مولود في الجنازة

سوء حظي رافقني الليلة وأنا أبيت عند منزل عائلة زوجتي، بعد ليلة من النوم المتقطع على فراش لم اتعود عليه بعد، أفتح عيني على حوار تتناقله ألسنة أفراد البيت، استنبطت من خلاله أن أحد أقارب صهري وافته المنية هذا الفجر، أربك هذا الخبر المفاجئ اتصالي بمحيطي، كان يغالبني النوم و وفي نفس الوقت يتعبني ذلك الواجب الثقيل في جبر الخواطر و مواساة أهل الهالك، حاولت التظاهر بالنوم متحينا حتى تنطفئ لوعة الخبر و إيقاعه على مسامعهم.

بل أكثر من ذلك انتظرت حتى مغادرتهم صوب الجنازة، ساعدني في ذلك اناطتهم لي مهمة الاعتناء بمحمد حتى يستيقظ من نومه، حاولت استجماع أفكاري وجميع ما أمتلكه من ميكانيزمات في التواصل, استعدادا إلى ذلك الموكب الذي تختلط أثناءه الأحاسيس و ترتبك خلاله المشاعر حتى أنك لا تدرك حجم العبارات التي أدليتها بها عن غير قصد أو بالأحرى عن جهل منك لما يجب أن يقال في مثل هذه الظروف.

بعد ساعتين التحقت بدار الهالك في خطوات تتسم بالخجل و عشرات الأفكار تخالج ذهني، أعددت عباراتي قصد التعزية و أخذت في تكرارها حتى لا تختلط علي الكلمات التي كان يبعثرها محمد كل ثانية حينما يحاول إفلات يده من قبضتي، يقطع أفكاري و أعود من حيث بدأت.

في أول مواجهة لي كانت مع أخ المرحوم، سلمت عليه في حيطة فرضها فيروس كورونا، وأخذت في سرد كل ما حفظته سريرتي في نوع الارتباك و بصوت أكاد أجزم أنه لم يسمع منه كلمة واحدة، لكن الحدث و غرض الزيارة كانتا كفيلتين بترجمتها إلى العبارات التي تقال عادة في هذا الموقف.

بعده قابلت عديد الوجوه التي كانت تفضح صاحبها مهما حاول الاختباء خلف قناع النُبل و المثالية، وجوه عابسة بلا سبب و أخرى تتشح بالحزن محمرة الخدود يغسلها دمع كشلال هادر, بأصوات متهدجة ترثي فقيدها في صمت يقطعه نحيب خفيف يصعب السيطرة على زمامه و يشق عليهم كبح جناحه.

وجوه تصطنع الحزن حتى و إن كانت أقرب من حبل الوريد الى هذا الفقيد, تتخفى خلف قناع من الأسى و التأثر و شيء من الصدمة رؤوسهم كالسنابل تتمايل اقترب حصادها بين كلل و بين شقاء في محاولة إقناع الآخرين بمدى حسرتهم و أن فقدان عزيز خلف ندبة و شرخا في القلب.

هو تَصنعٌ يقبل وجهين واحد محمود وآخر يميل الى القبح و الذمامة,  بين من يحاول جاهدا مواساة أهل الهالك و الشد على أيديهم لمؤازرتهم في مُصابهم, و بين من يريد تقديم الواجب لا أكثر و إظهار ذلك الوجه النبيل, هو وجع مصطنع يُبذل في سبيله جهدا عسيرا من أجل إخراجه  الى الوجود.

الجو مشحون و كمية الوجوه العابسة لا تطاق, سواد يُغمض الأبصار و نواح و نحيب النساء يصم الآذان, ضباب اصطبغ بالأسود على غير عادته حزين على فراق أحدهم, شاهرا سيف العصيان في وجه الطبيعة, وسط كل هذا كنت أنا مثل الغريب أو كما يقول المثل المصري كالأصم في الزفة, أجد صعوبة في التنفس و تغمرني رغبة شديدة في الاجهاش بالبكاء حتى أطرد ذلك الشبح البدين الجاثم على صدري بكل ثقله.

حتى و أنا أصادف جنازة أحدهم في مسجد الحي الذي أقطنه, ما إن أفرغ من صلاة الجنازة حتى أجد ساقي لا تطاوعنني في هرولة غير معتادة لاحقاً الموكب الجنائزي الى المقبرة المجاورة للمسجد, آخذ في اجتياز المارة و تخطي الأجداث مثل المُهلوَس غير آبه بمن ينتظرني في البيت على طاولة الغداء أو من ينتظرني على موعد هام.

اتخذ مكانا خلف الحاضرين مراقباً في شرود لا يخلو من استنتاجات الحفّار و عائلة المتوفى و من يقومون بواجب العزاء و المواساة, يبدأ صدري بالانقباض و تداهمني رغبة جامحة في معانقة عائلة الهالك و الارتماء على كتف أحد أبناءه حتى أغرقه في دموع لا تنضب امتلأت بها مُقَلي, ما يفسره تراكم عديد الانكسارات و الصدمات التي خرجت منها مطأطأ الرأس مداريا الأحاسيس, لكن أثناء مراسيم التأنيب أملك فجأة الحق في اظهار مشاعر الانهزام التي تعادل عدد انكساراتي في الحياة, أبكي و أبكي صدري يتقلص و يمتلأ بالإجهاش حتى يزاح ذلك الشبح من على صدري.

 

جمل الفيديو

 

 

 

أضف تعليقك هنا