بقلم: جيهان القارة
أسرار عن عالم الحشرات
عالم ظريف طريف تكون فيه المخلوقات غريبة عجيبة ذات تفاصيل مرفولوجية خارقة لا يمكن في بعض الأحيان ملاحظتها بالعين المجردة، فيطلق عليها بالمخلوقات الميكروسكوبية، حتى أنها في أحيان أخرى يصعب علينا تشخيصها وتفصيلها حتى وإن سلطنا عليها مجهرا ذو مدى بصري قريب ،إنها “شخوص حشرية” عجيبة ملونة وسادة لها من التفاصيل ما يحولها إلى مراجع جمالية فنية تستحق التدقيق والتمحيص البصري، إنها ببساطة “الحشرات”.
الحشرات مصدر إلهام لفنانين معاصرين
كائنات حية فيها ما يتمتع بمقاييس الجمال، ومنها ما تعيش تحت طائلة مسمى الحشرات اللعينة التي يصعب حتى النظر إليها، إلا أنه هناك أعين لا تنظر نظرة المشاهد العادي بل أعين رأت في نقاط حياة ومرفولوجية الحشرة ما يمكن أن تكون مفردة تشكيلية ذات رؤية جمالية معاصرة ف”الفن يجب أن يشكك ويزعج” حسب أنيت ميسجر [1]
على غرار “داميان هرست” Damian Herst » الذي اشتغل و عاد بالنظر إلى الفراشات والذباب هوبرت دوبارت 1957 Hubert Dupart والعظيم جان فابر Jean Fabre 1958 الذي اتخذ من الخنافس مصدر إلهام في غاية الجمال وأيضا من أهم المعاصرين الذي ألفوا راية المعاصرة الفنية ولطالما فتنت علم المفصليات الفنانة “شهرزاد الفقي”.
أسرار عن الحشرات والطبيعة في التجربة الفنية المعاصرة لشهرزاد الفقي
لقد ألهمتنا تجربتها لكتابة هذا المقال ومشاهدة أعمالها جعلت من ذائقة هذه الورقة حبلى بالإشكاليات التي تتطلب بحثا و تحليلا دقيقا أهمها:
- ثنائية الطبيعة / الانسان و علاقتها بالنزعة الفنية الجمالية.
- الحركة الخطية وتزاوج الخط مع اللون والخلفية.
- شاعرية الصورة وتوازن الحس مع الإدراك التعبيري.
-
ثنائية الطبيعة/ الإنسان وعلاقتها بالنزعة الفنية الجمالية.
الحشرة في الأصل مفردة طبيعية مرهفة الإحساس فنانة ذات ألوان وحركات تنساب في الطبيعة كعنصر مكمل جمالي تطير وتحفر وتتملق الجدران والأشجار تعطي الدافع للحياة والتمتع بلحن عذب من الأناشيد الفياضة تزين الفضاء والأراضي البور القاحلة وتلتصق بتكتم في أحشار الأغصان، هذه التعابير الفياضة ليست إلا عناصر زاوجت بينها “شهرزاد الفقي” و آلفت بينها بصيغة التكامل والتعايش السلمي الطريف وبين تلك المخلوقات (الفراشة، الدعسوقة، النحلة،…) مع الورقة فهي ليست بمفردات صامتة بل متحركة حية تناغج الورقة عبر مزيج خطي رقيق و قيم ضوئية أحادية.
استرجعت “شهرزاد الفقي” بطريقة غير مباشرة تلك الأساطير الذاكروية للحشرات وهيمنتها على الفنون القديمة فلا طالما ألف المبدعون القدامى استلهام الحشرة في منحوتاتهم و محفوراتهم القديمة فكان حضور الحشرة ملفتا مصورا لمرجعيات و للخطوط مراكز ونقاط تواصل تتحرك ضمنها أفكارها واصفة إياها بالحلم الذي تتراءى أركانه منسابة تعلق الصورة الأثر ضمن زوايا ورقة بيضاء ولكأنها تكتب التاريخ من جديد تلك الخنفساء الحمراء ذات هيئة ملكية وإلى جانبها النحلة الملكة بطبيعتها الشكلية تذكرنا بملكة عشتار وكليوباترا بعزوفها عن الحياة مع أنها إلهة الجمال و القوة.
إن حشرات “شهرزاد” هي بالفعل حكايا شهرزادية ذو بصمة فريدة تنظر إلى شخوص البشر فنتذكر أن بداخلنا مجموعة من الخواطر التي تعيدنا إلى الطبيعة فنحن من تراب خلقنا. كما أن تفردها يوفر فرصة لتقديم منظور جديد لهذه المخلوقات المكبرة ونزع فتيل العلاقة الغير متآلفة معها. فتضع الحشرات في صميم عملها و تستكشف التغييرات التي تحدث في علاقتهم مع البشر مع مراعاة تنبؤات “انشتاين” الطبيعة والغرابة هي قلب هذا المعرض حيث تجعلنا الصور الخطية أو الرسومات تعيد اكتشاف العالم الصغير الرائع الذي ينكشف تحت أقدامنا[2]
-
الحركة الخطية وتزاوج الخط مع اللون والخلفية.
