الإبداع في التحليل الأدبي (الدكتورة اللغوية هناء الشاوي نموذجاً)

ينهج الباحثون والنقاد مناهج شتى في تحليلهم للنصوص الأدبية، وتكمن براعة كل منهم في حسن اختيار وتوظيف المنهج الأكثر قدرة على تمثّل العمل الروائي المدروس، وفي هذا المضمار تبرز الباحثة اللغوية “د.هناء الشاوي” التي تناولت النص الأدبي بالنظر إلى زواياه اللامرئية، والتي يتم التوصل إليها عن طريق الربط بين عقدة النص وما يعادلها من جوانب تظهر للقارئ، مستعينة بالمنهج العلاماتي، والعناصر اللغوية التي ترى أنّها المصدر الأكثر ثراءً للوصول إلى ما وراء النص، الذي ما هو إلّا جسر يعبر به القارئ إلى مكنونات المبدع.

تحليل الباحثة اللغوية د. هناء الشاوي لرواية (نهر بلا شطآن) 

ونسرد هنا نموذجًا من تحليلها لرواية (نهر بلا شطآن) للكاتب إبراهيم خريط، والذي دأبت فيه على استنطاق النص الأدبي، وإبراز الجماليات الكامنة فيه، فتتبعت عناصر الرواية ساعية إلى رصد ما يمكن أن تشير إليه من رموز تكشف للقارئ عن أبعاد دلالية، وإيحاءات ترتبط بدلالة كل رمز من هذه الرموز، بحيث تغدو الرواية مجموعة من العلامات التي تشكّل نقاط علّام يمكن أن يعود إليها في فهمه للرواية. وسنركز في مقالنا على بعض عناصر الرواية التي أفردتها الباحثة بالبحث والتحليل دون الخوض في تشعبات العناصر الأخرى، ومنها المكان، وبعض الشخوص.

تحليل العنوان وكثرة الألام التي تعصف بالراوي

استهلت الباحثة تحليلها بالوقوف على أولى عتبات النص الإبداعي، وهو العنوان، فرأت أنّ صاحبه قد اختار له تعابير تجمع بين الحياة (نهر)، والعدم (بلا شطآن) الذي دلّت عليه أداة النفي (لا)، فهذه العبارة تحمل في رحمها دلالات عدة، مشيرة إلى النهاية التي  آلت إليها الرواية، فقد جعل الكاتب هذا النهر هو المحمل الذي تتكئ عليه الأحداث، هذا النهر الذي قد كان صديق البطل في طفولته، وكان يلجأ إليه كلما ضاقت به الدنيا، لكنه  انقلب عليه فيما بعد، حين أغرقه في النهاية؛ فمِن الكلمة الأولى: (نهر) التي جاءت مُنكّرة مفردة، وهي ترمز لبطل الرواية الذي عاش على هامش الحياة وحيدًا، إلى ذاك النفي في عبارة: (بلا شطآن)، الذي يحمل في طياته معاني القهر، والحرمان، والفقد الذي عاشه بطل الرواية (عبد الله) بعد فراقه لأبويه، وصولًا إلى الجمع في كلمة (شطآن)؛ فما أكثر الآلام التي تعصف بهذا الشاب ويواجهها بمفرده! بل ما أكثر مشكلاته التي غادرها بلا حل! وكم هي كثيرة أحلامه التي تُركت بلا تحقيق![1]

الانتقال إلى المدخل الذي افتتح فيه الكاتب روايته وتحليله

وبعد أن فككت الباحثة أجزاء العنوان تنتقل إلى المدخل الموجز الذي افتتح به المبدع روايته، والذي آثر أن يكون حادثة استقاها من عهد الرشيد، وهي حادثة (مسكين بن صدقة) ذلك المغني الي دُعي إلى قصر الرشيد للغناء، فغنّى غناء الملّاحين، والسقّائين، وما جرى مجراه في الغناء، فسُئل عن السبب، فقال: ” مَن فُرِشت داره بالبواري، والبردي فهذا الغناء كثير عليه ” [2]. وتشير الباحثة إلى أنّ إيراد هذه القصة جاء لحاجة عظيمة في نفس المبدع؛ فـ (مسكين بن صدقة) هذا يعادل موضوعيًا بطل الرواية (عبد الله)، وقصر (الرشيد) ما هو إلا حياة (عبد الله) التي لم تتسع له، بل ضاقت عليه وعلى آماله وأحلامه الصغيرة.[3]

