الشعراء يقولون ما لا يقصدون

بقلم: د. رمزي حجازي

الشعراء يقولون ما لا يفعلون، والشعراء كذلك يقولون ما لا يقصدون، أين المعنى في الشعر، هل كان الشاعر يقصد كل معنى في كل جزء من أجزاء القصيدة الشعرية قبل الشروع فيها؟ مهما طالت أو استطالت حتى لو كانت ملحمة من الملاحم، أقول: لا، فللشعر زواياه، وله منحنياته، وله مآخذه التي يجر الشاعر وراءها، أو ينجر خلفها، مع الاعتذار لك أيها الشاعر.

نسب المعنى

المعنى بين القصدية وعدمها، أو بين القصدية وشاعرية اللغة، المعنى ليس حائرا، وليس متردد الميلاد، بل إنه يُولد، لكن إلى من ينتسب؟ إلى الشاعر، إلى المعاناة أو التجربة مهما كانت ناضجة؟ أم إلى اللغة؟ كل كلام جدير بالبحث فيه عن المعنى، مع تفاوت في درجة أهمية هذا البحث، فكلام الله -عز وجل- وكلام نبيه -صلى الله عليه وسلم- يجب أن نرهق أنفسنا فيهما بحثا عن هذا المعنى الأصيل، لنستخرجه من أكمامه، ونفوز بنيله فوزا كبيرا.
فالقرآن الكريم، لا ينضب معينه، ولا يتوقف البحث فيه، وكل معنى جميل يمكن أن يحتمله، يعتصر العلماء من سلافته الرائقة كل معنى جميل، وكذلك الحديث النبوي الشريف لأنه والقرآن الكريم من مشكاة واحدة، ويجوز فعل ذلك في خطب الزعماء وكلام الحكماء، نفتش لنخرج بمعنى، لأن موازين الكلام ههنا ليست موازين بلاغية أو جمالية فحسب، بل إن الدلالة متى احتملها النص ربما كانت سبيلا من سبل النجاة لأمة بأسرها، لأن قائلها أرادها على هذا الوجه المستنطق من النص.

الشعر ميدان المعارك النقدية

أما أنت أيها الشعر فمعانيك يستخرجها النقاد، يستنطقون فيك الأبيات بحثا عن المعنى، لكن تُرى إلى من يُنسب المعنى؟ إلى القائل؟ أم إلى المقول؟ معانيك حائرة عند هؤلاء النقاد، فمرة الشاعر أراد كذا، ومرة المعنى المراد كذا؟ وبين أراد وأُريد يحار المعنى، والشاعر في الحقيقة لم يدَّعِ هذه الإرادة، أمَا قال المتنبي:

   أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا   وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

إنه الخصام على المعنى الذي سيظل قائما إلى ما شاء الله، فهل للشاعر أن ينظر في كلام النقاد على شعره أو في شعره، فيدعي أنه أراد كل ما رأَوْا، وكل ما استخلصوا، وكل ما حللوا، أينما كانوا في الشرق أو الغرب، قديما أو حديثا، أقول لك أيها الشاعر ترفق بنفسك، فأين اللغة؟ أين طواعية اللغة في يديك؟ أين انسيابيتها على شفتيك؟ هل استعصت عليك؟ أم أنها دائما منقادة طائعة لا ترد لك أمرا، فتأتيك بلفظ ومعنى، معنى قصدتَه، وآخر لم تقصده، معنى كان في باطنك، كان أصلا لفكرتك، وآخر هو فرع عن هذا الأصل قذفت به اللغة فاستحسنتَه.
ثم نأتي بعد ذلك ونُجري الاستعارة بطريقة تعليمية فنقول مثلا في “سافر الضياء”: شبه (القائل/ الشاعر) الضياء بالإنسان، وحذف المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو السفر: شبه- حذف- رمز هكذا نسبة إليك أيها الشاعر؟ ثلاثة أفعال مبنية للمعلوم، هل الشاعر يُعاني كل هذه المعاناة؟ هل اللغة إرادية أم لا إرادية عنده، وأين نصيب اللغة المطواعة المظلومة.
إنصافا لك أيتها اللغة الرقيقة الطيبة سنغير طريقتنا في إجراء الاستعارة لنجعلها مثلا: شُبه- حُذف- رُمز بالبناء للمجهول، أو أعطينا فرصة للتفكير في طريقة أخرى ترضيك، لن نترك الشاعر يستأثر بكل شيء فيك، ويدعي أنه مسيرك وقائدك، فألفاظك موحية مشعة مفجرة مولدة، تنشطر فيك المعاني انشطارا، وتُهديها للشاعر أو الأديب إهداء، في اكتظاظ وتكثيف أو سرد وتفصيل كما أراد.

اللغة ودودة معطاءة

تبقى اللغة عند أمهر الشعراء ساحرة بنفسها، كلما امتلك أدواتها أعطته دررا، وألقت في خزائن شعره أصدافا، تتوالد، تتابع، تتنامى، تتصاعد، تتفاعل، تتمازج، تأخذ بفكر الشاعر إلى معنى، وتنتقل به منه إلى معنى، وهكذا في سيمفونية بارعة، فالشاعر قال:

أومن بالحرف حُلوا مُقفَّى

فأرضى اللغةَ، وأقنعها بشاعريته، ومد جسورا من الحب بينه وبينها، فبادلته حبا بحب، فانقاد له منها أيضا قوله:

يحطم كونا

ويقهر ظلما

ويرتاد حتفا

ويُنجب قبل الشهادة حرفا

وكم من معنى ومعنى جاء عفوا، وكم من كلام في الشعر لم يكن في قصد الشاعر يوما، فما أنتم أيها الشعراء بوحي من الجن تأتيكم اللغة، وينصاع لكم الشعر، حتى تتفجر معانيه، ويذهبَ النقاد فيه مذاهب شتى، وانطباعات وتفسيرات مختلفة، إلى أن أصبح ما كتب في بعض قصائدكم، أو عن بعضكم من الشعراء أسفارا، بل إنكم تتفاوتون في الولاء للغة، ومن ثم تتفاوت اللغة في الولاء لكم، والانقياد لملكاتكم، ولذلك تبقى المحنة في الأصل محنة شاعر، وليست محنة اللغة، فمتى كانت اللغة في محنة؟!، لن يسقط في السباق الشعري إلا مَن لم يُجِدْ توظيف قوالب اللغة، وتشكيل بناء جميل من ألفاظها ومعانيها.

قلاع باقية

إن ما بنيت أيها الشاعر البارع من قلاع شامخة، في قصائدك المشوقة، كالأهرامات التي بقيت خالدة، تستعصي على الزوال بمادتها وتركيبها وشكلها، ينظر إليها كل مرتاد فيرى فيها وجها من الجمال، ويتلمس فيها كل معنى من معاني العظمة والازدهاء، فتمتع روحا باحثة عن الجمال، كالدوحة الفينانة التي لا تمنع أحدا يستظل بظلها، أو كمعابد مقدسة لا ترفض مغتسلا من الذنوب في محرابها.

بقلم: د. رمزي حجازي

 

أضف تعليقك هنا