“تونسة” الفن المعاصر: نوافذ بعدسة منى الجمل السيالة

بقلم: جيهان القارة

لا أجيد في بعض الأحيان كتابة المقدمات، لا بل أنني في أحيان أخرى أكتب المقالات مبتورة و تظل المقدمة آخر ما أحرر. فالذات الكاتبة لا طالما تشح قريحتها اللغوية عندما تعترض مبدعة أصف أعمالها على أنها جزء من نسيج مفاهيمي عنكبوتي متشابك “متونس” الملامح.

لا طالما استوقفتني تجربتها فهي تلك التي تبحث عن التجدد و التفرد لا تفرغ قريحتها الإبداعية على ماهو سلس و خيال مبتور بل بالعكس دائمة البحث عن سبيل لرصد الواقع المعيش بدون المساس بملكوت فني معاصر و هي التي ترعرعت في محيط فني ثقافي معرفي و استقت الذبذبات التاريخية من والدها إنها المبدعة “منى الجمل السيالة”.

ما هو عمل الفنانة “منى الجمل السيالة”؟

تعمل “السيالة” على تفكيك الجزيئات المادية و التقنية للعمل فتهرب بسلاسة من كلاسيكية الصورة إلى تمثيل الفكرة بطريقة معاصرة فياضة لا يمكن في بعض الأحيان تصنيفها إلا إذا ما فتحنا أبواب التفكير المعاصر بترهاته و مكامنه كما يمكن أن تتخذ شكلا آو تطبيقا عبر وسائط متعددة تتفق مع المعايير و المفاهيم الجمالية التشكيلية هذا من جهة أولية إلا أنها لم تقف في حدود ممارسة جافة بل انها سايرت متغيرات التكنولوجيا الرقمية و الأداء الفني المعاصر و أوجدت أشكالا جديدة من التركيب الرقمي و فن الفيديو و الرسوم الحاسوباتية.

فتميز إبداعها بأنه يكسر الحدود و القواعد السابقة عليه، فتجتاح خطوطها و ألوانها عذرية الورقة و تصبح منصات مسرحية واقعية أو صورا وثائقية توثيقية أو منحوتة افتراضية فسيفسائية تخلد صرحا تاريخيا . فهل للصورة الرقمية المستحدثة لل”سيالة” تأثير في آليات بناء الأنظمة الشكلية في الفن المعاصر؟ و كيف تمكنت من “تونسة” الصورة الرقمية و الفنية في إطار الفن المعاصر؟

شرارة من الداخل: فن من الخارج

تقول الراحلة نوال السعداوي: “الخيال هو القوى الدافعة وراء الإبداع في الفن و الأدب و الفلسفة”..تتحرر الخطوط و الحركات على سطح الورقة إلى فضاء مفتوح تونسي و تتبعثر في نظام عجيب تنسلخ عن العوارض و الحدود الضاغطة عليها فتصبح مسائل و إشكاليات ثقافية إيديولوجية  لا تعتبر عن شخص ّالسيالة” بل عن هموم فاض أرقها و أصبحت معضلة في المجتمع ليصبح العمل شرارة نارية ثورية تنفجر على سطح ورقي أو رقمي فيعيد صياغتها بأسلوب تقني متكامل تكون فيه “السيالة” تارة بطلة الحكاية أو الشخصية المحورية أو أن تكون المخرج الذي يضع الشخوص و خارطة الطريق للمشهد عبر عدسة الآلة الفوتوغرافية .

خصوصية السمة الفنية عند “السيالة”

تعتني “منى الجمل السيالة” بأسئلة و تحديات الراهن و التي ترتبط بمدى قدرتنا و فاعليتنا في جعل ما يدور حولنا او بما يعرف بالمعيشي او المتعايش ينطبق و يتماثل مع خصوصية السمة الفنية و ماهو ثقافي على وجه الخصوص فلم تجعل من كيانها المبدع ذو عقلانية دغمائية مسكونة بهاجس التماشي البوهيمي بل جعلت من هذه السلبية لحظة نفور و نسيان و تجاهل بل لحظة اختيار لتبني مسيرة فنية منهجية مضيئة و مجدية لا بد من سبر أغوارها واستقصاء مكنوناتها و لكن علينا من جهة أخرى “أن يتناساها في فترة لاحقة لكي لا يسقط في فخ التكرار و لكي يتسنى له أن يعيد صياغة الأسئلة و يجيب عنها بطريقة لم يسمح بمثلها من قبل.”[1]

