التكرار في القص القرآني

بقلم: د. محمد راضي محمد الباز الشيخ

إن تكرار مشاهد القص القرآنى ولقطاته ظاهرة لافتة للنظر ، فهى تتكرر في مواقف مختلفة وسور عديدة من سور القرآن الكريم ، ومن ثم يتغير مدلولها والمغزى منها حسب السياقات المختلفة التى وردت فيها ، وحسب اختلاف زاوية الرؤية ، وهذه ظاهرة لافتة للنظر في القص القرآنى على وجه العموم ، وهذه الظاهرة علامة فارقة شديدة الوضوح يتمايز بها القص القرآنى عن غيره من القصص الفني البشري.

صور الإعجاز البيانى للقرآن الكريم

وهذه صورة من صور الإعجاز البيانى للقرآن الكريم ، فمشاهد القصة الواحدة تتكرر في سياقات مختلفة ولقطات متباينة من آى القرآن وسوره ، وفي كل مرة تضفى معنى جديدا ، أو يظفر متلقى النص القرآنى بمعان متباينة أشد التباين  يقف المتلقى أمام هذه المعانى مشدوها من فرط روعتها وجمالها الساحر من حيث إحكام النظم ، وتماسك البنية السردية لمشاهد القص المكررة ،وفي الوقت ذاته من أثره الدلالى الموحى بأشد ما يكون الإيحاء ، فالتكرار في مشاهد القص القرآنى ثرى مفعم بالدلالة والأثر الفنى.

فمتلقوا النص القرآني يختلفون في درجة استقبال الأثر الدلالى للنص القرآنى ، فمنهم من تكفيه الإشارة العابرة ومنهم من يحتاج إلى أدق التفاصيل ومنهم من يحتاج إلى موقف معين دون غيره من المواقف الأخرى حتى يستكنه المعنى المراد من  القص القرآنى ، وهذه الظاهرة لم يولها الباحثون عناية تناسب أهميتها في بيان إعجاز النص القرآنى ، ومن ثم الإفادة من هذه الظاهرة في وضع أطر حاكمة فنية وأسلوبية يمكن الإفادة منها في تطوير هذا الفن ( فن القص ) ، ولا سيما أنه أوروبي المولد والنشأة.

التكرار في النص القرآني

التكرار بوصفه ظاهرة واضحة من ظواهر اللغة العربية ، وبنية أسلوبية من بنياتها المتعددة ، عرفتها اللغة العربية في أقدم نصوصها التى وصلت إلينا عبر أسلافنا من خلال الشعر الجاهلى ، وخطب الجاهلية وأسجاعها  ، أو ماورد إلينا من شعرها ونثرها ، ثم استعملها القرآن الكريم ، والحديث الشريف ، وفي كل كلام العرب ، وهى ظاهرة مشتركة بين علمى النحو والبلاغة .

التكرار لغةً

هو مصدر الفعل كرر أو كرّ ، والكر : مصدره كر عليه ، يكرّ كرا ، وتكرارا عطف ، وكرّ عنه رجع ، وكرّ على العدو يكرّ ، ورجل كرار ، ومكرّ، وكذلك الفرس ، وكرر الشئ : أعاده مرة بعد أخرى ، والكرة : المرة ، والجمع الكرّات، والكر الرجوع على الشئ ومنه التكرار ( ابن منظور : لسان العرب ، دار صادر بيروت ، لبنان ،  ط1 1997م ، ج5/ 390) ، وقد أورد الزمخشرى لهذه الكلمة مجموعة من المعانى المرتبطة بها استقاها من كلام العرب ، وهى تدور كلها حول معنى واحد عام مشترك ، هو الإعادة والترديد من ذلك : ” ناقة مكررة ، وهى التى تحلب في اليوم مرتين … وهو صوت كالحشرجة ” ( الزمخشرى : أساس البلاغة ، ط1، 2003م ، بيروت ، لبنان ، ص726)