الأهمية الكبيرة للمكان في تحليلها

أولت الباحثة المكان أهمية كبيرة في تحليلها، كما فعل مبدع الرواية في روايته، فهي تؤكّد أنّ المكان الأبرز في رواية (نهر بلا شطآن) والذي منحه الكاتب أهمية خاصة هو (النهر)، ذلك النهر الذي حمّله الكاتب الكثير من المعاني، وجعل منه عنوانًا للرواية، وعقدة تدور حولها الأحداث، ترى ما قصّته؟

النهر في البنية السطحية للرواية هو نهر الفرات القريب من قرية الناصرية، وهي قرية البطل، ومنذ بداية الرواية يظهر لنا هذا النهر بصورته السلبية، فلا يصوّر الكاتب لنا عذوبته، وصفاءه، وورود الناس عليه للشرب، بل صوّر لنا فيضانه، وابتعاد أهل القرية عنه، إلا من لا يقوى على البعاد، كبطل الرواية (عبد الله) وآخرين، على كل حال، فقد لقوا حتفهم فيه، إذ وصل (عبد الله) في نهاية الرواية إلى مرحلة حرجة، وضاق صدره عليه، فلم يجد إلّا النهر الذي عهده صديقًا وفيًا في طفولته، فألقى نفسه فيه، فابتلعه النهر كما ابتلع غيره من سكان القرية، بعد أن تعكّر لونه، ومال إلى الحمرة، ليستقبل ضحيّته الجديدة، وما تعكُّر لون النهر، وتغيُّره إلا رمز لتعكر حياة البطل، وتدهورها.[4]

ومن الطريف في الرواية أنّ هذا النهر كلما تعكّر، ومال لونه نحو الحمرة غرق فيه أحد سكان القرية، وقد تكررت هذه الحادثة كثيرًا في الرواية، ولعلها خرافة، ولكنّ الصدمة التي يضعنا أمامها الكاتب هو أنّ بطل الرواية، وهو (عبد الله) الذي لطالما تعجّب من تصديق الناس لما ترمز إليه هذه الحادثة قد وقع ضحية هذا النهر بعد أن تعكّر لونه!

تحليل الشخصيات في الرواية، حيث كانت ركناً أساسياً فيها

أمّا عن الشخوص في الرواية فقد أفردت لها الباحثة متسعًا من التحليل، ولا عجب في ذلك، فالشخوص “محور أفكار الكاتب وآراؤه العامة، فلا يستطيع أن يسوق أفكاره منفصلة عن محيطها الحيوي.. لذا كانت الشخوص ركنًا أساسيًا في الرواية”[5].

شخصية عبد الله

وتناولت الباحثة الشخوص الرئيسة بالتحليل، فـ (عبد الله)، وهو شاب في الثالثة والعشرين، يواجه في حياته ألوانًا من المصاعب منذ الطفولة، يظل متمسكًا من بداية الرواية حتى نهايتها بقيم ومبادئ يفاجأ بأنها لا تنطبق على أرض الواقع، فيصاب بخيبة كبيرة،  إلى أن تنتهي حياته غرقًا في نهر الفرات.

شخصية جميلة

أمّا (جميلة) فهي الجانب المشرق في حياة (عبد الله)، وهي كما يصفها الكاتب: (في عمر شقيقته، وهي حقًا جميلة، اسم على مسمى، سمرتها خفيفة..)، فهي تمثّل الفتاة الريفية البسيطة ذات الجمال المتوسط، والقلب الطيب، أحبها عبد الله حبًا صادقًا، وبادلته هذا الحب، غير أنّ هذا الحب وئد قبل أن يولد، حين قُتل (جمال) شقيقها، وحين فرّق الموت أيضًا بينها وبين عبد الله الذي غرق في النهر، الذي غرق فيه حبهما أيضًا، وتقدّم الباحثة رؤية لرمزية لوجود (جميلة) في الرواية، فهي كما ترى ترمز إلى العاطفة، والحنان، وتشكّل الملجأ الروحي الذي يغمر (عبد الله) بدفئه حين تضيق به الدنيا، وكما ترى الباحثة فإنّ هذا الحب يمثّل له  نوعًا من الهروب من الواقع المؤلم الذي يعيشه، وإنْ كان هذا الهروب مؤقتًا، بدليل أنّ هذا الواقع المؤلم ظلّ يسكن فيه منذ أن كان طفلًاً إلى أن أصبح شابًا، وحتى وفاته، حتى ذاك الحب الذي أذاقه سعادة كبيرة قد حطّمته آلة المجتمع القاسية بكل ما فيها من ظلم وجور قبل أن تحطّم غرفته آلة عمّال البلدية إيذانًا بتحطّم آماله وأحلامه.

