امرأة ليست ككل النساء

بقلم: فاطمة المهيدب

يغلب على بيئة كبار السن ضمور الذاكرة وخمولها لاسيما الذين يبلغون الثمانين وما فوق، لكن كانت لدينا جدة مختلفة يبرع فيها الذكاء اللغوي والبلاغة والحسّ الفني بالقصائد والأمثال والحكم، حيث تنادي كل ابن وحفيد وضيف بما يوائمه، فهذا سليمان حين يقبل عليها بابتسامته الساحرة ترحّب: هلا سليمان، “يسلم لي هالطول تسلم لي ضحكاتك!” وعادل “ياعديل الروح”.. أسيل “سيلة قلبي”.. والقائمة تطول .. كلٌ له في القلب محل كأنها تحبه لوحده.

حنان الجدّة

تسأل كل حفيد عن عمله ودراسته وإجازاته وإنجازاته وأخوانه وأولادهم وأخواله وأولادهم وأولاد أولادهم وعمومتهم وليس غريبا لو ذكرَت الأخيرين بأسمائهم، تدعم أخذ العلم ونيل الشهادة والسعي للرزق، تسأل الطالب كم بقي على تخرجه والموظف عن عمله، تُرجع العلاقة التي تربط من تتحدث له بمن تتحدث عنه، فإن كانت تحكي عن ابنها والحديث توجّهه إليّ تقول: “عمّك”، وتلتفت على ابنة عمي فهو “أبوك”، وعندما توجّهه لابن عمتي فبالطبع يكون “خالك”، وعلى والدي فهو “أخوك”.

وجهها الباسم وكلامها الجميل

لوهلة قد تظن الأمر سهلا لكن ذلك يعني أنها حاضرة الذهن وكلماتها موزونة تُرسلُها بقصد، مَن يسمعها يشعر بالإلْف والقرب. وهنا الذكاء الاجتماعي والروح الجليلة والحضور الفاخر الذي جعل الناس تحبها وتسعد لمجلسها، فهي حلوة الدار والمبسم، عذبة الحديث والحكايا، القول ما قالت، والفعل ما فعلَت، وقد كان لرفيقاتها وجاراتها النصيب الأسد في علاقاتها فقد نسجت الكثير من العلاقات الوطيدة الممتدة، حتى صرنا نُعرَف من خلالها وسط المجتمع.

تقدّم الحب والوفاء للجميع

تحب حشيمة الناس ومَن يحشمها، وتقدم لهم الحب والوفاء والسؤال الخالص، تأنس للاجتماعات والدوريّات، وما من دوريّة إلا ولها استثمار أخروي إما بمجلس ذكر أو بمشروع خيري يتشاركن في جمعه، وقد استقبلَت إحداهن قبل أسبوع من وفاتها وتوفيا سويًا رحمة الله تغشاهم.. وكانت لا تتلذذ بأطايب الطعام مالم تتمنى أن يتذوقه فلان وفلان، لا تحقر من المعروف شيئا ولو بـ “نقصة” تشريبه أو دولمه تبهجهم وتطيّب خواطرهم، ولعل جاراتها المحظوظات يفهمن ما أعنيه جيّدا.. أما من يُعجبه طعامها من الضيوف ويمتدحه أمامها أو يسأل عن مصدره وطريقة تحضيره فقلّما يأتي الغد إلا ويطرق بابه مثله وأضعافه.

تسأل عن الجميع

إذا كان قوقل ماب بتقنياته الحديثة يخبرني متى آخر مرة زرت هذا المكان، فكذلك جدتي تخبرني بحسبتها الخاصة واهتمامها الرقيق ونظرتها المهيبة متى كانت آخر زيارتي إليها.. ومتى زارها فلان وفلان.. سريعة الانتباه للمفقود والسؤال عنه والتفهّم لعذره وإرسال السلام إليه، تكبّلنا بسلاسل الدعاء والمحبة حتى نغرق خجلاً.

ذكرت لي في إحدى الزيارات بعض من عناوين الروايات والكتب التي قرأَتْها في شبابها وخلاصة خبراتها ومعارفها فكأني كنت في صالون ثقافي أدبي مع سيّدة مثقفة مغمورة، أذكر أني مررت المكتبة بعدها وقرأتُ بلذة أن هذا النص صافَح عيون جدتي ولامس دماغها وأفكارها!

هي امرأة من الزمن الجميل ليست ككل النساء

تتفقد الجمال وتبحث عنه وتتوق له، نجده ظاهرًا على هيئتها ونشعر به كامنٌ في روحها، عاطفتها الملهمة أشبه بقطعة فنيّة جميلة، ممزوجة بالألحان والفكر والقصيد والابتهالات. تحب الماضي بذكرياته، ومُجارية للحاضر بتغييراته، تؤمن بحكمتها (كل زمان له زمانه)، مهتمة لأحوال العالم الخارجي في كل مكان، نقوم بمداراتها حتى لا نثير قلقها لكنها متابعة وبواجب الدعاء تابعة، كذلك الشاب الذي يمارس مراهقته بجولات التفحيط في الشارع نال حظَا من دعائها العريض، الخدم والسائقين وكل من جعلهم الله تحت يديها هم أولادها، تطعمهم مما تأكل، تعينهم ولا تكلفهم ما يغلبهم.. هي امرأة من الزمن الجميل ليست ككل النساء..

لا أعرف الكثير عن خبايا أعمالها وعباداتها إلا ماظهر منها، لكني أعرف أن هناك أوقات مستقطعة من يومها للتسبيح والأذكار تأوي إلى ركنها حتى تنهيها كاملة.. وأذكر كلما ساعدتها في ترتيب غرفتها وأوراقها يقشعرّ بدني لكثرة إيصالات الجمعيات الخيرية والأيتام المكفولين تحت رعايتها.. وكلما أنفقَت من خزائنها للصدقات وصلتها هدايا تشبهها وأجمل مثل السنبلة التي يضاعفها الله مائة حبة وهو الواسع العليم.

دينها وورعها وتقواها

وتحكي لي عن أسفها من بعض الليالي التي لا تثق باستيقاظها قبل الفجر تماما لصلاة الوتر حيث استحباب التأخير، فصارت تصلي الوتر قبل مرقدها.. ولا أذكر في مرة زرتها إلا وتأخذ نفسا عميقا وتدعو “الله يبادرنا بالعفو والعافية وينطينا سعة الصدر وقوّة الإيمان يابنيتي”. بمخارج واضحة ونبرة قوية وصوت مميّز وشعور صادق وملامح خاشعة لله رب العالمين.. وقد تغرق بدموعها.

هذا الخوف المقلق من وباء (كوفيد-19) والعمل بالاحترازات والتحفظ عن السلام والعناق، أشغلني عن فكرة احتمالية أن تموت لأنه يومها المكتوب، لكن هذا ماكانت تتمناه حين تدعو: “من حيلي لقبيري”، فهي متيقظة للموت لا تتخطّاه ولا يغيب ذكره، بل يجيء عرَضا كما هي الأحاديث تجرّ بعضها بالرغم من حبها وإقبالها واستمتاعها بالحياة.

وأحسبها ولا أزكيها انعكاسا لمعنى: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا)، والحمدلله على ما أخذ وأعطى، قدَره نافذ وودائعة مُستردّة، وكل قضاء يقضيه هو الخير والحكمة، وإن القلب ليحزن وإن العين لتدمع وإنا على فراقك يا ماما لطيفة لمحزونون. فاطمة عدنان 5-7-2021 الموافق 25 ذو القعدة 1442هـ

بقلم: فاطمة المهيدب

 

أضف تعليقك هنا