مُعضلة شوبنهاور

مُعضلة شوبنهاور ما بين الأنا وآلام الآخر 

لقد صاغ شوبنهاور معضلته والتي أسماها ” مُعضلة القنفذ ” من خلال تصور مجموعة من القنافذ تحاول الحصول على التدفئة من برد الشتاء القارس ، لذلك تلجأ إلى التقارب من بعضها البعض من أجل الحصول على الدفء المرجوّ ، إلا أنها تشعر بآلام ناتجة عن وخز أشواكهم ، فمن ثم تلجأ القنافذ إلى الإبتعاد ، فيعود شعورهم بالبرودة مرة أخرى ، فيلجأون حينها إلى التقارب من جديد ، ولكن ينتابهم نفس الشعور بالوخز فيبتعدون تجنباً للآلام المنعكسة من التلاحم وغياب المسافات.

حينئذ قرر شوبنهاور أن المحصلة المنطقية لمُعضلته الناتجة عن ذلك هي : ” مُآثرة السلامة الآمنة تكون …. في الإبتعاد  ” .من خلال صياغة شوبنهاور لمُعضلته تلك نلمح الكثير من جوانب فلسفته ، فلقد آثر شوبنهاور الإبتعاد عن التقارب بين القنافذ والتي جعلها تعبيراً ورمزاً عن الإنسان ، وذلك لأن الرموز بها من القوة التأويلية والتأملية الكثير مما يعتمد على مدى سعة أفق ووعي المُتلَقّي.

لماذا لقّب شوبنهاور بفيلسوف التشاؤم؟ِ

لقد كانت فلسفة شوبنهاور فلسفة واقعية شديدة التصادمية مع واقع الحياة ، ولذلك فلقد لُقبَ بفيلسوف التشاؤم .ومن أهم مآثر شوبنهاور عن العلاقات بالآخرين مقولته الشهيرة : ” كل مآسينا غالباً ناتجة عن علاقتنا بالآخرين”، ولهذا فلقد عاش حياة من الوحدة والعزلة جعلهما نهجاً ومنهاجاً لفلسفته .

ونجد هنا أن شوبنهاور في صياغته لمُعضلته يكون قد جاء متوافقاً مع ملامح فلسفته الواقعية ، فاستحق أن يطلق عليه سبباً لذلك الإبن البار لأفكاره. وهكذا فقد آثر شوبنهاور في معُضلته برودة الأنا والشعور بالإنعزال والإنطواء والوحدة عن الشعور بالآلام المنبعثة من تقاربنا بالآخرين.

مُعضلة شوبنهاور من منظور إسلامي 

عند مناقشة تلك الفكرة من منظور إسلامي،  نجد أنها تختلف وتتغاير تمام المغايرة مع رأي واضعها . حيث أن الدين الإسلامي قام على مقومات وركائز أساسها وعمادها المودة والرحمة والتكافل والسلام المؤاخاة ، كل تلك العلاقات لن تتأتى إلا إذا كانت قائمة بين أناس بينهم الكثير من العلاقات التقاربية في الأفكار والعقائد والمبادئ والقيم الخلقية المشتركة التي من شأنها تزيل كل جدار من الإختلاف وتصل بين البعض بجسور التفاهم والتوافق ، ولهذا قال الله في محكم كتابه :

《 إنما المؤمنون أخوة 》سورة الحجرات الآية ١٠وإذا كان القرآن الكريم قد شدّد على إلتزامنا بالحفاظ على أواصر الأخوة فيما بيننا ، فقد جاء رسولنا الكريم تنفيذاً لمنهاج ربه وجعل من تلك الأخوة مبدأً وأساساً تقوم عليه حياة المسلمين بعد إنتقالهم من مكة إلى المدينة .

كيف كانت المؤاخاة في الإسلام؟

لقد حرص الرسول عند قدوم المدينة ومعه العديد من المهاجرين ، الذين هاجروا بأرواحهم ودمائهم وأولادهم ونسائهم ، بل وقبل كل هذا عقيدتهم السمحة من دَنس الكفار ، فقد حرص الرسول على إقامة مبدأ المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار،  لتكون تلك المؤاخاة قائمة على النُصرة والدفاع وتأمين المأكل والمشرب والملبس والعمل والحماية وتوفير الأمان ، بل وتعدى الأمر إلى المؤاخاة في التوريث والنسب ، فقد قال الله تعالى : 《 ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شئ شهيد 》. سورة النساء الآية ٣٣

إلا أن تلك الآية نُسخت فيما بعد إلى : 《والذين آمنوا من بعد ما هاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شئ عليم 》. سورة الأنفال الآية ٧٥وقد كان ذلك النسخ بعد إستقرار وإستتاب الأمر لأحوال المهاجرين في المدينة .

نماذج المؤاخاة السمحة في الإسلام

ومن نماذج المؤاخاة السمحة التي كانت خير مثال وعنواناً للرحمة بين المسلمين من المهاجرين والأنصار ، هي المؤاخاة التي كانت بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع . لقد كان سعد بن الربيع يملك الكثير من المال والأبل والأراضي ، وكذلك كان لديه من الزوجات إثنتان ، فما كان من سعد بن الربيع إلا تقاسم كل ما يملكه بينه وبين عبد الرحمن بن عوف ، بل تجاوز الأمر أبعد من ذلك حيث طلب منه سعد أن ينظر أياً من المرأتين يرغب فيها عبد الرحمن بن عوف فيُطَلّقُها له ويعقد عليها بعد إتمام عدّتها ، فما كان من عبد الرحمن بن عوف بلغة صاحب التجارة المخضرم ورجل السوق الواعي والمدرك لملامح الحياة وطبيعة الظروف الأقتصادية والتجارية الخاصة بالمدينة إلا أن قال :” دُلني على السوق وكفى ” .

وترصد لنا كتب الفقه نماذج أخرى عديدة ومتعددة من المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار ، والتي كانت سبباً في إرساء قواعد وتعاليم الدين القويم والتي أنارت العالم بأثره فيما بعد بمبادئ المحبة والرحمة والخير والمودة وغيرها الكثير من أواصر العلاقات التقاربية بين البشر .

مُعضلة شوبنهاور من منظور معاصر 

إذا ما تناولنا تلك المُعضلة من منظور معاصر ، فلنا أن نتساءل هل أصبحت أواصر الأخوة والمودة والرحمة موجودة في ظل إطار مجتمعي بل وعالمي محكوم بالعولمة و نمط القرية الواحدة  الصغيرة وتفشّي سرطان التكنولوجيا( نتيجة سوء إستخدامنا لها ) بين أفراد المجتمع ، بل وبين افراد العائلة الواحدة ، الأمر الذي من شأنه أدى إلى التباعد ، ليس التباعد المكاني فقط وحسب ، بل والتباعد الفكري والأخلاقي أيضاً.

وأصبحت العلاقات والمشاعر محكوماً عليها إما بالنجاح أو بالفتور والبهتان ، وذلك إعتماداً فقط على مدى تمسكّنا بنجاح تلك العلاقات فيما بيننا وبين محبّينا . ولكن يبقى السؤال الأهم : أيهما أفضل الحضور الباهت أم البعد الناتج عن الوعي بزيف تلك العلاقات ؟؟؟؟؟؟؟!

فيديو مقال مُعضلة شوبنهاور

أضف تعليقك هنا