السينما وولادة الحركة

بقلم: جيهان القارة

ولادة السينما وتشكل الحركة 

الرجوع بالتاريخ إلى الوراء هو نبش ثنايا صنع الصورة السينمائية في بداية تشكلها، فهي التي رأت النور وولدت في 28 ديسمبر 1895 في الصالون الهندي للمقهى الكبير في بوليفارد ديه كابوسين في باريس، حيث نظّم أنطوان لوميير Antoine Lumière (والد لويس و أوغست) أول عرض عام للسينما. والواقع أن البذرة الأولى لتشكل السينما ليعود لظرفين أساسين: الأول: هو تذكر التطور التقني الذي أدى بشكل طبيعي إلى اختراع الفن السابع. والثاني: -والذي يعتبر الأكثر أهمية- يدعو إلى التشكيك في الحتمية التكنولوجية ويستبدلها بشرح نظري وتفسير فلسفي. التفسير التكنولوجي لا يمكن أن ينخرط في كونه موقفا فريدا مقبولا أو مرفوضا ككل بل هو في حقيقة الامر واقع اندماجي مع اختلافات وأجناس فنية متعددة يمنح الحرية المطلقة للفنان بالتفاعل والدمج الوسائطي. لذلك يمكننا التمييز بين العديد من العناصر التي يتم تحديدها وتقييمها بشكل مختلف للسماح لعدد غير محدود تقريبا من المواقف الفردية. وهو ما يعتبر السبب الأول في وجود مجال كامل للنقاش داخل التفسير التكنولوجي لولادة السينما. فكيف تطورت الصورة من الثبات الى الحركة؟ وهل أن مع ولادة السينما ستبرز في الوسط مفاهيم ونظريات فلسفية، ابستمولوجية أو علمية أم أنها ذات رؤى ايديولوجية؟ ومن هم مؤسسو و واضعو هذه المفاهيم؟

ولادة السينما وعناصر تطور الصورة من الثبات إلى الحركة في الفن السينمائي

العنصر الأول: هو القدرة على عرض الصور المتعاقبة على سطح شفاف من خلال الجهاز. و الانطلاقة كانت سنة 1826 عبر مساهمة جوزيف-نيكيفور نيبس Joseph-Nicéphore Niepce التي تعتبر بلا شك تجربة مهمة و ناقلة لمفهوم الصورة و ان كان الأمر قد استغرق للحصول على نتيجة واضحة ومبهرة حوالي ثماني ساعات و التي تمثلت عبر مشاهدة مشهد نافذة منزله في سان لوب دي فارين على صفيحة معدنية. اما في سنة1837 ، كانت الطفرة مع ظهور أشكال “داكاروتيب” daguerreotypes الأولى و التي تتمثل في تطبيق عملية الحركة على الصور النحاسية ، بالرغم من ان مثل هذه العملية محددة بنسخة واحدة من الصورة ليظل المقطع الحركي لا يتيح عددا كبيرا من التوليفات الكرونولوجية  . بدأ هنري فوكس تالبوت Henry Fox Talbot بطباعة الصور الفوتوغرافية على شرائح زجاجية لعرضها و التي تعتبر تجربته الانطلاقة الحقيقية و الفعلية لمفهوم و تقنية الصورة المتحركة و درءا للخلط في المصطلح الحقيقي للولادة الاولى للسينما فان “تالبوت” كانت لتجربته الوقع الثانوي على حساب لوميير ولكن تبقى مسالة  مدة العرض قائمة حتى سنة 1878 إلى أقل من ثانية واحدة ، لنصل الى سنة 1885 ليتم تطوير فيلم “جورج إيستمان” George   Eastman و يصبح جاهز للعرض.

