الدراما التونسية “حرقة…الضفة الأخرى”: بين الاستحقاقات الفنية والفكر الإيديولوجي.

لا يولد المسلسل التلفزيوني من مجرد رؤية مبتكرة أو قصة ولدت في لحظة صفاء ذهني بل هي اختلاط مجموعة من العوامل الاجتماعية و الإيديولوجية التي تتطلب نظرا و تفحصا لما بين سطور القصة ، السيناريو و الحوار، إنها ببساطة أجموع الشكل السردي و المكونات الضمنية للشخوص  و الخصائص المكانية و الزمنية، ولكن بالإضافة إلى ذلك هي اندماج رسمي جديد للأنماط الفنية المختلفة من مسرح، تشكيل، موسيقى و سينما واقعية.

شروط البنية السردية

إلا انه و في شروط البنية السردية ، تستعير المسلسلات التلفزيونية معظم تقنياتها من السينما و المسرح على حد السواء حتى أنها تتبنى مفهوم الصورة من تموضعات و “ميسانزان” لرسم لوحات فيها من التشكيل ما لها من السينما و المسرح، خاصة إذا ما تحدثنا عن مخرج له من المسرح  و السينما ما يجعله يعادل كفتا الميزان بينهما فيستدعي مبدعي المسرح لتأثيث عمله.

الأسلوب البصري

فينطلق الحديث عن الأسلوب البصري ، فأغلب المخرجين و مديري التصوير يستخدمون جوهر و ما وراء الصور السردية، و تضاف إليها في المقابل التقنيات الرئيسية لرواية القصص المرئية بأسلوب فيه من التشويق و الواقعية ما يجعله عملا ينحاز نحو النمط التوثيقي. هذا الشكل الجديد من الاتحاد بين التلفزيون، السينما و المسرح خلقت لغة درامية جديدة ، قادرة على الارتقاء ليس فقط على الدراما التلفزيونية نفسها ولكن أيضا على المسلسل كلغة تعبيرية معاصرة.

هيكل الحبكة الدرامية في المسلسلات

يقوم هيكل الحبكة الدرامية في أغلب المسلسلات الدرامية على سرد واقعي لأحداث تدور على أرض منطقة قطرية محددة و على تنسيقات قوية و متينة لسرد القصص و الأحداث في حبكة مترابطة تنقل الصور من البعد الكتابي إلى صور بصرية . ففي المسلسلات، تعتبر “الحكاية” عنصرا رئيسيا أما سينمائيا فعلى العكس من ذلك، يصبح “العرض” مطلبا فنيا و تقنيا.

لتصبح الاستمرارية البصرية من خلال التمثيل والسرد و التصوير مسلكا قويا يكاد يكون قادرًا على سرد الحكاية بمفرده و هو ما يعتبر الشكل الدرامي التلفزيوني الجديد. هذه الأفكار تنقلنا للحديث عن الدراما التونسية الأنجح في ماراتون الدراما الرمضانية بتونس سنتي 2021 و 2022 “حرقة… الضفة الأخرى ” للسيناريست “عماد الدين الحكيم”  و مخرجه “الأسعد الوسلاتي”.

أسباب شح الدراما التونسية

تعتبر الدراما التونسية شحيحة على مدى سنوات إنشاء التلفزيون التونسي إلى اليوم لكونها تحتسب على شهر رمضان فقط، لكن في المقابل تبقى الفترة المعاصرة و خاصة بعد الثورة التونسية من الفترات التي عرفت فيها الدراما توجها جديدا و فريدا من نوعه لا يشبه ما ألفناه في فترة التسعينات و الألفية الأولى نظرا لتطور نسق الآليات الكتابية و المواضيع المطروحة فاحتسبت التوجهات الإيديولوجية  و الاجتماعية على قلم السيناريست و عين المخرج و حتى استقبال المتقبل.