التكرار اصطلاحاً

” هو دلالة اللفظ على المعنى مرددا ” ( ابن الأثير : المثل السائر ، تح محى الدين عبد الحميد ، المكتبة العصرية ، 1999م ، بيروت ، لبنان ، ج2/ 146) ، وعرفه القاضى الجرجانى : ” عبارة عن الإتيان بشئ مرة بعد أخرى ” ( القاضى الجرجانى : التعريفات ، تح نصر الدين تونسى ، شركة القدس للتصوير ، القاهرة ، ط1 ،2007 ، ص113) ، وقال عنه السيوطى : ” هو أبلغ من التوكيد وهو من محاسن الفصاحة ” ( جلال الدين السيوطى : الإتقان في علوم القرآن ، تح ، محمد أبو الفضل إبراهيم ، المكتبة العصرية ، ط1988، ج3/ 199 ) ، “وفائدته العظمى التقرير ، وقد قيل : إن الكلام إذا تكرر تقرر ” ( الزركشى : البرهان في علوم القرآن ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ط1 1988م ج3/ 9) ، وقال الجاحظ ” ليس التكرار عيّا ، مادام لحكمة كتقرير المعنى ، أو خطاب الغبي ، أو الساهى ، كما أن ترداد الألفاظ ليس بعىّ ما لم يجاوز الحاجة إلى العبث ” ( الجاحظ : البيان والتبيين ، دار الكتب العلمية ، بيروت ، لبنان ، ج1/ 79 ) .

الحكمة من نزول القرآن بلغة العرب

نزل القرآن الكريم بلغة العرب ، ومن ثم نزل على سننها أى قواعدها وأطرها الحاكمة ، ففيه ما فيها ، فكان قمة عالية في الفصاحة لأناس ميراثهم الوحيد البيان ، فقد سجدوا لبيانهم سجدة خاشعة لم يسجدوها لأصنانهم ، وفور نزوله لفت أنظار العرب الجاهليين إلى فرط جماله وسحره ، فكانت آية أو بضع آيات قلائل سببا لإيمان بعض العرب ليقينهم أن هذا ليس من كلام البشر ، لحسهم المرهف وذائقتهم اللغوية والبيانية المتفردة.

فترديد الكلام حول معنى واحد في آيات مختلفة تتشابه لفظا ومعنى وفصاحة وبلاغة سر من أسرار القرآن ، قال تعالى : ” ولقد يسرنا القرآن للذكر ” أى سهلناه للحفظ وهيأناه للتذكير ” فهل من مدكر ” ، أى فهل من متعظ به وحافظ له والاستفهام بمعنى الأمر أى احفظوه واتعظوا به وليس يحفظ من كتب الله عن ظهر قلب غيره ” ( تفسير الإمامين الجلالين . جلال الدين السيوطى ، وجلال الدين الحلى ، تح محمد الصادق القمحاوى ، مكتبة رحاب ، الجزائر ، ط 1963 ، ص 448 ).

فوائد التكرار في القرآن الكريم

ويعلق الزمخشرى في كشافه على هذه الآية عن فائدة التكرار فيها فيقول : ” فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارا واتعاظا ، وأن يستأنفوا تنبها واستيقاظا ، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه ، وأن يقرع لهم العصا مرات ويقعقع لهم الشن تارات لئلا يغلبهم السهو ولا تستولي عليهم الغفلة ” ( الزمخشرى : الكشاف ، ج6/ 59).

وفي سورة أخرى من سور القرآن نجد التكرار واضحا جليا ففى سورة ” الرحمن ” تكررت جملة (فبأى آلاء ربكما تكذبان ) إحدى وثلاثون مرة ( 31) ، والتكرار هنا في سورة ” الرحمن ” له فوائد بلاغية ويسهم إسهاما مباشرا في بلورة المعنى المراد فهو بمثابة توبيخ للمنكرين الجاحدين لنعم الله التى لا تحصى على عباده ” كما يقول الرجل لغيره : ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال ؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا فيحسن فيه التكرار لاختلاف ما يقرر به ” ( د أحمد الشرباصى : يسألونك في الدين والحياة ، دار الجيل ، بيروت ، ط4 ، 1980 ، ج1/ 338).

