ذاكرة سكير {الجزء الأول}

بقلم: ياسين الكولالي

يختلف طعم الخمر باختلاف أنواعه، معرفة قطفتها بعلاقتي الوطيدة به، ومصاحبته الدائمة لي، أتذكر جيدا أول مرة تجرعت فيها شيئا من الخمر، كانت قنينة من نوع “الفوتكا”، ذات المذاق المر، وبما أن مشاعري كانت أشد مرارة منه، تجرعت بعد الكأس كؤوسا، وبشيء من النشوة بدأ جسدي يتمايل على أنغام رديئة لطالما اشمأزت أذني من سماعها، أتذكر من بينها  أغنية لشاب خالد [داتني السكرة داتني] أتذكر تفاصيل تلك الليلة بحذافيرها، على عكس ما يروج عن السكير؛ بأنه يصحوا فاقدا للذاكرة، جاهلا ما صدر منه من أقوال وأفعال، كلها تراهات، قد يتناسى، لكنه لا ينسى.

إحساس جميل تملكني في تلك الليلة التي عشت تفاصيلها لي، ولوحدي، ولا لأحد سواي، على عكس ما كنت أتوقعه من ندم وسخط، إستحسنت الأمر، وما إن اقتربت عطلة الأسبوع، حتى إعتذرت لجميع المواعيد، بحجج واهية، قدمتها لبعض الأصدقاء الذين قد سبق لي أن ضربت معهم مواعيد مختلفة في نهاية الأسبوع، كي يتسنى لي الإختلاء بنفسي، فلست ممن يحب أن يشارك خصوصيته مع الغير.

في صباح يوم السبت وبعد إنهائي لروتيني المعتاد لكل صباح من إعداد للفطور إلى غسل الأواني، توجهت للمحل التجاري (مرجان) لقربه من مسكني، وكالعادة توجهت مباشرة للقسم المخصص لما بيت النية لأجله،
أدرت بصري في المكان كأني صاحب المتجر و كل السلع فيه ملك لي بما في ذلك النبيذ، بهدوء أتمعن في القنينات من حولي، و هاتف رن في رأسي “وما الحياة الدنيا إلا متاع” و صوت الأنا الأعلى الناهي قد رد ملحا أكمل الآية، لكن قلبي لم يتسع سوى لهاته الجملة.

بدأت أتجول بين القنينات حائرا، من منهن يا ثرى ستنام في حضني الليلة؟ سؤال سرعان ما حصلت على إجابته، وأنا أقلب عيناي  يمينا و شمالا، وقعت عيني على قنينة مكتوب عليها  Terre’s rouges، كانت قنينة النبيد الأحمر فرنسي الصنع، تأبطت القنينة و على وجه السرعة هرعت لدفع ثمنها بكل سخاء، وقفت في الطابور أنتظر دوري، ثلاثة أشخاص أمامي يتحركون ببطئ شديد، وبينهم طفل كثير الحركة، هو من النوع الذي لا أحبه، ماهي إلا لحضات قليلة ويحين دوري، بعدها تقدمت خطوة واحدة حاملا عشقي الممنوع،
رمقتني المشرفة على جهاز الدفع الأتوماتيكي بنظرة احترام كأنها تبارك لي حسن اختياري و ذوقي في النبيذ، مائة و أربعون درهما قالتها بابتسامة خاطفة سرعان ما اختفت عن وجهها، ابتسامة أدت دورها المنوط بها، لم أدري فيما كانت تفكر آنذاك، صراحة لم أهتم، دفعت ثمن معشوقتي و انصرفت مهرولا إلى غرفتي.