  1. “حرقة”: الشكل والفكر وطريقة الطرح

إننا نعيش كل يوم تقريبا على وقع الأخبار الأليمة المتعلقة بغرق قوارب الهجرة الغير الشرعية للعديد من التونسيين عرض السواحل الايطالية .. إننا نستحضر الأخبار و كأننا نلقي الحصى في نهر جاف، لم تعد الأرقام تفرق و لا المتوفيين يحتسبون، أطفال و رضع ، رجال و نساء يختارون الهجرة السرية في “شقف الموت ” للهرب من واقعهم التعيس من الفقر و البطالة، هؤلاء إلى اليوم نتحدث عنهم في جلساتنا، كتاباتنا و أعمالنا الفنية.

إنهم مادة دسمة وجدت ضالتها في أسطر الكتاب و كاميرا المخرجين و لوحات التشكيليين حتى أننا نراها في مشاهد المسرحيين، لكن يبقى قلم “عماد الدين الحكيم” نابضا يسيل حبره مدرارا في أوراق عمل خالد للمخرج “الأسعد الوسلاتي”،  عمل لاقى استحسان العديد من التونسيين في الداخل و الخارج حتى انه يعد من أهم الأعمال التلفزيونية الرمضانية على مدار العشر السنوات الأخيرة بشهادة النقاد و أهل الاختصاص.

 

“حرقة” إنها الحقيقة كما هي بدون “روتوش” أو “فيلتر” انه الجرح الدامي الذي ينطوي في أعماق التونسيين على شيء لا يكتشف إلا في لحظة صدق لحظة مصارحة و مكاشفة لذواتنا و مكنوناتنا الحسية قبل هيئاتنا، هو في الأصل حقيقة يجب مواجهتها مهما كانت العواقب، فالمجتمع التونسي تحديدا يمثل عاملا أساسيا في مستوى إنجاح العمل بجل المقاييس من حيث الدراماتيكية.

نقل العلاقات الاجتماعية الأسرية المشتركة في بيئة محددة، بحيث لا يقتصر الأمر على الحديث فقط عن العلاقات الشخصية والداخلية ولكن أيضا داخل المجموعة (المجتمع) الذي يتحول من تونس إلى ايطاليا و كأنه حلم تحول إلى كابوس وبالتالي إنشاء شبكة أوسع للصراعات الدرامية.

كل شيء يبدو كأنه ينتهي، أو انتهى عند دخول رقعة الأراضي الايطالية انه الإحساس بمرارة الفناء و الذوبان كشمعة اشتعلت لتحيى، لكنها احترقت و أحرقت أحلام ممسكيها، انه الإحساس بضيق ، وهن ، ألم و خاصة الوحدة و التيه، ينظرون إلى هذا العالم الجديد بدهشة و خوف على عكس ما توقعوه    و رسموه في مخيلتهم البسيطة إنها و بدون تردد اقتطاع للحياة: انه عالم أبكم ، ميت.

لماذا يتعدد الابطال في الدراما التونسية؟

يعد التوصيف المتعدد أحد الأساليب التي يستخدمها الناقد لفهم العمل لأنها ببساطة تعمل كعجلة كبيرة من الصراعات والعلاقات التي يجب الاختيار من بينها. فأغلب الأعمال التونسية لا تفرض بطلا واحد ، بل مجموعة من الشخصيات ذات الوزن المماثل تخلق إمكانيات درامية كبيرة لتوسيع المسلسل ليس فقط في الوقت المناسب ولكن أيضا على مستوى بناء العلاقات الاجتماعية وبشكل دراماتيكي كما هو حال عمل “حرقة”، ف”عماد الدين الحكيم” يطوع كل حرف لديه أكثر أو أقل من نفس الأهمية فمن الأسهل الحفاظ على تأثير الأم الثكلى وتجنبه تراكم الأمتعة أو التكرار حول حدث واحد.

في نفس الوقت، يمكن أن يكون لكل شخصية خطوط مؤامرة خاصة بها تم تطويرها ، كل شخصية تكشف المزيد عن نفسها في نفس الوقت الذي يطورون فيه علاقاتهم مع بقية الشخصيات. فيما يتعلق برد فعل الجمهور، تساعد الشخصيات المتعددة و المختلفة في إطعام الاحتياجات المعرفية للمشاهدين،من خلال زيادة وتعقيد العلاقات الاجتماعية، فالمشاهد مضطر إلى استثمار المزيد من العمل للوصول إليها و فهم كل شخصية مما لو كانت مجرد بطل واحد ، وكذلك لفهم الترابط العاطفي مع الآخرين. شبكة العلاقات تعمل بعد ذلك كأساس معرفي لفهم الأحداث الجارية في العمل.

