الزمنُ المتشَظِي على الأرضِ العَطشى

أتى منذر عبد الكريم من قريته باحثاً عن فرصةِ عملٍ مناسبةٍ ليتمكن من إكمال مشوار حياته التي كانت مليئة بالجورِ والقسوةِ في قريتهِ التي مازال يشتاقُ لها كثيراً.. تمكن من الحصول على وظيفةٍ جيدةٍ واستأجرَ غرفةً متواضعة للمبيت، كان من عادتهِ الجري لمسافةٍ قبل النوم… خصوصاً وهو ابنُ بيئةٍ جبلية تتطلب صعوداً ونزولاً ومشياً طويلاًَ, خصوصاً ووسائل المواصلات لم تصل لكل مكان ينبغي أن تصل إليه لوعورة الطريق, كان يمارسُ تلك العادة الرياضية بمنطقةٍ مرتفعةٍ قليلاً عن المدينةِ قل ما يأتيها أحد في الليل, يفصلها عن طريق مرور السيارات سور حديدي طويل متقطع كُسرت بعضُ أعمدتهِ الحديدية, كان يركض على الطريقِ الموازي لتلك الطريق حتى يشعر بالتعب ليعود فيرتمي على فراشهِ حتى الصباح, فالمُتعبُ ينام بمجرد أن يصل للفراش.. وما ذلك الركض إلا محاولةٍ لعدم تسرب ذكريات الطفولة المريرة إلى حياته الجديدة.

ماذا شاهد منذر عندما كان يسير ليلاً؟

وبينما يمارس ذلك ذاتَ ليلةٍ عَبـْرَ تلك المنطقة المنقطعة إذ بسيارةٍ تدخلها ثم تطفئ أنوار مصابيحها الأمامية… راودهُ الشكُ لذلك فذهبَ ليتفحص المكان بخطىً بطيئة بها شيءٌ من الترددِ والخوف من مجهولٍ هو مُقدمٌ عليه, إلى أن وصل إلى كومةٍ من التراب جُمعت من ارضٍ حُفرت بجانبها لكي يقام عليها مشروعٍ استثماري.

وإذا به يسمع أحدهم يستغيثُ, فاقترب أكثر… إذا بشخصين يُخرجا ثالث من السيارة بالقوة وهو يصرخ فيبادرهُ أحدهما برعونةٍ: لا تـُـتـعب نفسك فلن يسمعكَ أحدٌ فقلما يمرُ شخصٌ هنا بالنهار فكيف بالليل؟! في حين أن الآخر قد أمسكَ خِنجراً, أما الثالث فواقفٌ خلف باب السيارة المفتوح وقد بدا علية الخوفُ والارتباك.. صرخ بغضبٍ بهما: أنهيا المهمة بسرعةٍ أيها الغبيان وكفاكما ثرثرةً. حسناً سيدي… ولكن أليس من حقهِ أن يطلب أمنيةً أخيرةً قبل أن يموت!. (ويقهقه هو ورفيقه فيقاطعه سيده بغضب): أنا لا أعرف كيف تعمل معنا وأنت بهذا الغباء؟! لأن عملنا هذا لا يتطلبُ ذكاءً بقدر ما يتطلبُ شجاعةً وقسوةً يا سيدي.

كيف أنقذ منذر الشاب من أيدي المجرمين؟

وفي أثناء ذلك الجدل كان مُنذر قد وصلَ إلى خلفِ سيدهما الواقف خلف الباب متسللاً وبلحافٍ كان على عنقه طوق عنق ذلك الرجل وصاح به أمرهم أن يتركاه.
-فصاح الرجل برعبٍ: اتركاه.. اتركاهُ أيها الغبيان.
-وابتعد منذر عن السيارة واللحاف لا زال يطوق عنق الرجل وصاح به مرةً أخرى: أمرهم أن يُغادرا بالسيارة إلى الخارج.
-وأنا.. ماذا ستفعلُ بي؟!
فصاح به: نفذ ما قلتهُ لك.
-فأمرهم بذلك, وبعد أن وصلوا إلى خلف السور الحديدي قال لهُ بمنتهى الهدوء والثبات: لا أريد أن أراك مرةً أخرى…. وأبعد اللحاف عن عنقهِ, فابتلع الرجل ريقه وجرى نحو السيارة مُتعثرا بعد كل خطوتين وكأنما وحشٌ يلاحقه… إلى أن وصل للسيارة…
-تحركا… تحركا بسرعةٍ أيها الغبيان.