وفي طريقي، خيل إلي أن شخصا ما يتبعني أو يراقبني خفية و يتلصص علي، و عندما ألتفت لا أجد أحدا، أتابع طريقي، و في حيرة  أهمس و أغمغم بصوت خافت، ترى أين هو ؟ و لما يتبعني ؟ أين..؟ أين..؟ و أنا أنظر مرتعدا ذات اليمين و ذات الشمال  ومن ورائي وقدامي، لكن لا أثر لعيون أو أقدام، ألمس وجهي و أفرك عيني غير مصدق، مازال الشك ينخر ذهني، لكني رأيت شخصا ما، نعم رأيته، إنه هناك وهنا، إنه في كل مكان، إنه أنا، إني أهذي، أو ربما هذا  شعور من يحمل الممنوعات.
شارعين فقط يفصلانني عن منزلي الصغير، وقبل أن أقطعهما انحرفت عن طريقي متوجها للبقال، اقتنيت منه قنينة مشروب غازي من نوع هواي مع بعض المكسرات حتى أكسر نكهة الخمر إن كانت شديدة أو مرة  أو لم ترقني.

قطعت الشارعين بخطوات مسرعة كالعادة، ودخلت إلى منزلي الصغير، ، لا أعلم هل يصح أن أطلق عليه إسم منزل، لأنه عبارة عن غرفة متوسطة، جدرانها مطلية باللون الأبيض، ويوجد عند مدخلها مرحاض صغير ، والباقي هو عبارة عن مساحة مكشوفة قسمتها إلى ثلاث أماكن، لا يفرق بينهم أي جدار،
مكان في زاوية الغرفة إفترشته لأنام عليه، ومكتبة صغيرة يجاورها مكتب قديم موضوعين في الزاوية المقابلة لمكان نومي، وقنينة الغاز التي أطبخ عليها مع بعض الآواني قليلة العدد سهلة الترتيب، موضوعة على شمال المرحاض، لأجل قربهم من الصنبور الموجود في  داخل هذا الأخير، والوحيد في المنزل كوحدتي فيه.

وضعت الكيس من يدي على الأرض وتنفست الصعداء، غيرت ملابس الخروج بملابس أخرى، كانت الساعة حينها تشير إلى الثانية ونصف زوالا، هممت في إنجاز أشغال آخر الأسبوع من غسل للملابس وتنظيف الغرفة… إلى أن أفلت الشمس وحل الليل الذي أيقض رغبتي في الشرب، بخفة سريعة وضعت الطاولة البلاستيكية الصغيرة قرب فراش نومي، وفوقها معشوقتي المحرمة مع كأس يتيم، و تتوسطهما قنينة هواي بمنظرها الأصفر البريئ،
وقبل إنضمامي إليهم، شغلت الموسيقى، لكن هذه المرة بعيدا عن الذوق الفني الهابط، كان صوت الرائع لصباح فخري يصدح في أرجاء المنزل: [خمرة الحب إسقنيها، هم قلبي تنسيني، عيشة لاحب فيها، جدول لا ماء فيه… ]. كانت من الأغاني التي تعجبني كثيرا، وما هي إلا لحظات حتى أظفت لصوت صباح فخري، صوت خرير الشراب في الكأس، كان مذاقه مرا نوعا ما، عكس الفوتكا، لكنني حسنت مذاقه بشيء من قنينة هواي، كأس يتلوه آخر،  لا شيء سوى الفراغ، أنا وهذا الكأس المعطر بالخمر، وصوت صباح الجميل، وأنا على ذلك الحال، حتى لآح بي خيالي إلى ذلك الماضي البعيد في حادثة عشتها في حافلة الباص.

أتذكر جيدا عندما توقف بنا الباص في إحدى المحطات كعادته ليصعد الركاب، وكعادة جل الراكبين في الحافلة، -لأننا لا نتبنى ثقافة القراءة أو أن نستغل وقت ركوبنا فيها فيما يفيد- نكتفي بتلمس كل الوجوه الموجودة في الحافلة بأعيننا، وأيضا الوجوه الجديدة التي تصعد في كل محطة.
صعدت فتاة في العشرينيات من عمرها، تلتفت وراءها بين الفينة وأخرى كأنما أحد ما يلمسها من الخلف، غير أن عيني لم تلمح سواها، وما هي إلا ثواني حتى ظهر سبب التفاتها المتكرر.