العنصر الثاني: والذي يعتبر من أساسيات ولادة السينما أو بما يعرف بفن الحركة: “التفسير التكنولوجي التوافقي” و هو القدرة على عرض سلسلة من الصور بطريقة متواترة و سريعة دون توقف. ان هذه الفكرة تعود بنا الى تاريخ الفعل الحركي و تماهي الاسقاط الصوري مع مفهوم الايهام البصري او نذكر على وجه الخصوص “غرفة الصور المعروضة” أثناسيوس كيرشر Athanasius Kircher ، التي يعود تاريخها إلى سنة 1646 ، و “الفانوس السحري” ، الذي طوره كريستيان هيجنز Christian Huygens في سنة 1659 و يمكننا أن نتذكر بشكل خاص العروض الوهمية التي نظمها “إتيان جاسبار روبرت” Étienne Gaspar Rober في جناح ايشكيي Echiquier في باريس سنة 1799. ليتم استبدال الصور الثابتة و اليدوية في منتصف القرن التاسع عشر ، وفقا ل”تشارلز موسر” Charles Musser ، نقطة تحول مهمة في تاريخ ممارسات الشاشة.[1]

[1] (screen practices) The Emergence of Cinema. The American Screen to 1907, Berkeley, University of California Press, 1990. ترجمة ذاتية

العنصر الثالث: من هذا التوليف هو الفهم العلمي للتوليف البصري للحركة، أي اكتشاف أن العين البشرية ستشعر بالحركة من تعاقب سريع للصور الثابتة وقليلا مختلفة. في القرن التاسع عشر، ركز العلماء على مسألة التوليف البصري للحركة و تحديدا في سنة 1832 ، ابتكر الفيزيائي البلجيكي جوزيف بلاتو Joseph Plateau وأستاذ الهندسة النمساوية، سيمون ستامبفر Simon Stampfer، أحد الأجهزة الأولى لتوليف الحركة: Phenakistiscope، أداة وصفها بدقة بودلير Baudelaire في مقاله “Morale du joujou”.[1]

[1] Œuvres complètes, t. I, texte établi, présenté et annoté par Claude Pichois, Paris, Gallimard (Pléiade), 1975, ص. 581-587.ترجمة ذاتية.

يميز “فوتريف” vitruve بين التوازي والتوازن الذي يعني تكييف الأبعاد الموضوعية مع الضرورات الذاتية للرؤية المشهدية ويبين تطور علم المنظور والإسقاط وأهمية تطبيقه والمعترف به لفهم وتحليل العمل الفني جيدا فاللوحة يجب أن تدرك من خلال العين التي تشاهدها وانطلاقا من زاوية معينة أما الصورة السينمائية فتنطلق وترتكز عبر تحديد ثلاث نقاط أساسية و غير قابلة للانزياح أو المرور دون استعراضها ألا وهي التسجيل، الإسقاط والاستقبال التي في بعض التفاسير تقدم كتحليل  تكنولوجي لولادة السينما.

العوامل الأيديولوجية والاقتصادية التي ساعدت في ولادة السينما

بالنسبة لأولئك الذين يريدون وضع السينما في سياق ثقافي أوسع، يمكن للمرء إضافة عنصر رابع، يرتبط غالبًا بالعوامل الإيديولوجية والاقتصادية: التصنيع بيلا بالازاس(Béla Balázs) أو الميكنة اليسون ماكماهان (Alison McMahan). ومع الانغماس أكثر في هذه الاشكالية، نلاحظ أننا نجد في ثنايا تاريخ السينما تقريبًا وفي جميع الأدلة علاقة ونسخة من هذا التفسير التكنولوجي لميلاد السينما. والجدير بالذكر هو أن كل تكرار لهذا التفسير (وفقًا لمنطق التوافقية) انعكاسات و انحرافات مختلفة قليلاً. و نجد هذه النظرية موثقة وتشكل فلسفة نظرية دقيقة لدى “إروين بانوفسكي” Erwin Panofsky  وعبر الصيغة الأكثر تعبيراً لديه: “لا نجد، مع السينما، في الحالة التي تؤدي فيها الحاجة الفنية إلى الاكتشاف والتحسين التدريجي لتقنية جديدة ولكن في ذلك حيث يؤدي الاختراع التقني إلى الاكتشاف والتحسين التدريجي لشكل جديد للفن لم تكن الحافز الفني الذي أدى إلى اكتشاف الكمال التدريجي لتقنية جديدة ؛ لقد كان اختراعًا تقنيًا أدى إلى اكتشاف الفن الجديد والكمال التدريجي له”.[1]