  1. الشخوص من الواقع الإيديولوجي إلى الشاشة الدرامية

لا يمكننا غض البصر عن الشخوص النسائية ل”عماد الدين الحكيم” إنها محاكة بطريقة سلسة مليئة بالعاطف و الانغماس الحسي في تفاصيل حياتهن بعد فقدان عزيز عليهن حيث تجمدت الكلمات على أفواههن فقلوبهن تدق في ارض غريبة طائفيا و لغويا و دينيا فالحياة تجمدت و انتهت تقفز صور مفارقيهن في رؤوسهن كالظلال فتصبح التعبيرات الحسية على وجوههن قاتمة حزينة و مؤلمة تجاعيد الفنانة القديرة ” منى نور الدين ” تشتد من عنقها إلى أقصى رأسها و كأنها تروي في كل أخاديدها ألما  و ماض وجعه لا ينتهي عيونها مليئة بالحزن و صوت رتيب ينادي و يصرخ في أعماقها عن فلذة كبدها الأمين الغائب الحاضر في أرجاء منزلها و في أركان روحها تتحسسه بهدوء و كأنه أمامها حتى أنها تستحضره فتعد له الطعام كل يوم بنفس التوقيت على أمل عودته.

تتراءى لها زوجة ابنها “شادية” و التي تجسدها المبدعة “نادية بوستة” بشعرها الأبيض و ملامحها الهادئة و كأنها مرآة تعكس آلامها في ردهة كابوس مظلم مخيف عيناها الغارقتان في الوجع تهمس باسم زوجها “الحارق” و الذي احترقت معه في كيانها الضعيف تنتظره و في انتظارها أمل أيضا لا ينضب. و غير بعيد عن أنفاسهما جارتهما “نعمة” ( وجيهة الجندوبي) التي هي الأخرى تتنفس بهدوء تطفو على جسدها متاعب الدنيا بعد أن دفعت ابنها “فارس” للحرقة و إنقاذ مستقبله فتذوب آمالها في ذكريات ابنها التي غابت عنها أخباره.

الأطر المكانية المفتوحة

لأغراض تحليلية ، يمكن التمييز في “حرقة” بين المشروع الأساسي الأيديولوجي (الأساس اللاواعي إلى حد كبير لـلقيم التي تسمح للمجتمع أن تكون منطقية بالنظر إلى مخلفات الحرقة على الأفراد و الجيل الجديد) وتجميعه (العناصر الملموسة ، على وجه الخصوص الشخصيات المختلفة ماديا و معنويا   و عرقيا …). فأكثر الأحداث المحورية تتجسد مباشرة (السجن ، زنزانة، المآوي ) ، بالإضافة إلى الأطر المكانية المفتوحة ( النهج ، البحر، “المصب” و الأهم بين شوارع ايطاليا الباردة و أنهج جبل الجلود الدافئة)، إنها مقنعة بشروطها الخاصة و غنية بالعناصر المؤثثة لمجال السرد، تخلق توترا مثير للاهتمام بين المشروع الأيديولوجي والتفاعل الفني التقني مما يسمح باستكشاف المناطق الرمادية القاتمة في علاقة الحرقة بالمصب و بالوطن عبر صور حسية لا يمكن إلا أن تتطلب تدقيقا و تمحيصا. بقدر ما يختلف عمل “حرقة” عن الأعمال الكلاسيكية فأنه بالأساس يتراوح بين التوثيقي و الدرامي .

التوثيق والدرامية

تمت الاستعانة “بالتوثيق” التي يتم تصويرها مباشرة من الواقع بكلمة “درامية”، وهو مصطلح يشير إلى أن الأعمال التوثيقية التي تم إنتاجها للتلفزيون كانت تشبه إلى حد كبير السينما الواقعية أكثر من كونها فيلما دراميا: ليست قصيرة أو طويلة بقدر ما هي شاهد على ما عاشته فئة مجتمعية، فالرجال في “المصب” ليسوا معتنين بأنفسهم ثياب رثة لحية غير محلوقة حتى أنك تشتم رائحة الفضلات منهم ،كما أن النساء اللواتي يسكن الأحياء الشعبية بسيطات الهندام يقطنون غرفا و بيوتا متوسطة الحال حتى أنها خراب .. يعد تحليل “ثيودور أدورنو” إشكاليا و مهما في إعادة فهم التفاصيل على وجه التحديد و علاقة الواقع بالصورة الفنية فمن الواضح أن وصف “أدورنو”منطقي لبناء تصور إيديولوجي لثائية المجتمع مع القيم الفنية و العكس بالعكس.

