرق والأساليب للنوعي: الملاحظة، مراجعة الوثائق، مقابلة مفتوحة.
  • العلاقة مع العينة للكمي: منفصلة، قصيرة، بعيد، بينما العلاقة مع العينة للنوعي: متعاطف، صديق، اتصال مكثف.
  • تحليل البيانات للكمي: استنتاجي، في نهاية جمع البيانات، إحصائي، بينما تحليل البيانات للنوعي: مستمر، استقرائي، نماذج.
  • المعوقات للكمي: ضبط المتغيرات، الصدق، بينما المعوقات للنوعي: يستغرق وقت، الثبات، المجتمعات الكبيرة.

سلبيات البحث النوعي

والبحث النوعي يحتاج إلى وقت طويل، وخبرة؛ لأنه يتطلب جمع بيانات وتحليلها بتقارير مطولة وموسعة، وبالرغم من عدم وجود دليل موحد للبحث النوعي إلا أنه يوجد توافق في معايير الدراسة النوعية الجيدة، مثل: الإجراءات الصارمة في جمع البيانات، واستخدام أسلوب نوعي محدد مثل: الروائي، والظاهراتي، والنظرية المجذرة، والاثنوجرافي، ودراسة الحالة، والتركيز على موضوع واحد، والتبرير المقنع، وانعكاس تاريخ الباحث نفسه في البحث، والثقافة والخبرة الشخصية.

وقد أشار كل من جون كريسويل وشيريل بوث John W. Creswell & Cheryl N. Poth في كتاب  تصميم البحث النوعي “دراسة معمقة في خمسة أساليب” إلى أساليب البحث النوعي الخمسة: الروائي، والظاهراتي، والنظرية المجذرة، والاثنوجرافي، ودراسة الحالة، وأنّ الخصائص المشتركة للبحوث النوعية تتضمن جمع البيانات ضمن سياقها الطبيعي مع مراعاة حساسية الأفراد موضوع الدراسة، واستخدام استراتيجيتي التحليل الاستقرائي والاستنباطي لاستنتاج الأفكار والأنماط، والوصول إلى وصف مفصل، وتفسير المشكلة اعتمادا على رأي المشاركين وانعكاساً لفهم الباحث ورؤيته.

أشهر استراتيجيات وأساليب البحث النوعي 

  • دراسة الحالة: وهي عبارة عن فحص دقيق وعميق لوضع معين أو حالة فردية، أو حادثة معينة، أو مجموعة من الوثائق المحفوظة، فالفكرة الأساسية في دراسة الحالة هي أن تتم دراسة حالة واحدة (وربما عدد من الحالات) بشكل مفصل ودقيق وباستخدام كافة الوسائل المناسبة، وقد يكون هناك تنوع في أهداف أو أسئلة دراسة الحالة إلا أن الهدف العام هو الوصول إلى أكمل فهم ممكن لتلك الحالة.
  • الإثنوجرافي: اشتهر هذا النوع من البحث النوعي لدى علماء الاجتماع والإنثروبولوجية، وبعض المراجع تجعل هذا الاسم مرادفا للبحث النوعي، فالاثنوجرافي تعني الكتابة عن البيئة الثقافة لشعب ما أو مجموعة تكون وحدة ثقافية، فهو نوع من البحث يهتم بالوصف التفصيلي المتعمق لبيئة ثقافية ما، وقد تكون هذه الثقافة ثقافة مدينة، أو مجتمع، أو مدرسة أو صف دراسي أو نحو ذلك.
  • النظرية المجذرة (المتجذرة) أو البحوث التأسيسية: الهدف من النظرية المجذرة هو الكشف عن نظرية أو تطوير النظرية التي تكمن وراء بعض العمليات النفسية أو الاجتماعية وليس التحقق من النظرية، فالنظرية التي يحصل عليها الباحث تمتد جذورها للبيانات الأولية، ويتم تطويرها بشكل استقرائي من خلال البيانات.