كانت فتاة صغيرة، في غالب الظن لا تتجاوز عشرة سنوات، مظهرها بلباسها الممزق ولون بشرتها الأبيض الذي تغير الى الرمادي، يوحي على أنها لم تستحم لمدة طويلة، تتقدم برجليها النحيفتين إلى وسط الحافلة، لترسوا على درجة من تحت مقعد وتجلس عليها،
والغريب أن المقعد كان فارغا، ومع ذلك اكتفت المسكينة بالنظر له فحسب، كما لو أنه ليس من حقها الجلوس عليه، قد تكون تلك الطفلة نتيجة علاقة حب لم تتوج بعقد شرعي يرضى المجتمع، فنبذت من الجميع وحملوا الثمرة خطيئة الشجرة، أو ربما قد تكون من عائلة مساكين لا حول لهم ولا قوة، والذي لا شك فيه أنها تعيش على الهامش، مطرودة من ساحة الإنسان، لذلك تكتفي بالنظر إلى المقعد والجلوس في الهامش، كما هو حالها في هذه الحياة البائسة.

رفعت رأسها الملائكي، فوجدت أن عيني لا تفارقها وابتسمت لي نصف بسمة، لأبادلها ببسمة كاملة، وفي حركة سريعة منها، وضعت يدها في جيبها وأخرجت قلم أحمر، ثم بدأت تخط على يديها النحيفتين خطوطا عشواية، طولا وعرضا، وترسم أشياء لا شكل لها، ونظرت إلي وجدتني أنظر إلى الخربشات التي خطتها أناملها البريئة على ساعد يدها، فأشارت لي برأسها مرتين لم أفهم في بادئ الأمر، فسألتها لعدم فهمي لها، فما أن شاهدت شفتاي تحركت حتى وضعت يديها على أذنيها بطريقة عجيبة، زادت من ظلمة الصورة، التي هي في الأصل سوداء، حيث أنني لم أفهم أي شيئ، حتى تدخلت الفتاة العشرينية التي صعدت معها، وقالت: إنها تود أن تعطيك القلم الأحمر، فلما تحدث معها، أشارت إلى أذنها كي تخبرك أنها صماء وبكماء.

تملكني إحساس غريب، شيء من الحزن مختلط مع شيء من الغضب، مع رغبة قوية في البكاء الشديد على طفلة لم تجد من الحياة غير الحزن والأسى والتهميش والإقصاء، ومع كل هذا، قلبها يفيض بالحب من دون قيد ولا شرط.

كانت هذه الواقعة سببا كبيرا في قطع علاقتي مع كل الذين كنت أنتظر حبهم يوما ما، يسمعون، يبصرون، ويتكلمون، ولا شيء ينقصهم بالاستثناء الحب، كل الحجج التي يقدمونها كعذر لبخل قلوبهم علينا بشيء من الحب، هي حجج واهية لا قيمة لها ، مقابل اللاشيء الذي عليه الطفلة في حادثة الباص.

ذلك السكون والهدوء التي كانت عليهما، لا شك أنهما جدار يحوي داخله الآلاف من الأسئلة المتعلقة بالوجود بشكل أساس. فلو كان لنا خيار في أنفسنا بين الولادة والعدم، وتوقفنا قليلا على عتبة الوجود لنقرأ صفحات دستوره، ونرى قوانين معاملاته، ثم خيرنا بين الدخول والنكوص لاخترنا أن نرجع إلى حيث العدم، بدل أن ندخل إلى حيث الشذوذ

لم أعد بحاجة إلى إضافة شيء من قنينة هواي لأحسن مذاق النبيد، فما استحضرته الذاكرة تلك الليلة  كان أمرَّ منه بكثير.

بقلم: ياسين الكولالي

أضف تعليقك هنا