المتمعن في فلسفة “أدورنو” وحدسه الإيديولوجي سيلحظ غموضا على مستوى وضعه للكليشيهات الشائعة في جميع الأعمال الفنية على أنها حالات عرضية لا يجب الوقوف عندها ، ولا ينجو من بعض الأحكام الذاتية البحتة المتعلقة بمحيط المشاهد للعمل من الناحية العرضية فبالعودة إلى حرقة فان أغلب المشاهد هي في الحقيقة صور فوتوغرافية صادقة لواقع تونس أولا و لكابوس ايطالي ثانيا ، حتى أننا    و كأننا في بعض الأحيان نشعر و كأنه “فيلم بوليسي” خاصة في مشهد مداهمة السلطات الأمنية لمنزل “نعمة” بتهمة أن ابنها “فارس” ينتمي إلى الجبهات الإرهابية  أو عند هروب الأخير من تاجر المخدرات في ايطاليا ، وليس عن “دراما تلفزيونية”.

شخصية “عبد المجيد” الذي يجسدها المبدع “رياض حمدي”

نولي اهتماما ، في تحليل العمل ، لكل من الممارسات المرحلية والحوارات ، مما يسمح لنا بتسليط الضوء على ما تفعله الأبوة مع شخصية “عبد المجيد” الذي يجسدها المبدع “رياض حمدي” الباحث عن ابنه، في هذه التمثيلات ثنائيته المضحكة تارة و الموجعة تارة أخرى مع “لمين” الذي يقدمها الرائع “أحمد الحفيان” و اللذان كونان مع بعضهما “ديو” غاية في الإبداع  حيث يقول “أحمد الحفيان “النص الذي وضعه “عماد الدين الحكيم” و صاغه مشهديا “الأسعد الوسلاتي” هو من ألهمني شخصية “لمينّ”.

فحينما قدّما إلي مقترح الشخصية، وجدت فيها معادلة موضوعية لشخصيات عرفتها موجودة في الواقع، وقد حاولت أن أكون أحد النوت المكمّلة للأوركسترا المصوّرة”.[1]  يجمع خطاب “الحكيم” تحت المصطلح العام “للخطاب الروحي أو الحسي”، المشتق من الفكر التونسي، الحوارات، السطور، ولكن أيضا الممارسات المنبثقة، أساليب السرد، الحياكة التصويرية، باختصار كل طرق إنتاج المعنى و التقاء الصورة مع الصوت و اللغة.

البناء المتمايز لشخوص الآباء والأمهات على مفهوم ضمني “للأبوة”

في هذا العمل، يشهد البناء المتمايز لشخوص الآباء والأمهات على مفهوم ضمني “للأبوة” حيث يتم تمييزها بالفعل. ومع ذلك ، فإن قراءتنا للأبوة باعتبارها القدرة على ممارستها دون تمييز من قبل الأفراد في حالة كونهم أبوين، فانتظار “نعمة” و “زينة” مغاير لقلة حيلة “عبد المجيد” و “لمين” ، و بغض النظر عن جنسهم الصلة و المكنون الروحي لا يتغير : حرقة و وجع و أمل لا يموت . ولأننا نتصور الأبوة والأمومة خارج المفهوم الجنسي ، فإننا قادرون على تحديد الآليات التي تنتج بها حرقة فتعيد إنتاج مفهوم جنساني عميق للأبوة و الأمومة في الآن نفسه وبالتالي بلوغ عتاد القوة و التحمل.

