حادثة وفاة صالح ارشيج

ذكرى صالح لاحت في البال

السنة الثالثة بعد الألفية الجديدة يوماً، من أيام الشتاء العراقية المشمسة، تتداخل الفصول بعضها ببعض لتخلص السنة صيفاً طويلاً حارقاً (يصمط صمط) وشتاءً قليلاً شحيح المطر تتخلله أيام برد قارص (أزرك). أتذكر أن لم يكن يومها قائض الحر رغم سطوع شمس الظهيرة فلنفترض أنه كان برداً وسلاما.

الأمر يا سادتي أنه دون سابق إنذارٍ وإذكار أن لاح في ذهني ذكر (صالح)، كيف جاء (صالحاً) ببالي دون سابق مقدمات موضوعٍ نبش في الذكريات البعيدة منقباً عن ذكرى كانت قبل هذا نسياً منسياً، كيف تتفجر الذكرى فجأة في البال، تُنعِش الخيال، باعثة الروح فيه شاخصاً أمامك في الحال، هل منظر نارٍ عابرٍ أشعل في الذاكرة لهيب الذكريات القديمة باعثاً الروح فيها خلقاً جديداً، هي النار نور وحياة وهي حريق أكل من جسم (صالح) الكثير من الأشلاء. إذنْ هي النار يا سادة.. نور ودفءٌ وموت وعذاب.

ذكرى اللقاء الأول مع صالح  

كنا في الطريق قافلتين (باصين) محملتين بشباب كثير ملئوا المقاعد مع قليلٍ من الشَيَبة، راحلين تلقاء النجف لزيارة ضريح (أبونا) الإمام علي (ع) أن يا أبا المظلومين والمحرومين جئناك كي نبث همنا هماً عراقياً عتيق، فصل بين الاثنين مسافة وقتٍ قاربت الساعة وفي الساعة موت قادم ونار ستلهب ودمٌ سيُسكب.

صفات صالح

لم أكن أعرف (صالحاً) منذ طويل الأمد فبالكاد معرفتي به سنة أو اثنتين لدى ذهابنا لحفل عرس أحد الأصدقاء زيارة عابرة، أتعرف أن تُلقي بك الصدف بمكانٍ تلتقي به القلوب وتتحاب، فتجد في إنسانٍ طيبة روحٍ وجمال أخلاق و(أريحية) تُشعِرك إنك تعرفه منذ سنين طويلة، كان هذا هو (صالح) ببساطة.

حادثة سير مروعة على الطريق

كلا السائقين باختلاف الطريقين كانا ينشدان اللحاق بالأفق البعيد قبل احمرار الغروب، أم كانت صدفة شاءت أن تتجمع ظروفها ظرفاً واحداً قاتلاً قبل حدوث المأساة ووجع القلب ودموع انسكبت وآلام حَقّت، كانت سيارة حمل معبأة بالتمر اصطدمت بأخرى محملة بالبشر، اختلط دبس التمر بقاني الدم، تمر الدم على الأرض مبعثر.

ماذا حل بصالح إثر حادثة السير؟ 

أتذكره ضاحكاً رغم أنه كان اللقاء الأول معه فكان يَضحك ويُضحك من هو أمامه من دون تعقيدات التعرف. هكذا بكل بساطة يجري الحديث وتضيع في مجراه وكأنك مع صديقٍ قديمٍ لا وجهٍ جديدٍ قد التقيت به للتو. في المستشفى كان يأن كثيراً لدى الذهاب لزيارته فنسبة الحرق في جسمه كبير والألم ينبثق من صميم القلب أكبر وأمل النجاة أصغر، منظراً كئيباً (يُكسِر) الخاطر، هذا الضحّاك الذي كثيراً ما أضحك من يعرفه ومن لا يعرفه تراه يصرخ من سكاكين الوجع التي تقطع بجلدة المتهرئ من فرط الحريق. يلتفت لي بعينٍ حمراء واحدة مفتوحة تجمد فيها الدمع والدم وأثر النار وهي تنطق بالنظرات حسرات وآهات أن يا من أحييت رميم العظام هلا أرحتني. عينه الأخرى غافية لا تتفتح.

