نطرية المعرفة عند محي الدين بن عربي

بقلم: ياسين الكولالي

بسم الله الأعظم، والصلاة والسلام على رسوله الأكرم، وعلى آل بيته الأطهار، وأصحابه الأخيار، وعلى كل الأتقياء الأبرار، الذين تمسكوا بسنته حتى أتاهم اليقين من الواحد القهار. وبعد: إن التصوف نمط من أنماط الخطابات الفكرية، التي يتوصل بها الإنسان للظفر بالحقيقة واليقين، إنه سلوك معرفي يقوم على تجربة ذاتية واعية وعيا خاصا، سلوك لا يعتمد لا على الحس ولا على العقل وحدهما في البحث و بناء قضاياه، بل يعطي للوجدان والقلب دورا رئيسيا فاعلا، وبفضل من الله قد تطرقت للبحث عن نظرية المعرفة في هذا الحقل الصوفي الغامض، لأقتصر على الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي مسلطا الضوء على سيرته الذاتية والعلمية، وكذا عن نظرية المعرفة في فكره.

وقبل شروعنا في الموضوع، هناك توضيح لابد منه في هذا المقام، أننا عندما كنا نبحث في “نظرية المعرفة عند المتصوفة” وجدنا مجموعة من الأمور غير المفهومة، تارة نراها تخالف الشريعة، وتارة تخالف العقل، وأحيانا نجدها تتفق مع العقل والشريعة، ولما زدنا بحثا في هذه الأمور، وجدنا المئات من الكتب المصنفة لا سواء فيما جاء من طعن في المذهب الصوفي ولا في ما جاء نتيجة عنه من الردود، وعليه صديقي القارئ، نرجو منك ألا تحملنا كلاما سنذكره في هذا المقال إن ووجدتم فيه ما يخالف الشرع والعقل، وكما يقول المثل: ناقل الكفر ليس بكافر.

التعريف بابن العربي ( محي الدين بن عربي )

ابن العربي: محمد بن علي بن محمد بن عربي الحاتمي الطائي الأندلسي الشهير ب محيي الدين بن عربي، أحد أشهر المتصوفين لقبه أتباعه وغيرهم من الصوفيين “بالشيخ الأكبر”، ولذا تُنسب إليه الطريقة الأكبرية الصوفية. ولد في مرسية في الأندلس في شهر رمضان عام 558 ه الموافق 1164 م قبل عامين من وفاة الشيخ عبد القادر الجيلاني. وتوفي في دمشق عام 638هـ الموافق 1240م. ودفن في سفح جبل قاسيون.

المطلب الأول: سيرته الذاتية

ولد محيي الدين بن عربي في مدينة مرسية من أب عربي طائي وأم عربية خولانية ويعرف عند الصوفيين بالشيخ الأكبر والكبريت الأحمر. وهو واحد من كبار المتصوفة والفلاسفة المسلمين على مر العصور. كان أبوه علي بن محمد من أئمة الفقه والحديث، ومن أعلام الزهد والتقوى والتصوف. وكان جده أحد قضاة الأندلس وعلمائها، فنشأ ضمن جو ديني.

انتقل والده إلى إشبيلية وكان يحكمها أنذاك السلطان محمد بن سعد، وكانت عاصمة من عواصم الحضارة والعلم في الأندلس. وما كاد لسانه يبين حتى دفع به والده إلى أبي بكر بن خلف عميد الفقهاء، فقرأ عليه القرآن الكريم بالقراءات السبع وقرأ عليه كتاب الكافي، فما أتم العاشرة من عمره حتى كان ملماً بالقراءات والمعاني والإشارات. ثم سلمه والده إلى طائفة من رجال الحديث والفقه تنتقل بين البلاد واستقر أخيراً في دمشق طوال حياته وكان واحداً من أعلامها حتى وفاته عام 1240 م.