بالإضافة إلى ذلك ، يتغذى نهجنا من مساهمة الأم في تحقيق مستقبل طيب و جميل ، وفي مقدمتهن المرأة التي تقتات من “المصب” في علاقتها مع ابنها التي ترى فيه مستقبلا سينقلها من وسخ الواقع إلى نظافة المستقبل فبذلك يجب علينا “التفكير في ماوراء تلك الصور”.

هل الحرقة طالت تونس فقط؟

لم تكن توجهات “الوسلاتي” مقتصرة على التونسيين فالحرقة طالت الأعراق و الأديان و الأجناس حتى انها التهمت عقول الكثيرين فالتفت بأفارقة من السنغال وساحل العاج في المسلسل،حيث يؤكد الوسلاتي على أن “مشاركتهم مهمة جدا ولا يمكن تجاهلها، لأن تونس أصبحت منطقة عبور لمواطني دول إفريقيا جنوب الصحراء، حيث أصبحت تستقبل مئات المهاجرين غير النظاميين الأفارقة، الذين يأتون إلى تونس للعمل، ويتخذونها مطية للسفر إلى إيطاليا.”

إشكالية “العرق” و “العرق الأسود”

فإشكالية “العرق” و “العرق الأسود” ، هي في الأصل تحديات فلسفية وسياسية وقانونية واجتماعية سخرت من أجل طرح معضلة الحرقة، فتشكل في الآن نفسه تحد فني بالنسبة للسيناريست أولا و المخرج ثانيا. إن كيفية تمثيل شخصية “كايلا” الإيفوارية تنزلق في قلب دوافع وطرائق هذه التمثلات التي تحتضن تعدد المعاني ، رهاناتها وحدودها. من بينها، “العنصرية” انطلاقا من تونس وصولا إلى ايطاليا فتؤكد على سلاسة التعامل مع العرق الأبيض كعلامة على الصفة الاجتماعية.

بالنسبة إلى أطروحة عماد الدين الحكيم ، النظرية الفنية (تفوق معضلة اللون) يبدو أنه يمهد الطريق لاعتبارات عرقية بأن العنصرية قد ساهمت في تأجج الشعور بالإحباط و الاستنقاص لدي الأفارقة و هو ما دفعهم للهروب كما أن   اللجوء إلى شخصية سوداء ، هذه “لعبة الجسد” تسمح في تحديد تعريف الذات والآخر وتحديد الحدود ، مثل العلاقات الإيديولوجية الغريبة خارج نطاق الأراضي التونسية. الشكوك في صحة الهوية العرقية تنمو و تتطور عندما يتعلق الأمر بالنظر في حالة الوهن و الانحراف السلوكي. [2]

إلى جانب اختلاف المستويات الثقافية انساق “الحكيم” نحو الجاذبية الموضوعية بشكل خاص، من أجل الوصول إلى نوع من الواقعية و المصداقية فلم تكن كغيرها من الأعمال القادرة على تقديمه أو ترغب في تقديمها. وفق “الوسلاتي” فإن “فكرة المسلسل ليست جديدة، وإنما تطرقت لها عديد من الأعمال التونسية، منها الوثائقية والدرامية والسينمائية، والاختلاف يكمن في طريقة الطرح الدرامي للقضية.” من الناحية المرئية كانت مبتكرة وواقعية للمشاهد الذي بطبيعتها يعيش على وقع أخبار “الحراقة”.

بماذا تهتم معظم المسلسلات التونسية؟

في حالة معظم المسلسلات التونسية قيد المراجعة، تهتم في الغالب بعمليات السرد والتصوير . فيتم تصوير الحلقات دائما تقريبا في أماكن مغلقة، مع تركيبها مسبقا الكاميرات في أماكن ثابتة كالمنازل    و المقاهي و المطاعم أو أن تخرج الكاميرا و تجتاز الحدود البحرية خلسة نحو الجنة المرتقبة مثلما شاهدنا في عمل “حرقة” و كأنهم ينطلقون نحو مراكب الشمس المشرقة. من خلال كسر هذه القيود المكانية ، من السهل ملاحظة أن الذوق البصري ملف القضية الرئيسية في مجمل الأعمال الدرامية وأنها تخضع بشكل روتيني لبناء السرد الحدثي للعمل. لذا في “حرقة”، السرد هو القوة الدافعة للانتقال إلى جانب تشخيصي واقعي لواقع الحراقة الذين يحاولون بناء حياة جديدة ، فيتم وضع الأسلوب التصويري في نفس المستوى مثل السرد وأحيانًا أعلى منه فنلحظ تنوعا بين مستويات النظر و الخلفية  ليتم التعبير عن المشاعر من خلال وضعية الجلوس و الوقوف أمام عرض البحر في معظم الأحيان خاصة في حالات الترقب و الانتظار، ليتم إدراج العمل من قبل الجمهور الذي يتواطأ في بناء نوع من الصعود نحو الواقعية.