خالد أحد الركاب الذين لقوا حتفهم بحادثة السير 

كنت في (الباص) الذي في الخلف وبيننا ساعة من الزمن في طريق سماوة العراق وتراب الصحراء يتطاير من على جنبات الطريق أن يا مركب الموت اهبط بأرضنا فالطريق أمامك أفعى لا آمان لها. قيل لي ولا أتذكر بالضبط أن أُنتزع جسد (خالد) من على محرك الباص المكشوف حيث التصق هو والمحرك كلاهما ميتين جسد وحديد لا حراك فيهما. كان من المفترض أن ينتهي مشوار (خالد) الجامعي وحبه لفتاة معه في الجامعة لزواج ومودة ورحمة وهو الذي كان عندما يلتقيها تراه خجولاً ولو لم يكن أسمراً لانبثق الدم في خديه أحمر، كان يكتب الشعر جميلا رغم أن ملامح وجهه توحي أنه قد أخذ الحياة والعيش بصرامة وجدية لكنه متى ما تتحدث معه تحبه على الفور وتستأنس بلقائه وحديثه وتنسى شكل حاجبيه المطبقين بغضب دون أن يغضب، هكذا كان تشكيلهما طبيعياً تعطي من لا يعرفه انطباعا أنه جديّاً غاضباً عصبيا، ولكن من يعرفه يعلم أنه كيان من طيبة ومودة.

اللحظات الأخيرة في حياة صالح

كان مجموع من غيبهم الموت أحد عشر آخرهم (صالح) الحي الميت الذي التهمت منه النار الشيء الكثير، كان على هذا الحال لبضعة أيام، الزيارات له في الطابق العلوي في مستشفى (صدام) (سابقاً) (الحسين) (حالياً) كثيرة تتجمع فيه ذكريات من ماتوا في جسدٍ حيٍ شبه ميت، فاضت الروح لبارئها على حين غرة، وعلى حين غرة، ذاع الخبر وسطنا والكثير من الناس فاقتضى الأمر تشييعه سيراً لبيت أهله ومن ثم للشارع العام حيث ستنتظر سيارة لتقل الجثمان لحفرته الأخيرة.

جموع غفيرة في تشييع جثمان صالح

فجاءة وفيما بدا التشييع صغيراً وعادياً ثارت (اهزوجة) وثانية وثالثة رددها قليل الحاضرين لتجذب انتباه الناظرين فينظموا لجمع المشيعين، حاولت أن أعصر ذاكرتي لتذكر أية اهزوجة من (الأهزوجات) فلم أتذكر، كلما طال المسير زاد الغفير، تتجمع الناس من كل حدبٍ وصوب جماهير من البشر هاتفة صائحة متمردة على إرهاب الحزب والثورة ومديرية أمن (الناصرية) العامة، لم تكن صيحات (لا اله الا الله) في تلك اللحظة وببعدها العميق قاصدة التوحيد نداءً بل (لا) للظلم و(لا) للقمع و(لا) لحياتنا البائسة الضائعة في دهاليز السياسة الفاسدة.

صوت خالد مازال يتردد في التشييع 

يقطع الطريق أخو (خالد) ليلقي قصيدة كان قد كتبها (خالد) وأنا أعلم أن (خالداً) شاعراً شعبياً، فتعلوا الصيحات بالهتافات وصراخات الحزن من دون حتى الإصغاء للكلمات، حاولت أن أصغي ماذا قالت روح (خالد) في تلك اللحظة، الضجة كبيرة والناس تفجرت قلوبها (المكبوتة) من جحيم الظلم الذي أحرق البلاد والعباد وأخو (خالد) يصيح كلمات القصيدة بعالي الصوت والورقة في يده سطع الشمس فيها أن يا (خالد) لك ذكرى ولك صيحة في هذا الضجيج، كانت انتفاضة حناجر متفجرة صارخة محرومة وليس تشييعاً لميت.

لا زلت أتذكر وجه (أم صالح) الباسم الحزين ووقفتها المهيبة بباب دارها مدلية عباءتها لخصرها تربطها (وشيلتها) السوداء الجنوبية شعار وعلم، تشير رافضة دخول التابوت للبيت فما رأته من تشييع جماهيري كبير أراح القلب وواسى الوجدان أن لهذا الإنسان آلاف الأخوة.

كيف تعامل حزب البعث مع العزاء؟ 

منعت منظمة حزب البعث في المنطقة ومديرية الأمن إقامة مجلس الفاتحة، طوقوا (حي الشهداء) شهراً أو اثنين تخللها مضايقات واعتقالات لكل من شكو به أنه سار صوب بيتٍ من بيوتات الضحايا، كان لكبير البعثيين في تلك المنطقة صولة وجولة في منع إقامة مجلس العزاء متربطاً سلاحه ومعلياً بالترهيب جناحه نافخاً صدره مُعلِياً صياحه بأبشع الألفاظ، كانت تلك الحادثة بتاريخ ٢٥/٢/٢٠٠٣، يا لسخرية القدر، بشر نسى أنه زائل فعاث في الأرض فساداً وتنمّر، فبعد شهر، ولوا الدبر، سقط نظام حكم الأمن والمخابرات والمنظمات الحزبية واختبئوا بالجحور من كانوا يسومون الناس سوء العذاب إهانة واعتقالاً وتعذيبا.. سبحان مغير الأحوال.

حيدر محمد الوائلي

فيديو مقال حادثة وفاة صالح ارشيج

 

أضف تعليقك هنا