لإليوت و”البعث والرماد” لأدونيس

اللغـة الشعريـة في قصيدة “الأرض اليباب” لإليوت و”البعث والرماد” لأدونيس

“الحجــر وحده لا يتأثر”، عبارة أكد من خلالها أدونــيس أن التأثر بالآخر أمر وارد وبديهـي لا يمكـن نكرانـه، بل إنه سمـة تميز الشاعر الحقيقي. يقول: “فلا يمكن إلا أن يكون هناك تأثـر في كل شاعر حقيقــي” وإن دراسـة هذا التأثر والتأثيـر من أهداف الدراسات المقارنـة، غير أنـها أصبحـت متجاوزة ولم تعـد تحتل الصدارة، لذلـك لن نركز عليهـا في دراستنا هذه، وسنكتفي بإظهـار التشابهـات والتماثلات الحاضرة في كل من قصيدة “الأرض والخراب” لإليوت و”البعث والرمـاد” لأدونيس، والمتعلقـة أولا باللغـة الشعرية التي كتبت بها القصيدتان. اللغة الشعرية في قصيدة “الأرض اليباب” لإليوت و”البعث والرماد” لأدونيس. (مقارنـة).

لقد لازم هاجـس تجديـد اللغـة وأدوات التعبيـر معظم شعـراء العصـر الحديـث، والمسألة لم تكـن مجرد تأملات وخرق قوانـين شعـرية قديمـة، وإنمـا أصبح تحقيق تجربـة شعـرية هو هدف وغايـة كل شاعـر بإخضاعـه للغـة جديـدة غامضـة تعبر عن توجهه الفكـري. وإن المقصود باللغة الغامضـة لا يعنـي الإتيان بكلمـات مبهـمة يعجـز القارئ عن فهمها، بل تحميلـها قدرا من المعـاني العميقـة، التـي تتطلـب تأويلا خاصا للتوصـل إلى المراد منهـا. إن حضـور هذه اللغـة الغامضـة هـو الذي يفسح المجـال أمـام الشاعر ليفصـح عن تجربـته الجديـدة وعالمـه المـدمر. وهذا ما سنحاول تبينه من خلال اتخاذ قصيدتي “الأرض اليباب” و “البعث والرماد” نموذجا نحتذي به في دراستنـا.

الأَرْضُ اليَبَاب: The waste land

نِيسـَانْ أَقْسَـى الشهُـور، يَخْرُج
الِليلِيكْ مِنَ الْأَرْضِ الْمَوات، يَمْزج
الذكْرَى بِالرغْبَة، يُحَرك
خَامِلُ الْجُذُورِ بِغَيْثِ الربِيعْ
الشتَاءُ دِفْأَنَا، يُغَطي
الأَرْضُ بِثَلْجٍ نَساء، يُغَذي
حَيَاةٌ َضئِيلَـة بِدَرَنـَاتٍ يَابِسَـةٍ.
الصيْفُ فَاجَأَنَا، يَنْزِلُ عَلَـى بُحَيْرَةٍ
بِزَخةِ مَطَر، تَوَقفْنَـا بِذَاتِ الْعَمَد

مدلول اللغة الشعرية في قصيدة “الأرض اليباب”

يعبـر الشاعر في هذا القسـم عن المأسـاة التي يخلفها تعاقب الفصـول والشهور. ف “نيسان” بالنسبة له هو رمـز للقساوة، April is the cruellest month. Breeding، هـذه الرؤيـة تخالف ما هو شائع في نظر الكثيرين، فنيسان وهو شهر الربيع، كان في تصور معظم الناس والشعراء إشارة للحياة والبعـث. في حين أنـه في قصيدة “الأرض اليباب The waste land” أصبـح رمـزا للقيامـة والمـوت والقساوة. هذا الموت سرعـان ما يتحول إلـى بعث وحياة بعد خروج زهرة “الليليك” من الأرض الميتة، والتي بخروجها تفتحت جروح الذكريات والرغبات بعد رقاد. هـذه الجروح تختفـي تحت لحاف الشتاء الدافـئ ويفاجئنا بها الصيف مجددا. لقد اكتست الفصول دلالـة واضحة في هذه القصيدة، ذلك أنهـا ترمـز بشدة إلى المـوت والبعث الذي نعيشه طوال السنـة. فالذكريات التي ندفنها ونعتبرها ميتـة يعيد الربيع إحياءها، لنظل في هلع وخوف دائم لا يمكن التخلص منـه.