قصة الشاب الذي أنقذه منذر من القتل

اقترب منذر من ذلك الرجل الذي أنقذهُ ولا يعرف عنه شيء واصطحبهُ إلى غرفتهِ..
-ماء… أرجوك كوب ماء..
أحضر له الماء فشربهُ ويديه ترتعشان لتظهر أي تعذيبٍ تعرض لهُ.
-شكراً لك…
وخيم على تلك الغرفة لحظات سكون كئيب قطعهُ الرجل المنهك بصوتٍ كحاله.
-أشكرك على إنقاذك حياتي .
-لا شكر على واجب…. إنما من هؤلاء؟ ولِمَ أرادوا قتلك؟
-إنها قصة طويلة… بدأت عندما تركتُ قريتي للعمل هنا ومواصلة تعليمي الجامعي… حيثُ تعرفت بالجامعةِ على زميلٍ لي لم أخفي عنه ظروفي وحاجتي للعمل فعرفني على مكتب للاستيراد والتصدير.. توسط لي عند مدير المكتب فعملت لديهم نظير أجرٍ لمْ أكن احلم بمثله.
-وما ذلك العمل؟.
-أن أحمل حقيبة متوسطة الحجم إلى مكان معين يومياً.
-وما الذي بداخلها؟!
-هذا ما حاولتُ معرفتهُ مؤخراً فكان سبباً في ما رأيته بأم عينك.
-ماذا تقصد؟!
-راودني الشك فيما احمله بهذه الحقيبة يوميا… وبدافع الفضول فتحتُ الحقيبة فإذا بها أكياس بودرة بيضاء تشبهُ المخـــدرات التـي لم أرها إلا في الأفلام… أوصلتها كالعادة وعدتُ إلى منزلي الذي كانوا قد استأجروه لي ولوالدتي… وفي الصباح ذهبت للمكتب وقدمتُ استقالتي وعدتُ إلى المنزل مهموماً فسألتني والدتي عن سبب عودتي مبكراً فأخبرتها بتركي للعمل وأننا سنترك المنزل أيضاَ، وخرجتُ لأبحث عن منزلٍ آخر نسكنُ به, إلى أن وجدتُ منزلاً آخر, فعدتُ لاصطحاب والدتي للمنزل الجديد فلم أجدها بالمنزل… ظننتُ للوهلة الأولى أنها ذهبت إلى جارتنا كعادتها إلى أن رن جرس الهاتف… أجبتُ فإذا المتحدث يقول لي إذا أردت والدتك فأتي إلى المكتبِ فوراً… ولشدة ارتباكي وفيض همومي لم أستطع تمييز الصوت ولم يتبادر لذهني أي مكتبٍ يقصد!! تجمدتُ للحظاتْ… عصفت بي الأفكار كأنما هي شريط فيديو أعاد كل الأحداث الأخيرة بتلك اللحظات القصيرة, عندها اتضح لي أن المتحدث قبل قليل هو مدير مكتب الاستيراد والتصدير… خرجتُ من فوري إلى المكتب الذي كان مديرة ينتظرني بفارغ الصبر فبادرني:
-أرجو أن تكون قد استوعبت الدرس وعرفت أن من يعمل معنا لا يمكن أن يتركنا إلا إذا أردنا ذلك.. وبطريقتنا نحن.
-ظننتُ أنهم قد أخذوا والدتي رهينة حتى أعود للعمل لديهم, وقد كنت مستعداً لذلك من أجل والدتي فسألتهُ:-
-أين والدتي ؟!.
ستلتقى بها اذهب إلى السكرتير وسيوصلك إليها.. ضرب الجرس فدخل سكرتيرهُ:
-دعه يلقى والدته.
-أخذني إلى مكان شبيه بالهنجر حيث حاولوا استدراجي بالكلام ظناً منهم أنى قد أبلغت عنهم الشرطة وعندما أيقنوا أن ذلك لم يحدث ساموني أشـــكال العذاب وربطوني لفترة مُغمضَ العينين ثم أخرجوني للباب فإذا بسيارةٍ تنتظرنا وبجانبها شخصين أدخلاني بالخلف وركبا إلى جانبي وقاد السكرتير السيارة وذهبوا بي إلى تلك المنطقة الخالية والباقي تعرفهُ جيدا..