هل من فوائد التكرار توكيد المعنى وترسيخه في الذهن؟

والتكرار يؤكد المعنى المراد ويرسخه في ذهن المتلقى ألا وهو آلاء الله ونعمه على الإنسان التى لا تعد ولا تحصى فتأتى الآية بمثابة استفهام استنكارى توبيخى لهؤلاء الذين ينكرون نعم الله سبحانه وكأنها تقول لهم أين عقولكم إذ كيف تنكرون هذه النعم الواضحة وضوح الشمس ، هذا بالإضافة إلى أن تكرار هذه الآية بنفس الوزن يعطى جرسا موسيقيا ، ووقعا جميلا على نفس المتلقى  توقظ حسه ومواطن الإيمان في قلبه ، وتلقى لخياله العنان ليتفكر في آلاء الله ونعمه ، هذا كله دون إحساس بالملل لأن ” العقل لا يمكن أن يتقبل أصواتا متتابعة بانتظام دون أن يضفى عليها نوعا من التجمع في وحدات إذا لم تكن الأصوات تنتظم في مجموعات واضحة تلقائيا منذ البدء ” ( كمال أبو ديب : في البنية الإيقاعية للشعر العربي ، دار العلم للملايين ، بيروت ، ط2 ، 1981م ، ص 231).

الانتظام المعجز في القرآن الكريم

وهذا الانتظام المعجز الساحر الخلاب حواه النص القرآني بأكمله ، ولا نجد له مثيلا في النصوص الإبداعية البشرية ، ” والتكرار في النص القرآني له دلالات فنية ونفسية يدل على الاهتمام بموضوع ما يشغل البال سلبا كان أم إيجابا ، خيرا أم شرا ، جميلا أم قبيحا ، ويستحوذ هذا الاهتمام على حواس الإنسان وملكاته ، والتكرار يصور مدى هيمنة المكرر وقيمته وقدرته، وإن كل عبارة فيها لفظ مكرر – ضمن مقطع كتابي أو في آية قرآنية – يكون حدا فاصلا لموقف نفسي معين ، وتحمل – أى هذه العبارة المكررة – دفعة شعورية معينة ، متناغمة في وقع موسيقى مقسم ومتساو مع لاحقتها وسابقتها ” ( عبد الحميد جيده : الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر ، مؤسسة نوفل ، بيروت ، ط1 ، 1980 م ، ص 67 ، ص 68 ).

والتكرار وسيلة مهمة من أقوى وسائل الإقناع والتأثير ، ولكن لا بد فيه من التنويع لأن إعادة ذكر الشئ نفسه دون تنويع قد يضايق السامع أو المتلقى ، ولذلك فإن التكرار مع التنويع أى تكرار المعنى نفسه بعبارات مختلفة وبصيغ شتى وسياقات متنوعة ، يكون أكثر فاعلية في الإيحاء المستمر لأنه يجنب السامع أو القارئ الملل والسأم ويذكره باستمرار الهدف ، ويعمق التوعية بالمعنى المقصود منه.

والتكرار في النص القرآنى تكرار يستدعيه سياق الآيات وليس مقحما عليه وله علاقة بالمعنى المراد يقويه ويؤكده في نفس المتلقى ، ويلح عليه إلحاحا يجعل منه ناقوس يدق على الآذان حتى تستفيق من الغفلة والنسيان ،  والتكرار يحول الشئ المكرر إلى عقيدة راسخة في نفوس متلقى التكرار وهذا ما يؤكده علما النفس والاجتماع ، فهو في نهاية الأمر ظاهرة وأسلوب متميز من أساليب اللغة العربية وظف في نصوصها وعلى قمتها القرآن الكريم وفي القلب منه القصص القرآنى .

بقلم: د. محمد راضي محمد الباز الشيخ

 

أضف تعليقك هنا