التفسير التكنولوجي ودور التكنولوجيا في ولادة السينما

ومع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن بانوفسكي Panofsky يدمج في تحليله للسنوات الأولى للسينما انعكاسًا واسعًا على تاريخ الفن والعمارة ككل. وهذا يدل على أن التفسير التكنولوجي لا يمنع التعبير عن عوامل وأجناس فنية أخرى. فالتكنولوجيا تحتل المكانة المركزية وتلعب دور المحدد النهائي أو شرط لا غنى عنه لظهور السينما. و هذا صحيح فبالعودة على سبيل المثال إلى المجلد الأول من كتاب جورج سادول [2] Georges Sadoul للتاريخ العام للسينما. تتناول الغالبية العظمى من تحليله المراحل المتعاقبة من اختراع جهاز لعروض ترفيهية حية. على غرار جاك ديزلاند Jacques Deslandes   الذي يرى بوضوح هذه النقطة كونها من أبرز وأهم العوامل المتعلقة بإشكالية التفسير التكنولوجي والتي تميل إلى أن تكون بصرف النظر عن التقنية “حقائق علمية” يمكن تحديدها بسهولة، مثل وقائع الصناعة والاقتصاد. وإذا أردنا الاختصار يميل ديزلاند مثل سادول إلى تعاقب الأجهزة الميكانيكية التي تسمح بإسقاط عروض “حية”، وهو يلخص اختراع السينما بقوله “التصوير الفوتوغرافي، يومًا ما، متحرك”.[3] بينما يحتل التطوير التقني مكانة مركزية في سرده التاريخي، فإنه يشدد أيضًا على أهمية العوامل الاقتصادية التي مكنت من التوليف العملي للتقنية السينمائية.

النهج التكنولوجي في ولادة السينما (الاستنساخ التقني في العمل الفني) 

دعونا نلقي نظرة مختصرة على المقال الذي أصبح مثالاً نموذجيًا للنهج التكنولوجي في ولادة السينما: “العمل الفني في وقت استنساخه التقني”[4] بقلم والتر بنجامين. كان لهذا المقال نفسه وقعا هائلا جعله يصبح واحداً من المراجع المهمة في تحديد مفهوم الولادة و التفاعل، ويمكن مقارنتها بالتضخم المفاهيمي المعروف بمفهوم كوهن Kuhn لل”نموذج” أو مفهوم فيتجنشتاين Wittgenstein ل”لعب اللغوي”. دون الخوض في التفاصيل النفسية والاجتماعية لمثل هذا المفهوم (الذي يستحق بلا شك دراسة مستقلة)، يبدو من المشروع القول بأن استنساخ أطروحة بنيامين يرتبط جزئيًا بالطريقة التي يستنتج بها نظرية جمالية كاملة حول ظهور التقنيات الإنجابية الجديدة للفن السينمائي. ومن الجلي أن القسم الأكثر اهمية و الاكبر يتعلق بالمبادئ الجمالية التي يركز بنيامين في المقام الأول عليها هي فلسفة العلاقة بين التكاثر والتفرد في العمل الفني ، وكذلك تسليع الصور المستنسخة[5]. من المهم أن نضع في اعتبارنا أن بنيامين ينظر الى العمل من خلال اوجه مختلفة و يكون بامكانه ان يفهم و يستحستن بطرق مختلفة فيقول “مبدأ العمل الفني كان دائمًا قابلاً للتكرار”[6].