تعلق منذر بالشاب ومنعه من الخروج من منزله

أنا عاجز عن شكرك والآن اسمح لي.
-اسمح لك بماذا؟!
-يجب أن اذهب.
-إلى أين؟!
اطرق واجماً وخفض رأسه:- لا ادري..
-ستبقى معي
-لا يمكن.
-لماذا؟!
-أعرف أنهم لن يتركوني وشأني أبداً ولا أريد أن أعرضك للأذى بسببي.
-لكنهم لا يعرفونَ مكانك .
-سيبحثوا إلى أن يجدوني ..
-كان ذلك ممكنا لو أننا في قريةٍ أو مدينةٍ صغيرة… لكننا في العاصمة ومن الصعب بل من المستحيل أن يجدوك بين مليون ونصف من البشر.. سترافقني من الغد إلى عملي وستعود إلى مواصلة دراستكَ حين تقرر أنت ذلك وسنبقى معاً بهذه الغرفة…
-ودَمُ أمي؟!
-سننتقم لها عندما يحين الوقت… أعدك بهذا, وافق ذلك الشاب ومر شهر وهما لا يفترقا أبداً وفي ذات يومٍ وهما على وشك الخروج كالعادة…
-لن آتي معك اليوم!.
-لماذا؟!
-لأني سأذهب إلى الجامعة فقد فاتني الكثير من المُحاضرات, فرح منذر لذلك وذهب إلى عملهِ, في حين ذهب الأخيرُ إلى الجامعة, وصل مُنذر إلى عمله مسروراً فصديقه الذي اصبح أخاً له قد تجاوزَ أزمتهِ وعاد لجامعته.

ما الأمر الذي أرعب منذر من عودة صديقه للجامعة؟

وفجأةً تغيرت ملامح مُنذر!!.. أحس أن ذلك الأخ والصديق كان من نسجِ الخيال أو لعلهُ حلم أوشَكَ على الانتهاء.. كأنهُ طيف أتى وذهب ولن يراهُ مرةً أخرى وبعد تدفق الخواطر والذكريات التي أعادتهُ إلى يوم إنقاذهِ له والتعرف عليه، تذكر معرفتهم لِمكان دراسته الجامعية وحتماً فهم يبحثون عنه لإخماد أنفاسه.. قام من كرسيه وصاح بصوتٍ عالٍ يملأهُ الرعب وبه نبرةُ الشك واليقين في آنٍ واحد!!
-لا
-تبادل زملائه النظرات وبادرهُ أحدهم ما بك؟!.
-لكنهُ هرعَ مهرولاً إلى الخارجِ مدفوعاً وكأنما زلزلتِ الأرضُ تحت قدميه وذهب إلى الجامعة وهناك رأى مجموعةً من الناس متجمعين حول شيءٍ ما!!
-مر أحدهم بجانبه فسألهُ برعبٍ كأنما يعرفُ الجواب سلفاً بَـيدَ أن شعرة الأمل التي لا يرجو انقطاعها توحي لهُ بما يرغبُ هو بهِ ويؤملهُ.. مُرعبٌ أن يكون ما يظنهُ يقيناً… لا يتصور أن يعود إلى غرفته دون صديقه الذي يـُذَكِرهُ به كل ركنٍ فيها… أُخـْبـِرَ أن أحدهم قتل هناك بطعنةٍ في صدرهِ من سائقِ دراجةٍ ناريةٍ أثناء قطعهِ للطريق!.

اقترب منهم وبجانبهم سيارة الإسعاف وكأنهُ في كابوس شديد الوطأةِ على النفس وحين وصل رأى الكابوس حقيقةً مرعبةً ماثلةً فيمن آنس وحدته شهراً أو يزيد يغرقُ في دمائه… فخرَ مغشياً عليه. وعندما أفاق رأى ما حوله!. أدرك حينها أن مكروهاً قد حدث فعلاَ… حاول إيهامَ نفسه بعكس ذلك… و في تلكَ الأثناء دخلت الممرضةُ مُرتديةً جلباباً وطرحه بيضاء واقتربت منه وبلطفٍ قالت:- حمداً لله على السلامة..
-من أحضرني إلى هنا (مستغرباً).
-أغميَّ عليكَ عندما كنا ننقل جريحاً
أعاد إليه كلامها بعض الأمل..
-وكيف حاله الآن ؟ !
-أهو قريبٌ لك؟!
-إنه أخي..
في تلك الأثناء دخل الدكتور
-حمد لله على سلامتك, كيف حالكَ الآن؟
-الحمد لله أشارت للدكتور وانسحبت معه إلى خارج الغرفةِ وقالت بصوتٍ خافت.
-انه أخٌ للقتيل …
-لا حول ولا قوة إلا بالله…. هل عرفَ أنهُ مات ؟!
-لا… ما رأيكَ أن نؤجل ذلك الآن!.
-لا يُستحسَن أن يتعلق بأملٍ كاذب