نستعير في بداية هذا الجزء ما اجاد به الدكتور الحبيب بيدة “و نتلذذ بالرسم الخطوطي و بالحفر الخيوطي الذين يتحركان حركة دوائرية و يلتقيان لتجلية الوهم حينا و اخفاءها حينا اخر.”[3] إن الحركة الفعلية للخطوط الدائرية ذات دور هام في استحداث تصميمات خطية لكائنات ميكروسكوبية متتابعة في ضوء مفاهيم الفن الغرافيكي المعاصر لدى “شهرزاد الفقي” فالتعبير الخطي في اعمالها يتعدى حدود الحركة الايهامية التي تتحقق من خلال قواعد و فيزيائية الخداع بل هي حركة تتحدى القواعد و تكسر حدود ذاك الكائن المجهري الذي اصبح مفردة تشكيلية مضخمة.
و نظرا الى ان الخط هو الاداة الاولية و المادة الاساسية في اعمال “الفقي” فانه من المنطقي ان يعد من اهم العناصر التي يجب التفكير فيها عند تذوق العمل الفني فالخط هو المسؤول عن بناء تركيبة العمل لا بل يصبح السمة الاولى عند مشاهدة العمل و بالتالي يقوم الرسم الخطوطي بدور القوة المركزية حيث يبدو و كانه يندفع بقوة من المشهد فتطير النحلة و تمشي الدعسوقة و الاهم من ذلك فان خطوط الرسم تبدو و كأنها البوصلة الي بها يقرا العمل و الذي يحدد الحالة التعبيرية ،خاصة اذا ما تأملنا الاعمال التشخيصية التي تحمل تهجينا تصوريا واضحا بين الانسان و الحيوان.
عند تذوق احد اعمال “شهرزاد الفقي” هي كيفية قيام الخطوط بوصف الشكل و الفراغ بصورة مترابطة و منتظمة او من خلال اسلوب غير منتظم فان من اهم التأثيرات هي ان الخط لا يمكنه ان يحدد الشكل في بعض الاحيان بينما الفراغ المستمر المترابط هو الذي يقوم بمهمة تحديد الشكل فالخطوط تبدا في التحرك كدوامة يصعب اللحاق بها فتتراكم فوق بعضها البعض مما يؤدي الى خلق نوع من الكثافة المادية البصرية و العمق المنظوري و الذي يبدو و كانه قريب الشبه بالمجرات الكوكبية التي تدور حول مركز الشمس بالإضافة الى ذلك فان هناك تأثيرات مقصودة هي التي تساعد على خلق الاحساس بالغموض و عادة يتم تحديد الشكل و الفراغ بصورة اكثر ترابطا بحيث يسهل استيعابها على الرغم من ان الخطوط التي تعمل لتحديدهم قد لا تكون بطريقة مباشرة. فتبتعد عن الحشو و التكلف و تعتمد على الانسيابية و السلاسة. و لا يمكن المرور على معضلة تجزئة التكوين بحيث يتطلب كل جزء القاء نظرة على كل جزء من العمل كانه تركيبة منفصلة.
-
شاعرية الصورة وتوازن الحسي مع الإدراك التعبيري.
غالبا ما تأتي الصورة الفنية في أعمال “شهرزاد الفقي” مرادفة لما يدخل تحت الحسي الأثيري وهي من أساليب االتصوير الفني التي تنتدرج فيها الصور الميتافيزيقية بدرجة أساسية مختلطا بالوجدان والثقافة والدراية وخاصة الطبيعة لتخلق شيئا ليس موجودا في الواقع بمواصفاتها التي ابتدعتها واللغة التصويرية الرسومية تمتزج بفكر الفنان فتثير فيه صورا جديدة غير محسوسة في الواقع لكننا ندركها عندما تلامس بصيرتنا العمل.
ومع أن مفرداتها من هذا الواقع الطبيعي و من ثم تثير في المتلقي وفكره وشتى الأحاسيس والانفعالات محققة وضوح المعنى وجمال العرض فضلا عن الإقناع وشغف المتابعة فلصورة الفنية التي يشعر بها المشاهد ويتذوقها ليست مجرد صورة مآلها التداول الفني وناضبها السواد والبياض ولكنها صورة خاصة مميزة أبدعتها شهرزاد الفقي في قالب خطي رسومي فريد ومعنى ذلك أن القارئ لا يتذوق هذه الصورة إلا عن طريق تفكيك عناصرها وثبات تأمله فيها تأملا يثير خياله ويحرك فيه كوامن شعوره لا سيما وأن الخلطة التركيبية في بعض الأعمال تنذر باستنطاق رموزي يتطلب تفكيك شفرته و خاصة مع تلك الصور المجزئة التي تختلف معانيها من متقبل إلى آخر فلكل قارئ ذو مخيلة خاصة وتجارب تذوقية خاصة و ثقافته التي تشكل طريقة تأمله للعمل وطبيعة المضمون التي يستشف منه. (شاهد بعض مقاطع فيديو موقع مقال على اليوتيوب).
المراجع
[1] « L’art doit questionner et déranger », Annette MESSAGER, artiste https://www.les3cha.fr/wp-content/uploads/2018/03/Dossier-p%C3%A9dagogique-INsect-INside-Marc-Georgeault-avril-2018-1.pdf
[2] Les insecte dans l’art de l’Extrême-Orient / Insectes n° 76 http://www7.inra.fr/opie-insectes/pdf/i76lhoste-henry.pdf
[3] الاستاذ الحبيب بيدة – نص الكتروني على شبكة التواصل الاجتماعي
بقلم: جيهان القارة