التسجيل والإسقاط في الفن السينمائي

الجديد في العصر الحديث هو أن الطباعة -وخاصة التصوير الفوتوغرافي- تتيح “لأول مرة فن الرسم أن يعرض منتجاته في السوق، ليس فقط بشكل جماعي، ولكن في أشكال جديدة كل يوم. من وجهة نظر بنيامين، فإن الفيلم موجود فعليًا في التصوير الفوتوغرافي، وقد ظهر للضوء في وقت وصلت فيه عملية إعادة الإنتاج التقنية إلى “مستوى استطاعت فيه الآن، وليس فقط تطبيقه على جميع الأعمال الفنية. فن الماضي وتعديل أساليب العمل بطريقة عميقة للغاية، ولكن لغزو نفسه مكان بين العمليات الفنية “[7]. بالتأكيد، لا تأخذ نظرية ىبنيامين في الاعتبار الاختراعات المختلفة التي أعدت السينما القريبة والبعيدة. لكنه يحاول أن يحدد وراء أول عنصرين من المجموعات التجميعية (التسجيل والإسقاط) هناك انبثاق صورة الصورة السينمائية التي استُخلصت من تقنيتها الأساسية: الاستنساخ الميكانيكي. فنلاحظ أن أنطولوجيا السينما التي اقترحها بنيامين لا تؤدي به الى موقف متذبذب بل انه يبقى في إطار التساؤل عن الطريقة التي تدمر بها السينما هالة الأشياء والأشخاص في لحظة التسجيل وإلغاء التمييز بين النقد والاستمتاع في لحظة الإسقاط، فيذهب إلى “الجانب الآخر من هذا الموقف” أي تعميق الإدراك الذي أصبح ممكناً بفضل السينما، والذي يمنحنا المجال الذي يسود فيه اللاوعي والذي يحتوي على إمكانيات تقنية ثورية مهمة و هائلة [8].

و يواصل في جزء كبير الى فكرة إذا كانت السينما هي تقنية من تقنيات الاستنساخ الميكانيكي التي تفصلنا عن جسم الفن .فما هو ضروري في هذا التقدير الجدلي للسينما هو الطريقة التي يتم بها استنتاج هذه الجوانب الثلاثة للسينما بشكل مباشر من طبيعتها التقنية ، سواء كان ذلك التكاثر الميكانيكي أو التسجيل الموضوعي أو التأطير تصاعدي. أخيرًا، دعنا نتذكر أنه بينما يمنح بنيامين السلطة الفنية موقعًا متميزًا، فإن هذا لا يمنعه من ربطها بالعوامل المحيطة باختراع الصورة السينمائية والتي لا ينفك يؤكد على أنها تنطلق بالضرورة من الصورة الفوتوغرافية الثابتة. (شاهد بعض مقاطع فيديو موقع مقال على اليوتيوب).

  • [1] « Style et matière du septième art », Trois Essais sur le style, troisième édition, Bernard Turle (trad.), Paris, Gallimard, 1996, p. 109 ; « Style and Medium in the Motion Pictures », in Gerald Mast, Marshall Cohen (dir.), Film Theory and Criticism, troisième édition, New York/Oxford, Oxford University Press, 1985ص. 215.ترجمة ذاتية
  • [2] L’Invention du cinéma 1832-1897, Paris, Éditions Denoël, 1946. ترجمة ذاتية
  • [3] « La photographie, un jour, s’anima Histoire comparée du cinéma, t. I, De la Cinématique au cinématographe 1826-1896, Paris, Casterman, 1966, ص 25. ترجمة ذاتية
  • [4] « L’œuvre d’art à l’époque de sa reproductibilité technique »  « L’œuvre d’art à l’époque de sa reproductibilité technique (dernière version de 1939) », Œuvres, t. III, Maurice de Gandillac (trad.), Rainer Rochlitz et Pierre Rusch, Paris, Gallimard, 2000, ص. 271.ترجمة ذاتية
  • [5] “la commodification des images reproduites “Le cinéma n’est jamais né Gabriel Rockhill
  • https://journals.openedition.org/appareil/130#bodyftn9 ترجمة ذاتية
  • [6] « du principe de l’œuvre d’art d’avoir toujours été reproductible « L’œuvre d’art à l’époque de sa reproductibilité technique (dernière version de 1939) », Œuvres, t. III, Maurice de Gandillac (trad.), Rainer Rochlitz et Pierre Rusch, Paris, Gallimard, 2000, ص. 271. ترجمة ذاتية
  • [7] un niveau où elle était en mesure désormais, non seulement de s’appliquer à toutes les œuvres d’art du passé et d’en modifier de façon très profonde, les modes d’action, mais de conquérir elle-même une place parmi les procédés artistiques  المصدر السابق ص 273ترجمة ذاتية
  • [8] المصدر السابق Maurice de Gandillac (trad.), Rainer Rochlitz et Pierre Rusch, Paris, Gallimard, 2000, ص. 271.ترجمة ذاتية

بقلم: جيهان القارة

 

أضف تعليقك هنا