تلقي منذر خبر وفاة صديقه

في أثناء ذلك اقترب عضو النيابة الذي جاء للتحقيق في ذلك وخاطب الدكتور قائلاً :-
-هل أستطيع استجوابه عن الحادث ؟
-بالطبع تفضل .
-شكراً .
اقترب عضو النيابة من مُنذر وبدأ بسرد أسئلته:-
-هل تعرف القتيل ؟
-هل مات ؟
-نعم
-اسودت الدنيا في وجه وتبدد الأمل للمرةً الأخيرة وغرقتْ عيناهُ بدمعٍ غزيرْ .
-هل لهُ أعداء؟!
-لا .

كيف انتقم منذر لصديقه الشاب من قاتليه؟

خرج من المستشفى وعاد لغرفته, وفورَ وصولهِ بدأت الذكرياتُ تتزاحمُ في مخيلتهِ تذكر أخاً أتى فجأةً ورحل فجأة!. لكنهُ رحل إلى الأبد!.. أخرج من حقيبته كل المال الذي كان يدخرهُ للزواج واتجهَ إلى أكبر متاجر العاصمة للملابس واشترى بذلةً فخمةً وعاد للغرفةِ وفي صباح اليوم التالي ذهب إلى المكتب الذي كان يعمل به صديقه وقابل السكرتير الذي لم يعرفه!!.
-مُنذر: أريدُ مقابله المدير.
-السكرتير:- هل لديك موعد سابق؟
-مُنذر:- قل له إني أريدهُ في صفقةِ تصديرٍ ضخمةٍ ومستعجلة.
-طرق السكرتيرُ باب مديرهِ بهدوءٍ ودخل السكرتير:- سيدي هناك شاب يقول انه يريد أن يعقد معنا صفقةً ضخمةًَ و مستعجلة.
-المُدير:- هل هو من عملائنا؟
-السكرتير:- لا… لكنَّهُ يبدو ثرياً جداً.
-المُدير:- أدخله.
-السكرتير:- تفضل يا سيدي.
-دخل مُنذر وقام المدير لتحيته والترحيب به.
-المدير:- أهلا بك هذه هي المرةُ الأولى التي تتعامل معنا أليس كذلك؟!
-مُنذر:- نعم وهي صفقه مربحةُ جداً, لكن أرجو أن تطلب من السكرتير الحضور!
-المدير:- لماذا ؟!!
-مُنذر:- أريدهُ في أمرٍ بسيط.
-المدير يضغطُ على الجرس فيطرق السكرتير الباب ويدخل
-السكرتير:- نعم سيدي.
-المدير:- ادخل .
-مُنذر:- تفضل اجلس .
-السكرتير ينظرُ إلى المدير كأنما يستأذنه فيأذن له المدير
-مُنذر :-  هل لي أن أسألكَ سؤالاً ؟!
-المدير:-  تفضل .
-منذر :- هل قُمتم بعمليةٍ بعد عمليةِ الأمس في الجامعة ؟!.
-المدير تتغير ملامح وجهه وكذلك السكرتير
-المدير :- ماذا تعني؟!
-مُنذر :- لا أعني شيئاً يصمتُ للحظةٍ ثُم يستأنفُ كلامه, اعتقد أنها تمت في مثل هذا الوقت أليس كذلك؟!(ينظر إلى ساعته)… لا أحد يرد
-مُنذر  يوجه كلامه للسكرتير:- اعتقد أني التقيت بك من قبل !.
-السكرتير ينظر إليه برعب فيستأنفُ مُنذر كلامه:- عندما فشلتم في المرةِ الأولى ألم اقل لك إني لا أريدُ أن أراكَ مرةً أخرى؟!
-السكرتير ينهض ويحاول الفرار مُنذر:- انتظر لك عندي هديه (يقف السكرتير)!!
-وانفجر المكتب وهز دوي انفجارهِ أنحاء المدينة حين فتح مُنذر حقيبةً دبلوماسيةً مليئةً بالمتفجرات..

فيديو مقال الزمنُ المتشَظِي على الأرضِ العَطشى

أضف تعليقك هنا