موثوقية البحث النوعي

تعرض البحث النوعي لانتقادات من أنصار البحث الكمي، حيث قللوا فائدته البحثية لإخلاله بمعايير الضمانات العلمية كالصدق الداخلي والخارجي والثبات والموضوعية وإمكانية التعميم، ولتجاوز هذه الانتقادات حدد لنكلن وجوبا أربع معايير لإثبات موثوقية البحث النوعي، وهي:

  1. المصداقية: تقابل الصدق الداخلي في البحث الكمي، ويقصد به أن يقيس الاختبار ما وضع لقياسه، وفي البحث النوعي يسعى الباحث لأن تتطابق نتائج دراسته مع الواقع.
  2. الانتقالية: تقابل الصدق الخارجي في البحث الكمي، ويقصد به التعميم، وتعني الانتقالية أن نتائج البحث قد تفيد في حالات مشابهة.
  3. الاعتمادية: تقابل الثبات في البحث الكمي، ويقصد به أنه لو أعيد الاختبار في نفس الظروف سيحقق نتائج مشابهة، وهذا من يرى أن الظواهر التربوية تسير بصورة منطقية ومنظمة. أما التصور في البحث النوعي فيرى أن الحقيقة الاجتماعية يتم إعادة بنائها باستمرار وبشكل متجدد.
  4. التطابقية (التأكيد): تقابل الموضوعية في البحث الكمي، ويقصد بها عدم تأثر النتائج باختلاف المصحح. ويقصد بها في البحث النوعي هل يمكن أن تؤكد نتائج البحث عن طريق باحث آخر؟ فالمعيار النوعي هو: هل تساعد البيانات على تأكيد النتائج العامة؟

إجراءات البحث النوعي

يسير البحث النوعي بمجموعة من الإجراءات، حيث يبدأ باختيار الموضوع (ماذا أبحث؟) ثم بناء الإطار النظري، ثم صياغة أسئلة البحث، واختيار ووصف السياق في ضوء ذلك، ثم تحديد أساليب جمع المعلومات، ثم يخُضّع الباحث تلك المعلومات إلى عملية التحليل، ولا بد أن يبين الباحث آلية تحليله للبيانات ولا يكتفي بقوله إنه سيحللها بشكل نوعي أو استقرائي، ولا توجد نماذج معتمدة للتحليل كما في البحث الكمي الذي يذكر الباحث أنه سيستخدم اختبار معين، بل يستطيع القارئ تحديد أسلوب التحليل من السؤال، أما البحث النوعي فيجب على الباحث أن يوضح متى سيكون التحليل؟ وكيف سيكون؟ وهل سيكون من البداية أم في النهاية؟

أساليب جمع المعلومات

لكي يصل الباحث إلى هدفه يجب أن يكون لديه حصيلة من المعلومات الغنية التي يجمعها من خلال أساليب جمع معلومات متنوعة، ومصادر جمع المعلومات هي ملاحظات الباحث ومشاهداته الميدانية، وما يسمعه من مجتمع البحث إجابة على الأسئلة، النصوص المرقومة سواء كتابية أو مصورة أو مصنوعات يدوية.

خصائص المعلومات في البحث النوعي:

يتسم البحث النوعي بمجموعة من الخصائص تعد خاصية الوصفية من أبرزها؛ فالباحث لا يبحث عن أسباب ولا علاقات، وتشترك البحوث الكمية مع النوعية في الوصف لكنها تركز على المعنى ونوعية المعلومة وليس عددها، ومن الخصائص أن الباحث هو أداة الجمع: وهذا يساعد على فهم أعمق للظاهرة المدروسة، ويعتمد البحث النوعي على الكثرة؛ بمعنى كم كبير من البيانات، أما الكمي فيكتفى بما يأتي من المعلومات في الاستبيان، كذلك يختص البحث النوعي بالعمق بحيث لا يكتفى بالبيانات السطحية والانطباعات السريعة، بل لا بد أن تشتمل على أسئلة عميقة، التنوع من خصائص البحث النوعي المميزة فكلما تنوعت المعلومات زادت قيمتها وقوتها (ملاحظات، مقابلات، صور، أفلام ….).