ذكر أنه مرض في شبابه مرضاً شديداً وفي أثناء شدة الحمي رأى في المنام أنه محاط بعدد ضخم من قوى الشر، مسلحين يريدون الفتك به. وبغتة رأى شخصاً جميلاً قوياً مشرق الوجه، هجم على هذه الأرواح الشريرة ففرقها ولم يبق منها أي أثر فسأله محيي الدين ابن عربي: “من أنت ؟” فقال له الرجل: :أنا سورة يس. ” وعلى أثر هذا استيقظ فرأى والده جالساً إلى وسادته يتلو عند رأسه سورة يس. ثم لم يلبث أن شفي من مرضه، وأتته فكرة أنه معد للحياة الروحية وآمن بوجوب سيره فيها إلى نهايتها. تزوج بفتاة فارسية تدعى نظام وهي ابنة الشيخ أبي شجاع بن رستم الأصفهاني الذي يعد من كبار شيوخ بلاد فارس في حينها. وكانت تعتبر مثالاً في الكمال الروحي والجمال الظاهري وحسن الخلق، فساهمت معه في تصفية حياته الروحية، بل كانت أحد دوافعه إلى الإمعان فيها.

سيرته العلمية:

مما لاشك فيه أن استعداده الفطري ونشأته في بيئة دينية وتردده إلى المدارس الرمزية، كل ذلك قد تضافر على إبراز الناحية الروحية عنده في سن مبكرة فلم يكد يتم العقد الثاني من عمره حتى انغمس في أنوار الكشف والإلهام ولم يشارف العشرين حتى أعلن أنه جُعِل يسير في الطريق الروحاني، وأنه بدأ يطلع على أسرار الحياة الصوفية. وأن عدداً من الخفايا الكونية قد تكشفت أمامه وأن حياته سلسلة من البحث المتواصل عما يحقق الكمال لتلك الاستعدادات الفطرية. وبقي عاكفاً حتى ظفر بأكبر قدر ممكن من الأسرار. وأكثر من ذلك أنه حين كان لا يزال في قرطبة قد تكشف له من أقطاب العصور البائدة من حكماء فارس والإغريق كفيثاغورس وأمبيذ وقليس وأفلاطون وهذا هو سبب شغفه بالاطلاع على جميع الدرجات التنسكية في كل الأديان والمذاهب عن طريق أرواح رجالها الحقيقين بهئية مباشرة. وألف كتاب الفتوحات المكية الذي يمكن تتبع أقواله فيه

رحلاته:

يحكى ان ابني عربي رأى وهو في حالة اليقظة أنه أمام العرش الالهي المحمول على أعمدة من لهب متفجر ورأى طائراً بديع الصنع يحلق حول العرش ويصدر إليه الأمر بأن يرتحل إلى الشرق وينبئه بأنه سيكون هو مرشده السماوي وبأن رفيقاً من البشر ينتظره في مدينة فاس 594هـ. فيما بين سنتي 597هـ، 620هـ الموافق سنة 1200، 1223 بدأ رحلاته الطويلة المتعددة الي بلاد الشرق فاتجه واستقر في دمشق.

في السنة 1201 م رحل إلى مكة فيستقبله فيها شيخ إيراني وقور جليل عريق المحتد ممتاز في العقل والعلم والخلق والصلاح. والتقى بفتاة تدعي نظام وهي ابنة ذلك الشيخ وقد حباها الله بنصيب موفور من المحاسن الجسمية والميزات الروحية. اتخذ مهنا محيي الدين ابن عربي رمزا ظاهريا للحكمة الخالدة وأنشأ في تصوير هذا الرمز قصائد سجلها في ديوان ترجمان الأشواق ألفه في ذلك الحين. وفي ذلك الحين في احدي تأملاته رأي مرشده السماوي مرة أخرى يأمره أيضا بتأليف كتابه الجامع الخالد الفتوحات المكية الذي ضمن فيه أهم أرائه الصوفية والعقلية ومبادئه الروحية.

في سنة 599هـ [19] زار طائف وفي زيارته إلى بيت عبد الله بن العباس ابن عم رسول الله محمد (ص) استخار الله وكتب رسالة حلية الأبدال لصاحبيه أبي محمد عبد الله بن بدر بن عبد الله الحبشي وأبي عبد الله محمد بن خالد الصدفي التلمساني.