الوظيفة التي أدتها اللغة الشعرية في قصيدة “الأرض اليباب”

إن وظيفـة هذه الأبيات إذن لم تكن وظيفـة فكرية بقدر ما كانت عاطفيـة. هذه الوظيفـة تعزى إلـى تلك اللغة التي وظفها إليوت، والتـي جعلت معظم الأفكـار في نظرنـا غير مألوفة ومعقدة صعبـة الإدراك في غياب التأويل. إنهـا لغـة مختلفـةـ قد تحيل على وجود قدر من التمرد على اللغة الكلاسيكية، لكـن الحقيقة أنهـا مجددة لها. يقـول إليـوت: “يظهـر نوع جديد من الكتابة يقابل في البدايـة بالازدراء. نسمـع أن التراث خولف علنـا وأن الفوضـى جاءت، ويظهـر بعد فترة أن الطريقـة الجديـدة في الكتابة ليست مدمرة بل مجددة…”

قصيدة “البعث والرماد” لأدونيس

وبشكـل مماثل عند أدونيس، يحضر هذا النمط من التعبيـر. إذ يقـول في قصيدة “البعث والرماد”:
الحُلْــمُ
أَحْلُمُ أَن فِي يَدِي جَمْرَة
آتِيَـة عَلَى جَنَاحِ طَائِر
مِنْ أُفُقِ مُغَامِـر
أَشُم فِيهَـا لَهَبَـا- قَرْطَاجَة الْعُصُـور
أَلْمَحُ فِيهـَا امْرَأَةً
يُقَالُ صَارَ شَعْرُهـَا سَفِينَـةً،
أَلْمَحُ فِيهَا امْرَأَة –ذَبِيحَة الْمَصِير.
أَحْلُمُ أَن رِئَتِي جمرَة
يَخْطِفُنِـي بخُورها، يَطِيرُ بِي لبعلبك
بَعْلَبَك مذبَح،
يُقَال فِيهَا طَائِر موله يموته
وَقِيلَ بِاسْمِ غَدِهِ الْجَدِيد، بِاسْمِ بَعْثِه
يَحْتَرِقْ

مدلول اللغة الشعرية في قصيدة “البعث والرماد”

لا تختلف هذه الأبيات عن سابقتها من حيث تعبيرهـا عن النفس المضطربة القلقة للشاعر، والتي تتوق في أغلب الأحيان إلى بعثها من جديد. وكذا من حيث اللغـة التـي تأبى إلا أن تخرج عن المألوف، عن طريق شحنها بحمولات رمزيـة غريبة (جعل المرأة في صورة جمرة، ومن شعر المرأة ينحت سفينـة) عميقـة الأبعاد وصعبـة الإدراك.

الغرابة والتعقيد وتوظيف الأساطير في اللغة الشعرية لقصائد إليوت وأدونيس

تيمـة الغرابـة والغموض هذه سيطرت بقوة على اللغـة التي كتبت بها قصائد إليـوت وأدونيس. وما يزيـد من غرابتهـا هو توظيف الأساطـير. ولكـي نتعرف أكثر معالم هذه اللغـة سنواصـل تحليل بعض أبيات القصيدتين قيد الدراسـة.

يقـول ت. إليوت:
بِيَدَيْنِ تَجُوسَانِ لَا تُقَابِلَانِ صُدُودَا،
وَلِأَن غُرُورَهُ لَا يَنْتَظِر جَوَابَا،
فَهُوَ يَقْلب اللامُبَالَاةَ تِرْحَابَا.
وَأَنَا (نايْرِيسْيَاسْ) سَبَقَ أنْ عَانَيْتُ هذا كلـه
يَجْرِي عَلَى الْأَرِيكَـةِ نَفْسهَا أَوِ السرِير،
أَنَا الذِي جَلَسْتُ قُرْبَ (طِيبَة فِي ظِل الْجِدَار
وَمَشِيتُ بَيْنَ الْأَدْنَى وَالْأَمْوَاتْ)
بِطَبْعِ قُبْلَةٍ أَخِيرَة مُتَفَضلـة

أسطورة “تايرسياس”

في هذا المقطع من قصيدة “الأرض اليباب” وظف الشاعـر أسطورة “تايرسياس”. وتحكي هذه الأسطورة أن تايريسياس سار في يوم من الأيام فرأى ثعبانا، فضربـه ثم تحول الثعبان إلى امرأة، وعاش لمدة سبـع سنوات حياة النساء، حتى رأى نفس الأفعى وعاود ضربها فرجع ذكرا بثديين أجعدين، وقد أعطاه جوبيتير القدرة على رؤيـة المستقبل وذلك لإشفاقه عليه عندما غضبت عليه جونو وضربته حتى أصيب بالعمـى، بسبب وقوفـه إلى جانب الرجل عندما سألوه من يجد لذة الحب أكثر الرجل أم المرأة. ولعل السبب الذي جعل إليوت يوظف هذه الأسطورة هو رغبـته في التأكيد علـى قدرة الشاعر علـى استشراف المستقبل، عن طريق تجربته الرؤيوية ولغتـه التي لا تقبل بالسطحيات.