معايير الحكم على البحث النوعي:

المعايير كثيرة ومتعددة، ومن ذلك ما اقترحه الدكتور علي بن سعيد القحطاني (2017م) التي هدفت دراسته إلى التوصل لمعيار مقترح لتحكيم البحوث النوعية في المناهج وطرق التدريس، وقد ركزت هذه الدراسة على تحديد ثلاثة معايير مقترحة لتقييم البحث النوعي من خلال عدة عناصر، وهذه المعايير كالآتي:

  • مدخل إلى البحث النوعي: ويشمل أربعة عناصر هي: (عنوان البحث-المقدمة-أهداف البحث-أسئلة البحث).
  • الإطار النظري والدراسات السابقة: ويشمل عنصران هما: الإطار النظري والدراسات السابقة.
  • الطريقة: وتشمل ستة عناصر هي: (المشاركين “العينة” -أدوات البحث-تحليل البيانات-مناقشة النتائج-الصدق النوعي-ملخص البحث).

معوقات تطبيق البحث النوعي في المجال التربوي

صنفت الباحثة نورة القحطاني (2020م) في دراستها التي هدفت إلى الكشف عن معوقات تطبيق البحث النوعي في المجال التربوي إلى معوقات نفسية، ومعوقات تدريبية، ومعوقات مهارية، ومعوقات ميدانية، وأشارت إلى أن من أبرز هذه المعوقات هي:

  • الخوف من عدم تحقق العلمية والموضوعية.
  • الميل والألفة لاستخدام أنماط البحث الكمي المتعرف عليها.
  • ندرة الخبراء والمدربين المتخصصين في البحث النوعي.
  • ضخامة كمية البيانات النوعية (معلومات مفصلة).
  • غموض معايير تحليل البيانات النوعية.
  • قلة المراجع المترجمة حول مناهج البحث النوعي.
  • ضعف مهارة التحليل الشامل والمنهجي للبيانات النوعية.

وعلى ضوء نتائج الدراسة أوصلت الباحثة بكسر حاجز الهيبة والرهبة والتخوف من ممارسة وتطبيق البحث النوعي، بنشر ثقافة الاعتياد على هذا النوع من البحوث الكيفية الميدانية، وتشجيع الباحثين عليه، وتكثيف التدريب على البحوث النوعية، وخاصة في الجانب التطبيقي، وتنمية المهارات الأساسية والضرورية التي تعتمدها البحوث النوعية بالمشاركة البحثية لذوي الخبرة، وضرورة تقبل الباحثين لطبيعة البحث النوعي، وما يرافقها من صعوبات ومعوقات ميدانية، والتوسع في تطبيق البحوث النوعية بكليات التربية.

المراجع

  • جون كريسويل وشيريل بوث. (2019م). عرض عن كتاب: تصميم البحث النوعي: دراسة معمقة في خمسة أساليب. ترجمة: أحمد محمود الثوابيه، مجلة العلوم التربوية، 31 (1)، 197-207.
  • العبدالكريم، راشد حسين. (2012م). البحث النوعي في التربية. الرياض: مطابع جامعة الملك سعود.
  • القحطاني، علي سعيد. (2017م). معيار مقترح لتحكيم البحوث النوعية في المناهج وطرق التدريس. مجلة العلوم التربوية، 44 (4)، 17-41.
  • القحطاني، نورة سعد. (2020م). معوقات تطبيق البحث النوعي في المجال التربوي بجامعة الملك سعود. المجلة التربوية، 79، 2637-2676.

بقلم: عبدالعزيز عوض ماطر الروقي

 

أضف تعليقك هنا