في سنة 601هـ، 1204م ارتحل الي الموصل حيث جذبته تعاليم الصوفي الكبير علي بن عبد الله بن جامع الذي تلقي لبس الخرقة عن الخضر مباشرة، ثم ألبسها لمحيي الدين ابن عربي بدوره. وفي نفس السنة زار قبر رسول الإسلام وكما قال “وقد ظلمت نفسي وجئت إلى قبره صلى الله عليه وسلم فرأيت الأمر على ما ذكرته وقضى الله حاجتي وانصرفت ولم يكن قصدي في ذلك المجيء إلى الرسول إلا هذا الهجير”.

في سنه 1206م رحل إلى القاهرة، وفي سنة 1207م عاد الي مكة وأقام فيها ثلاثة أعوام تم عاد إلى دمشق وزار قونية بتركيا حيث رحب به أميرها السلجوقي باحتفال بهيج. وتزوج هناك بوالدة صدر الدين القونوي. ثم لم يلبث أن ارتحل الي أرمينيا.

في سنة 1211م رحل الي بغداد والتقى هناك بشهاب الدين عمر السهروردي الصوفي المشهور. في سنه 1214م زار مكة ووجد عدد من فقهائها الدساسين قد جعلوا يشوهون سمعته لسبب القصائد التي نشرها في ديوانه الرمزي منذ ثلاثة عشر عاما فرحل إلى دمشق عائداً.

بعد ذلك رحل الي حلب واقام فيها مدةً من الزمن معززاً مكرماً من أميرها. أخيرا أقام في دمشق في الفترة 1223م ـ 1240م حيث كان أميرها أحد تلاميذه ومن المؤمنين بعلمه ونقائه وعاش حياته في دمشق يؤلف ويعلم وكان واحداً من كبار العلماء بين أهل العلم والفقه في دمشق، والتقى به عدد كبير من العلماء والطلاب من جميع أنحاء المعمورة ومن أبرزهم الشيخ جلال الدين الرومي صاحب المثنوي.

المعرفة عند ابن عربي ( محي الدين بن عربي )

أولا: في معرفة الله

كما سبق وقلت في المقدمة  أن المعرفة مجال من أهم المجالات الفكر الصوفي، والصوفي الفلسفي خاصة، فهو مرتبط ارتباطا بنائيا بمجال الوجود، وهذا الارتباط يظهر بشكل قوي، وبمنظار أوضح في مذهب “بن عربي”.

فموضوع المعرفة عند “بن عربي” كما هو عند غيره من مفكري الإسلام، متصوفة، فقهاء، متكلمين، وفلاسفة، هو الله ووحدانيته وحقيقته، إلا أن ما يميز مقاربة “بن عربي” لهذا الموضوع، هو تلك العلاقة التي يبنيها بين عناصره والرابط العام المشترك الذي يربطها به، فالعلاقة القائمة بين عناصر موضوع المعرفة عنده يتجلى في كونها ما يحصل في الذات العارفة عند التقائها بموضوع المعرفة فانه لكي تكون هنالك وضعية معرفية لابد أن تتضمن وجود ذات عارفة وموضوع للمعرفة، تصل بينهما علاقة معرفية يعبر عنها في شكل معرفة، وعلى هذا تكون السمة مميزة للمعرفة، أنها في جوهرها علاقة من نوع معين بين الإنسان والعالم، إنها القدرة التي يمتلكها والموقف الذي يتخذه تجاه ما يوجد (الإنسان مقابل الوجود).

وإذا كانت الذات العارفة في مجال المعرفة، والصوفية ترى في ذاتها أنها تمتاز بخصوصيات لا تحض بها الذوات الأخرى لأن الموضوع الذي تبنيها من خلال مقابلتها للوجود، له في اعتقادها مفهومه الخاص ومجالاته الخاصة. كما أن القدرة التي تمتلكها من أجل الكشف عن الحقيقة ومعرفتها، وكذا الموقف الذي تتخده من الوجود يفوق قوة وضوحها موقف كل الذوات العارفة، وابن العربي يرى أن ذلك الموقف الذي يعتبر نمطا من أنماط حضور الإنسان داخل العالم، وتلك القدرة على النفاد إلى أعماقها هي كرامة من الله : (فما كل ممكن من عالم فتح الله عين بصيرته للإدراك، كثر أمر في نفسه على ماهية عليه: فمنهم العالم والجاهل (فما هداهم أجمعين …ولذلك كثر المؤمنون وقل العارفون وما تلك الكرامة سوى الاهتداء إلى موضوع المعرفة الأسمى ألا وهي الله الذي خص بها عباده العرفين من الصوفية وهكذا كما ميز ابن العربي ضمن مبحثه في الوجود، وجود الله الحق، بين مستويين: مستوى الذات إلهية المطلقة (الأحادية)، ومستوى الأسماء الإلهية