أسطورة “كريولانس”

لم يقف الشاعر عند هذا الحد، بل واصل استلهام الأساطير في قصيدتـه. فيقـول:
تَعَاطَفُوا لَقَدْ سَمعْتُ الْمِفْتَاح
يَدُورُ فِي الْبَابِ مَرة وَيَدُورُ مَرة وَاحِدَةً
نُفَكرُ بِالْمِفْتَاحِ، كُل فِي سِجْنِهِ
يُفَكرُ بِالْمِفْتَاحِ، كُل يُؤَكـدُ سِجْنًا
عِنْدَ هُبُوطِ الظلَامِ فَقَطْ، أَصْدَاءَ أثِيرِيةٍ
ننْعَشُ لِبُرْهَـةٍ كْرْيُولَانْسْ مَهْزُومًـا.
دَا
سَيْطِرُوا: اسْتَجَابَ الزوْرَقُ

هنا وظف أسطورة “كريولانس”، وهو قائد أسطوري روماني، وبطل المأساة التي ألفهـا ويليام شكسبيـر. دافـع عن رومـا في الحرب التي اندلعت عليها. فأثبت شجاعتـه وقدرتـه علـى القتـال، لكـن ينهزم في الأخير ويتعرض للقتل من طرف أوفيديوس وأتباعـه.

إن توظيف هذه الأساطيـر أضفـى غموضـا على لغـة القصيدة من جهـة، وعلـى مضمونها من جهـة ثانية. فاللغـة هنا لم تعـد تعتمد أو تمارس الوضـوح من أجل إرضاء القارئ. بل لابد على القارئ أن يكون جاهزا ومستعـدا للتأويل والتفسيـر ليصـل إلـى المعانـي التي رسمهـا الشاعر لقصيدتـه.

أسطورة “الفنيق”

الأمـر نفسـه وارد في مقطع “نشيد الغربة” من قصيدة البعث والرماد لأدونيس. يقول:
فِينِيقْ، إِذْ يَحْضُنْكَ اللهِيبُ أَي أُفقٍ تَرودُه ؟
والزغَبُ الضائِعُ كَيْفَ تَهْتَدِي لِمِثْلـِه؟
وَحِينَمَا يَغْمُرْكَ الرمَادُ، أَي عَالَـمٍ تُحِسـهْ
وَمَا هُوَ الثوْرُ الذِي تُرِيدُه-اللوْنِ الذِي تُحِبهْ؟
وَمَا تُعَانِـي حِينَمَا تهمَد كُل خلْجة؟
…..
وفي نفس المقطـع:
يَكْبُرُ فيِ الْأُفُقِ- يُولَدُ فِي الْأُفُق
وَحِينَمَا يَسْتَيْقِظُ الصبـَاح
يَطْلَعُ لِي مِنْ أَولِ، جناح
مِثْلُكَ يَا فِينِيقْ
يَا أَيهَا الرفِيقْ.
لِلْمَوْتِ، يا فِينِيقْ، فِي شَبَابِنَا
لِلْمَوْتِ فِي حَيَاتِنَا
مَنَابِع، بَيَادِر
لَيْسَ رِيَاح وَحدة،
وَلَا صَدَى القُبُورِ فِي خُطُورِه.

وظـف أدونيس أسطورة “الفنيق” وهو في رمزيـة الأسطورة يمثل الشمـس، حيث تموت في نهايـة كل يـوم، وتعود لتولد في اليوم التـالي. بمعنى آخر، الفنيق يدل على البعث بعد الموت. ولعـل المقصود من استحضار هذه الأسطورة هو إبـراز جدليـة “الموت والحياة” التي عاشهـا الإنسان المعاصر بشكل عام، والشعراء منهم بشكل خاص.