تدخل “منى الجمل السيالة” حيز مفهوم المواطنة و الهوية عبر مطية مجموعة من الصور الفوتوغرافية  حيث تظل عينا المشاهد مرفوعتين لا إراديا لتلك الصور المثبتة على الجدار أو المرفوعة افتراضيا على مواقع التواصل الاجتماعي إنها صامتة لكنها تنم عن حوار ثوري سلمي، أفكار في بعض الأحيان متضاربة تدور في مخيلة المشاهد كعمل “الخربة” 2018 التي التقطت فيه مجموعة من الصور لفضاءات تونسية مختلفة رصدت عبر سوادها و بياضها و رمادها النبض المعيشي اليومي في تونس يتخللها لمسة أمل بألوان الطيف. فهل هو توثيق للواقع ؟ ام هو تصوير واقعي تعبيري في قالب رقمي ؟ تتعدد التفاسير لا بل إنها حقيقة تتضارب في سلسلة من التساؤلات التي تنتظر الإجابة و التحليل.

لماذا لا يمكن فصل الواقع عن الفن؟

حقيقة لا يمكن فصل الواقع و الهوية عن الفن، فمنذ الأزل و منذ انحلال الفلسفة في التفكير اليومي المعيشي استنفذ الفلاسفة أفكارهم و عصارة عقولهم على مسألة واحدة اهتمام الفن بالواقع حتى و إن كان في قالب ميتافيزيقي، وهو انتهاج اتبعته “منى الجمل السيالة” فانتماءها و إحساسها العميق بأنها جزء من هذه الهوية و من هذه البلاد بتقلباته و مرارته، جعلها تنساق نحو ماهو موجود و تنطلق من أحداث ما بعد الثورة و معطيات نعيشها خاصة في ما يتعلق بالمرأة التونسية.

فعرفت النقيضين معا ،ذروة اللذة و ذروة الألم ،أعظم جمال و اشد قبحا ،أعمالها عبارة عن وجوه تونسية مجتمعية تنتفض في ثورة فنية نرى فيها وجوهنا الحقيقية نرى صورا و صفحات من حياتنا  حتى تلك العارضات البلاستيكية المنتشية أمام المحلات لم تهرب من عدسة “السيالة” وقفت منتصبة فارعة، دخلت طائلة العمل الفني المعاصر كمفردة تشكيلية متكررة.

إلى ماذا تسعى الفنانة التونسية في فنها؟

التعامل مع الهوية التونسية بما تحملها من دلالات رمزية لغوية و ثقافية يكشف عن دلالاتها الوظيفية على ضوء الفكر الانثروبولوجي و مدى الصلة بين النشاط الفكري و الفعل التعبيري و هو الأمر الذي تسعى أعمال “السيالة” أن تبنيه كمبحث عملي تفكيري يحقق وجود الإنسان المواطن الفاعل في الحياة.

ليصبح التفكير باليومي و الاشتغال على أهم القضايا التي تخترقه من العمق هو احد التوجهات الفنية المعاصرة لها  و هي توجهات تهدف إلى التخلص من مأزق الضائقة الفنية المحدودة التي وصلت فيه إلى طريق مقيد بسبب ما ينسب إليها من نظريات و مناهج و مقولات تتعالى فيها على ماهو يومي و متغير آني و جزئي نحو ماهو كوني و شمولي و انساق ثابتة في بعض الأعمال حتى غدت منطوية على نفسها تعيد طرح مواضيعها و تعيد كذلك فرز توجهاتها بينما الواقع اليومي بهمومه و قضاياه يتنفس هواءا مختلفا و يطرح تحديات خاصة بالفكر و من أهم هذه الأعمال عمل “منوبة” و هو سلسلة صور فوتوغرافية لفضاءات و أماكن مختلفة من منطقة “منوبة” 2013 .

التصوير الرقمي الذي تسجل به الأحداث

كل التعابير الإنسانية من فنون ، أفكار و أفعال متنوعة تحاول استئصال هذه المعاني من الفضاء “الهوياتي” بواسطة التصوير الرقمي فتسجل الأحداث اليومية بواسطة مناهج و تقنيات مختلفة كالرسم  و التصوير الفوتوغرافي. تحاول “منى الجمل السيالة” بكل ما تحمل من معاني و دلالات تحيل دائما و في كل الحالات إلى الثقل المسلط على المواطن من قبل المحيط الخارجي فتبني مقابلة كبيرة بين اليومي  والفني و هي مقابلة تذكرنا بمقابلات بين مترادفات مثل الرتابة / التجدد، الاجترار /الإبداع ، الانغلاق /الانفتاح.