شخصية قنيفذ

أمّا شخصية (قنيفذ) فوجدت فيها د. هناء  رمزًا للإنسان المستسلم لغيره، عديم الرأي، طيب القلب، غير القادر على تغيير مسار حياته نحو الأفضل، ومما يدل على ذلك الحادثة التي تكررت كثيرًا في الرواية، إذ يلحق به الأطفال كلما رأوه ” وهو على ظهر حماره الصغير، يصفّقون، ويهتفون: قنيفذ مال، … قنيفذ مال، وما إن يسمعهم حتى يفقد توازنه، فيميل يمينًا ويسارًا، ويقع على الأرض، فيضحكون، ويهربون قبل أن يلحق بهم “، وربما كان ليتمه، وفقره الأثر الكبير في حالته تلك، وما يوحي بذلك هو اسمه المصغّر، وأصله: قنفذ، ولعله جاء هنا لغرض الدلالة على التحقير من شأنه من قبل أهل قريته. يحدّثنا الكاتب عن شخصيته فيقول: ” أبو صارم هو جدوع، ولقبه قنيفذ، واحد من أبناء القرية، نشأ يتيمًا فقيرًا، عاش على ما يتصدقون به عليه من طعام ولباس ومال لقاء خدمات يكلفونه بها، رجل تجاوز الأربعين، قصير القامة، قصير اليدين والقدمين “[6].

يمثّل (قنيفذ) بلقبه هذا جانبين متناقضين في الرواية:

أحدهما: التصاق هذا اللقب به حتى ليكاد لا يُعرف إلّا به، وهو نتيجة التقاليد المجتمعية البالية، وثانيهما: أنّه قد مثل الجانب الفكاهي في الرواية، بعفويته، وبساطته، وشكله المضحك، أمّا علاقته بـ (عبد الله ) بطل الرواية، فقد كانت تتسم بالحميمية، والود، حيث كان في كثير من الأحيان مصدر سعادة تخفف عن (عبد الله) بعضًا من آلامه.

وترى الباحثة أنّ هذه إنّ هذه الرواية تطرق أبواب الأدب الاجتماعي، فتحاكي الواقع بكل تفصيلاته، ولذلك فهي لا تجلس في أبراج عاجية، بل تنطلق من الواقع وتعود إليه. وبذلك فقد قدّمت الباحثة د. هناء الشاوي تحليلًا مميزًا لرواية (نهر بلا شطآن) انطلقت فيه من اللا مرئي، والعلامة النصية، واعتمدت عقدة النص، وهي النهر في ربط أجزاء الرواية، بالإضافة إلى توظيف العنصر اللغوي النصي الذي يحمل في رحمه معنى الرواية كلها.

المراجع:

  • [1] قراءة تحليلية في رواية (نهر بلا شطآن)، هناء الشاوي، ص 15.
  • [2] رواية (نهر بلا شطآن)، إبراهيم خريط، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2003م، ص 5.
  • [3] قراءة تحليلية في رواية (نهر بلا شطآن)، هناء الشاوي، ص 41.
  • [4] قراءة تحليلية في رواية (نهر بلا شطآن)، هناء الشاوي، ص 32.
  • [5] قضايا النقد الحديث، محمد صايل حمدان، دار الأمل، إربد، ط1، 1991م، ص 73.
  • [6] رواية (نهر بلا شطآن)، إبراهيم خريط، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2003م، ص 65.

فيديو مقال الإبداع في التحليل الأدبي (الدكتورة اللغوية هناء الشاوي نموذجاً)

أضف تعليقك هنا