أسباب اختيار أدونيس وإليوت للغة الغامضة في قصائدهما

إن عـدنا إلـى لغة القصيدة سنجد أنها مليئة بعبارات غامضـة وعميقـة تؤدي إلى تحقيق إبهام دلالي. وهذا أمر مسلم به في قصائد أدونيـس. والسبب في ذلك هو اعتباره (أدونيس) الشعر مؤولا (اسم الفاعل) ومؤولا (اسم المفعول)، “فهو يخوض مغامرة القراءة بمعناها الشامل للذات والمكان والتاريخ والتراث لولوج دروب الفهم العميق للكينونة، والفهم لا يعني طلب اليقيـن كما هو شأن فلاسفة العقل، بل هو الذي يضـع كل يقين موضـوع سؤال اللغة لذلك كان التأويل هو أساس العلاقة بين الكائن والكينونة، ونراه قد تخلص من التقريريـة والوضـوح واشتغل في صور القصيدة بطرق جديدة وتجربـة مميزة تحيل خصائصها على التنوع في الأساليب متبنيا أقنعة جديدة في طريقة توطئتهـا…” أقنعـة يسودها طابـع الغرابة التي تنسجم مع غرابـة الروح والذات الشاعرة. وهذا نفسه ما أكده أدونـيس في قولـه:
أُغْنِيتِي، يُقَالُ عَنْ أُغْنِيَتِي،
غَرِيبَـة،
لَيْسَ بِهَا مِنَ الركَامِ وترولا صدى
وَجَبْهَتِـي، كَمَا يُقَالُ، مِثْلُهَا غَرِيبَة
غُرْبَتُـكَ التِي ُتمِيـتُ غُرْبَتـِي
….
لقد أصبح واضحــا أن هذه الغرابـة التي تحضر في اللغـة الشعريـة لأدونـيس نتـاج للغـربة التي يعيشهـا. وإن غربـة هذه اللغـة بمثابـة متنفس يخفف به الشاعر حدة يأسـه وغربته. –غربتك التي تميت غربتي- وما يجدر الإشـارة إلـيه، أن استخدام لغة غامضـة سواء عند أدونيس أو إليوت لم يكن هو الغايـة الأساسيـة في الإبداع. وإنما مجرد وسيلـة يعبر بهــا الشاعر عن رؤيتـه ومواقفـه الأيديولوجيـة والذاتيـة، كمـا أن الغرض من هذه اللغة ليس إلغـاء اللغة القديمـة الكلاسيكيـة، بل إضافة وغنى لرصيدها الشعري. فالشاعر الحداثـي يرى في الشعر إبداعا وتجديدا وخلقـا وليس تدميرا لما هو قديم. ويرى في الغمـوض والايحاء أسـاسا يجسد ما يعيشه –الشاعر- من اغتراب نفسـي ومساءلـة الذات المستمرة.

اللغة الشعرية في قصيدتي أدونيس وإليوت تحتاج إلى فهم وإدراك

إن فهم هذه اللغـة، يقتضي من المتلقي أن يتحمل المسؤوليـة في فـك رمزيتـها وتأويل عباراتها من أجل جعل المبهـم واضحا، والمعقد بسيطـا. وهنـا تكمـن جماليـة الشعـر الحديث. إذ يجعل القصيدة عالمـا قابلا لتأويلات عديـدة. وأخيـرا، إن الهدف كمـا قلنا سابقا من هذه المقارنـة بين لغـة “الأرض والخراب” لإليـوت و “البعث والرماد” لأدونيس، ليس هو إبـراز تأثـر أدونـيس بلـغة إليـوت أو استلهامه خصائصها، بل إن هدفنـا هو التوصل إلـى أهم النقط المشتركـة بين كلتي اللغتين. ولقد تبيـن لنا بعد هـذه الدراسـة أن اللغـة الشعـرية عند الشاعرين معـا هي لغة رفضـت أن ترضخ للوضـوح والبساطة، لتتبنـى في المقابل كل من سمـات التعقيد والغمـوض والغرابـة. إنـها لغـة تمجد قيـم التضاد والتقابل (الحياة/الموت. البعث/ القيامة. الأمل/ اليأس…)، وتعتمد تقنية تجعل الأشياء غير مألوفـة لدى القارئ، فبالتالي يجـد نفسـه أمام قصيـدة معقدة كلما حاول تأويلها كلما زادت فترة إدراكهـا وفهمها، هذا الإدراك عند الشاعر الحداثي هو غاية جماليـة لذاتها يجـب أن تطـول. ونختم بقولنا: “لقـد اختار الشاعر الحداثي هذا النوع من اللغة العاطفية بسبب إدراكه أن الشعـر لا يمكن أن يعرف إلا من خلال هذه اللغة، لا باللغة الفكرية…”

قائمة المصادر والمراجع:

  • حوار مع أدونيس، الطفولة،الشعر، المنفى،ط.ع1. 2000. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت.
  • الأرض اليباب، الشاعر والقصيدة. د عبد الواحد لؤلؤة. المؤسسة العربية للدراسات والنشر. ط3. 1995.
  • النظرية الشعرية عند إليوت وأدونيس. دراسة مقارنة. تأليف عاطف فضول، ترجمة أسامة إسبي، المجلس الأعلى للثقافة، 2000.

فيديو مقال لإليوت و”البعث والرماد” لأدونيس

 

أضف تعليقك هنا