لم يعد الفن مع “السيالة” مجرد ذاك الانعكاس المظلم للعالم الخسيس الحساس الذي علينا التخلص منه للوصول الى عالم واضح و مثالي بل لعله و بطريقة ساحرة أصبح عبر تركيباتها و توظيفاتها الفنية عكس المنظور و الموجود، الذي ولد مفهوم النموذج الذي تحول الى مصدر متميز بالمعرفة يهرب من التعاسة المكانية البسيطة إلى فضاء يملؤه الإبداع و الجمالية كتخليد مصمم الأزياء العالمي عز الدين علية و الفنان التشكيلي جلال بن عبد الله بسيدي بوسعيد 2020.

هل لكل عمل حدث ومرجعية عند السيالة؟

ما يجب التفكير فيه مع “السيالة”، أن لكل عمل حدث و مرجعية و مع كل نفس تنهيدة تونسية و صورة لا تمحى في مواجهة ما يفكر فيه المشاهد بالفعل على الرغم من وجود صور صامتة و معبرة بحتة، إلا أن التوظيف المكاني قد شكلت مفهوما جديدا حتى و إن كان افتراضيا نفسا جديدا من التفكير لا يكون بأي حال من الأحوال أدنى من الخطاب المفاهيمي التشكيلي كعمل “لا للهدم” الذي جاء كرد على قرار هدم “نزل اللاك” 2020. و مع ذلك يبدو أن “السيالة” حاولت دائما القيام بذلك لخلق حوار بين الفن و اليومي المحيط و هذا يتطلب و يفترض علاقة خاصة و متيقظة مع الأخر عبر تحديد و  تأطير الهوية.

الجسد/ المنحوتة/ الفسيفساء: تكامل وتفاعل

غريب أمر هذا الجسد تارة نراه مدنسا و تارة أخرى مقدسا له من الحسنات و الشوائب ما يجعله الحاضر و بقوة في الفن منذ خلقه إلى اليوم انه البطل الحساس الذي يتدخل و يحضر في شتى مجالات الإبداع و التفاعل التي تلف بالمبدع أولا و المشاهد ثانيا من كل حدب و صوب ينساب بين اسطر و معاني الفلسفة و الأدب و يتمركز كاملا أو مجزءا في الأعمال التشكيلية و البصرية و هو الشخصية البارزة في حكايا “منى الجمل السيالة”.

يتجمع لديها إما في شكل رموز أو جزيئات منفجرة تارة و تارة أخرى يكون لوحة فسيفسائية، خاصة و أنها وضعت من جسد الأنثى التونسية انعكاسا عبر عن مجموعة من الأبعاد  الدينية، السياسية أو الثقافية في تونس تحديدا مكانيا و بعد الثورة زمانيا . هذا الوضع ببساطته و عفويته يشير إلى عالم مملوء بالمعاني و الرموز المشفرة . ففي بعض الأحيان نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة الإيديولوجية و التي من الصعب الإجابة عنها كعلاقة عارضة بلاستيكية منتصبة في الحفصية بالفسيفساء الفينيقية و بشخصية عليسة.

كيف مثّلت الجسد من الناحية الرموزية؟

إلا أن “منى الجمل السيالة” قد لامستها و أجابت عنها ليس الجسد من الناحية الرموزية بل ككتلة مصنوعة من مادة واحدة متجانسة. هو مجموعة من التصنيفات و المعايير المتزاوجة و لها من المعاني و الدلالات ما يجعله الحاضر في مجمل أعمالها لا بل انه الحد الفاصل بين المادي و الروحي و بين الملموس و اللاملموس هو لغة قائمة بحد ذاتها . فالجسد ككتلة و تفاصيل ليس رموزا أو مادة جامدة لا تعرب، بل معانيها تترنح بين الظاهر و الباطن توازي الخط  و اللون و الحركة و توازي في نفس الوقت الأحداث المشتقة من المحيط و قد تفوقها تعقيدا.

هذه المعاني التي تعرضها ترتبط بموضع حدوثها و تتنوع بتنوع المحيط الذي توجد فيه . من خلال التعلق الجسدي بالمحيط المرئي، الحسي، الشاعري تتفق “السيالة” مع الفيلسوف الفرنسي “مرلوبونتي” و مع هذا الطرح الانثروبولوجي الفينومونولوجي، فلكي تنمو الذات الإبداعية و تغدو منفتحة على الآخر من خلال علاقة تداولية واضحة المعالم مكشوفة الحيل يجب الرجوع على هذه العلاقة لنفهمها مثل ما أشار إليها “جورج زيناتي” في مصدر “بول ريكور” الذات عينها على الآخر على أساس أنها علاقة المتخاطبين مع لغاتهم حين يتواصلون عن طريق استعمالها[2]

تجسيد الشخوص عند “السيالة”