ان البعد الأيديولوجي يتم إدراكه في التناص السردي و التحول المشهدي التي تغري الجسد الاجتماعي. ثانيًا ، يميل إلى فهم وتيرة الرفض العنصري للحراقة في ايطاليا ، بافتراض أن تأثير أيديولوجي و عرقي (وليس سلوكيًا). في حالة حرقة المرجعيات المعيارية تاريخيًا إلى حد ما ، من الصعب الاستقرار على أمثلة من حلقات الجزء الأول التي تبرز عن غيرها الجانب الإنساني و التركيز على أمهات الحراقة عل عكس الجزء الثاني الذي فتح محور “المصب” في تونس، و الذي نجح عماد الدين الحكيم في إنشاء “قانون انساني” في علاقة الأرض بالمستقبل و بالأمل في غد أفضل ، والحفاظ عليها حية في الصور الواقعية التي وضعها “الوسلاتي” دون المساس بكرامة “البرباشة” ، أو الحكم عليهم كذلك.

لا تختلف حياة “البرباشة” في تونس عن حياة التونسيين المشردين في ايطاليا بل حتى أن كلاهما يعيشون في ضنين ، وهن و عذاب نفسي.. هذا اللون من الحياة لطالما كان كابوسا بالنسبة إليهم في تونس إلى أن أصبح حقيقة في أرض “الروم”، لون قاتم حزين و جانب مليء بالألم ،الدمع والدم يلف حيطان الكاتدرائيات و الكنائس حتى أنها لم تعد أرض الفن و الجمال بل أرض قنوط و سجن ، لم تعد جنة الأدب، الرسم، الموسيقى، الغناء، التمثيل، لكن وجدوا أنفسهم في الأنين والموت. لينفتح باب سجن من نوع أخر غير مألوف أمامهم، فاستبد بهم الغضب تهتز أقدامهم الباردة في عصبية: ولكنهم لا يمتلكون شيئًا، حتى حريتهم قد سلبت، إن كل شيء من أحلامهم قد تبخر، حتى لو أوثقت القيود أياديهم سينطقون فقط باسم الوطن، سيجلسون على عتبة الماضي يرمقونه بأعين مليئة بالندم، في سجن من التفكير.

  1. المكان والزمن في الخطاب الدرامي

يعتبر الإطار المكاني والزمني ل”حرقة” من أهم العناصر المحركة للأحداث و هو في الحقيقة مدروس بدقة السارد للوقائع و المعايش لتفاصيل ما قبل و بعد الحرقة، الدقة في الوقت و المكان الذي تدور فيه أحداث القصة، لينصب اهتمام المتفرج الكامل يتركز على البيئة الخانقة التي ساهمت في دفع هؤلاء الشباب للهروب من واقعهم رغم خطورة الموقف. من وجهة نظر “عماد الدين الحكيم” فان المجتمع يواجه “حقبة جديدة” و ثورة إيديولوجية على السائد ، والتي تدعو إلى محو الذات و الزهد في فكرة الهرب ممن الواقع نحو الأفضل بقطع النظر عن المخاطر التي ستواجههم ، الذين يتنكرون للماضي والحاضر ويتدلى من عقولهم البسيطة بوعد الخلود.