فهو يميز في مبحث المعرفة بين ما هو موضوع إيمان بكل المؤمنين وبين ما هو موضوع للمعرفة، ذلك أن المعرفة الحقيقية بالله ليست العلم بوحدانيته، لأن وحدانيته هي موضوع إيمان من طرف جميع المؤمنين، كما أنها ليست من علوم البرهان والنظر العقلي، وإنما هي معرفة صفات وأسماء الوحدانية، التي لا يبلغها إلا من صفت مرآة قلبه وأصبحت قابلة للتجلي الإلهي، واصطفت همته فارتفع إلى منزلة الأولياء المقربين.

والحقيقة أن ابن العربي ليس هو الأول الذي صاغ هذه النظرية بهذه الصورة، بل نجد لها مثيلات عند أوائل الصوفية وعلى رأسهم “ذي النون المصري”، الذي كان يميز بين المعرفة الإيمانية الصرفة، والمعرفة العقلية البرهانية، والمعرفة الصوفية، إلا أن ابن العربي كان أكثر توضيحا للمسألة وأكثر تعميقا لصلاتها بمبحث الوجود عندما ميز بين معرفة الوجود من حيث هو كثرة متكثرة وهي ظاهره، وبين مستوى معرفة الأسماء والصفات الإلهية والتي تمثل (الأمور الكلية …وهي باطنه) لأن لها الحكم والأثر في كل ما له وجود واقعي . فليس الأسماء والصفات سوى عين الوجود الظاهر بكل مظاهره فهي ” الظاهر من حيث أعيان الموجودات كما هي الباطنة من حيث معقوليتها” وميز كذلك في ذلك الوجود الباطن بين المعرفة ماهو كلي متعلق. بمعاني الأسماء الإلهية ومعرفة الذات الإلهية، التي تمثل الغيب المطلق والسر المكنون، الذي استأثر بعلمه لذاته، والذي لاحولة ولاقدرة للإنسان على معرفتها أو تصورها أو التعبير عن حقيقتها، وكل ما في وسعه فعله، هو تنزيهها وسلب الشبيه عنها، فلا يعرفها إلا بالسلب: “فذات الله تعالى غيب وليس لذاته في الوجود مناسب ولا مضايف ولا مناف ولا مضاد…” . فالحق مستور باطن ، لا يحيط به زمان ولا مكان ولا تدركه الأبصار، بل هو يدرك الأبصار .

ثانيا: الكشف: الكشف

فالمعرفة الشاملة والوسيلة إلى تحقيقها تكون عن طريق الكشف الرباني للحقائق الأشياء ومعانيها الأصلية، فالكشف عند عند ابن العربي وعند الصوفية عموما يتجاوز العقل والتجربة الحسية. ومن تعريفات الكشف هو الفعل الذي يتم من خلاله الإطلاع على ما وراء الحجاب من المعاني الغيبية وجودا وشهودا، “الجرجاني”

وهذا يعني أن هناك بين النفس البشرية والجلال الإلهي حجابا تجسده الموجودات، ولا يمكن للذات العارفة أن تدركه إلا إذا تجلت فيها الحقيقة كاملة وقامت بالانتقال من عالم الخلق إلى عالم الحق، ومن عالم الحق إلى عالم الخلق، وعندما يتم لها ذلك، أي عندما تتبدد حجب الخلق، يحصل الكشف. وابن العربي يعتبر الكشف هو سبب معرفة الحق، ويقول محمد الشربيني في كتاب سلطان العارفين: وعلوم الكشف والفيض لايمكن أن تجادل، ولا يمكن أن تناقش، لأنها علوم ذوق وتذوق، وليس في الذوق جدل ولا جدال. (شاهد بعض مقاطع فيديو موقع مقال على اليوتيوب).

بقلم: ياسين الكولالي

 

أضف تعليقك هنا