إن تجسيد الشخوص عند “منى الجمل السيالة” في الجسد الحي الملتقطة عبر عدسة آلتها الفوتوغرافية لا يسمح له بالتمييز بين الفاعل و المنفعل فحسب ،بين الإنتاج و الصيرورة أو بين الفعل و الكشف بل ذلك يلزم المشاهد بتمييز الأفعال الملتقطة و بين تلك التي يعزوها الفنان لذاته مرسومة أو منحوتة أو مشكلة و تلك التي يعزوها إلى الآخرين، يبقى أن الوجود الجسدي في الفعل التعبيري ل”منى الجمل السيالة” إنما مطية تتيح للمشاهد أن يتماهى مع جسده . يؤثر التصور الإيديولوجي للجسد إلى حد بعيد في طرق التعامل التصوري معه فإذا كان الجسد عورة و مصدر وقوف و تهلل فإنها تفتك منه هذه الصيغة المجحفة فيصبح أيقونة.

التوثيق نقطة فاصلة في أعمال “السيالة”

ان التفكير التصويري ل”منى الجمل السيالة” ليس وصفا اعتباطيا مبتذلا للواقع و تمثلاته لكنه فهم له تصوراته و مفاهيمه عن أصول الأفعال و الحركات و خاصة الأحداث، أي أن المشاهد يستطيع أن يقرر كيف و متى يستخدم التفكير الفني كجزء من أداة المفاهيم و التصورات خلال مشاهدته للصور و بذلك فان المتفرج سوف يرى العمل عبر هذا المفهوم و تحت طياته.

التصوير الفوتوغرافي والتوثيق

ان التفكير المشهدي هو فعل الشكل التوثيقي من اجل التشكيل الدرامي و هو في نفس الوقت مماثل لعناصر الصورة الفوتوغرافية من اجل التشكيل العرضي . و ممن المهم ان تضع “السيالة”  تشبيها بين الفكر التصويري الفوتوغرافي و التوثيق بل هما امتداد لكليهما لان الفوتوغرافيا ببساطة مماثلة و متماهية لشخوص الصورة شكلا و لونا و موضوعا:فكما لاحظنا فان نساء الحفصية و نساء المعلقة الفسيفسائية يتكاملان ضمن تشابه وظيفي. فالجهاز التعبيري، كسطح استنساخ قادر على تسجيل العالم الفوضوي للواقع المادي في وقت تظهر فيه الإيديولوجيات فقط كمعتقدات ثقافية اجتماعية حتى أن تبين لنا ما لا نستطيع رؤيته لأنفسنا في الصورة الفوتوغرافية: الرعب ، الرفض ، الحرية و القيد.

وبهذا المعنى ، يجب أن نأخذ في الاعتبار الميل نحو المستند وأرشيفه . يتشكل الواقع المادي في المستند لأنه مجزأ ، غير متواصل ، وبالتالي ، فإن الأرشيف الذي سيدمجه سيكون أيضًا كيانًا مفتوحًا ولا يزال قيد الإنشاء. كما قلنا ، بهذا المعنى ، يقترب المؤرخ والمصور الفوتوغرافي: إنهما يعملان في وسط كومة الأنقاض التي هي “العالم أدناه”. كلاهما “يلتقطان الفضلات”[3]

النقاط المشتركة بين الفنون البصرية والواقع

من النقاط الرئيسية المشتركة بين الفنون البصرية و الواقع. نتاج هذا الفعل هو قصة يجب علينا فهمها وتفسيرها وتحليلها. العمل ، سواء كان فيلما أو أدبا أو مسرحية ..، يتم تناوله بشكل أساسي في ضوء هذا المستوى الأول من التحليل ، والذي نسميه “القضايا السردية” ما الذي يريد الكاتب / المخرج/ الفنان نقله؟ ما هي الرؤية الاجتماعية ، السياسية ، ثقافي ، فلسفي ، أخلاقي أن العمل ينادي به؟ ما هي رسالة المؤلف ، “جوهر الموضوع” ؟

المراجع

  • [1][1] – سالم يفوتى:المناهج الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر دار الطليعة بيروت الطبعة الاولى يوليو 1999 ص 45
  • [2] – بول ريكور الذات عينها كاخر ترجمة د جورج زيناتي المنظمة العربية للترجمةبيروت طبعة الاولى نوفمبر 2005 ص45
  • [3] Walter Benjamin, « Un marginal sort de l’ombre », in Œuvres, vol. II, trad. Maurice de Gandillac, Rainer Rochlitz et Pierre Rusch, Paris, Gallimard, 2002, p. 179-188, cité par Jacques Revel, « Siegfried Kracauer et le monde d’en bas », in L’histoire. Des avant-dernières choses, Siegfried Kracauer, Paris, Stock, 2006, ص. 41. ترجمة ذاتية

بقلم: جيهان القارة

 

أضف تعليقك هنا