هذا التركيز حول الإطار المكاني الثقيل والصلب الذي يسود ايطاليا هو وسيلة لتركيز النقد على الأيديولوجية العرقية حيث بدت معالم الطبيعة مزيجا من الألوان الغريبة متنافرة و متداخلة خضرة العشب صفرة المباني حمرة الأسقف زرقة السماء بياض السحب فلم تعد هناك أحياء الطفولة و رائحة التراب فأصبحت اسمنتا باردا يعصف ببرودته قلبا أراد حياة أفضل بين الحين و الحين الآخر فغابت كتل من أشجار الزيتون و النخيل ليحل مكانها ظلال قاسية من مباني و سجون و ملاجئ مقيتة. إنها صور “عماد الدين الحكيم” الذي يكتبها بقلم رسام و توثيقي مليئة بالأحاجي التي و إن فككنا رموزها و آلياتها فإنها حبلى بالوطنية.

الكاتب عماد الدين الحكيم

دائمًا ما يكون الحديث عن عماد الدين الحكيم رفقة شريكه الوفي الأسعد الوسلاتي بمثابة توضيح حول السياق الذي يتم تقديم قصة تتحول من المكتوب إلى السمعي البصري: “لكلنا هوني غاطسين في الوسخ باش كيف نروحوا لتونس نروحوا نظاف” ، والتي هي آلية تخضع لنظام جديد يشوهها ويحولها من “أرض الأحلام ” إلى ” كابوس ” يتمنى العديدين الاستفاقة منه. يتم اختيار الكلمات للدلالة على نهاية كل رجاء: “نجموا نكونوا ماكينات … موتى من داخل .. أما الدنيا ساعات تقابلك بناس يخلوك تعاود تفكر في كل شيء.”

فكرة “الحاكم أكبر كذاب” ، الفعل “ما تصدقهمش” مثل فعل “منعرفش” و “الغدرة” “، تكرار كلمة” بلادي”، صفة” ميت “، يستحضر “عماد الدين الحكيم” الجانب المظلم ، الحزين ، الرتيب و ألم الملاجئ و السجون الجوع و “الحقرة”. الخوف وانعدام الثقة في “برباشة” المصب الذين ينتمون لعالم آخر رجال و نساء جلسوا القرفصاء على الأرض العراء  يبحثون في تلك الفضلات عن قوتهم اليومي، إنهم بالنسبة للحكيم “حراقة” من نوع آخر فضلوا البقاء، علاّ بلادهم تنظر إليهم فعكفوا على تحقيق مستقبل أبناءهم و هم يرفعون عيونهم إلى السماء و يحدقون في اللا شيء  .

الشخصيات الخيالية والواقعية

النظر إلى شخصيات “عماد الدين الحكيم” الخيالية المحاكة على أوراق و مسودات هو متعلق بالتحديد بشدة ولع المؤلف بالشخصية الواقعية المعاشة فيتقمصها بكافة تفاصيلها الحية ، الوهمية و الافتراضية ليبني و ينسج ” الوسلاتي” أبعادا إخراجية فيما بعد، تكون لمدير التصوير و الديكور و التوظيف الركحي للشخوص مثل الفعل المشهدي مرسوما أو منسوجا أو منحوتا أو حتى فعلا جسديا ،

أما بالنسبة لصائغ المشاهد المتتالية تكون صناعة درامية تحتوي إحساسا خفيا و حركة مكشوفة و هو ما يعرف ب”الانتقال من اللوحة إلى الشاشة”. كما أن كتابة المؤلف الصائغ للسرد و الرواية يطرح بالتأكيد سؤال الألفة و التأقلم بينهما و هذا أمر متعارف عليه ، فالنص التمثيلي كان و لا يزال المدافع الأول عن المشه و التمثيل التصوري القائم على نحت الصورة بدون تعقيدات ميتافيزيقية تنم عن مافوق الخيال و لكنها في نفس الوقت تهتم بالدفاع عن الحجج المتعلقة بالنقد الفني.

المصادر والمراجع

  1.  حرقة… يُتحف التونسيين بثنائي” تراجيدي اسمه “مجيد ولمين” صابر بن عامر  https://tunigate.net/posts/%D8%AD%D8%B1%D9%82%D8%A9%D9%8A%D9%8F%D8%AA%D8%AD%D9%81%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%8A%D9%8A%D9%86%D8%A8%D8%AB%D9%86%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D9%8A%D8%AF
  2. Anne Lafont, L’art et la race. L’Africain (tout) contre l’œil des Lumières. Les Presses du Réel, 476 p.

بقلم: جيهان القارة

 

أضف تعليقك هنا