رواية ((عوبار)) بقلم زيد العرفج

روايـــــــة: // عـــــوبـــــار //
تـــألــيـــف: // زيــد العــرفـــج //

هل ظهر الإنسان الصانع قبل الإنسان العالم؟

بسم الله الرحمن الرحيم: {{وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}} الآية 31 من سورة البقرة

مازالت المقولة الفلسفية: ((إنّ الإنسان الصانع ظهر قبل الإنسان العالم)) يتردد صداها في ذهني، وأنا أسير راكباً ناقتي نحو المجهول.. هل فعلاً ظهر الإنسان الصانع قبل الإنسان العالم، أم أن هناك من علم الإنسان العلوم التي نتجت عنها تلك الاختراعات والصناعات، هل صنع الإنسان الأشياء التي احتاجها أولاً، ثم جاء بعد ذلك العلم ليجردها على شكل أفكار ونظريات وقوانين ومعادلات.. وهل أخذ العلم دوره لاحقاً في تطوير الأشياء بعد أن صنع الإنسان أشكالها البدائية، أم أن الإنسان تعلم قبل أن يصنع، فالإنسان لو لم يعرف محيطه ويخبر حاجياته لما اخترع تلك الأشياء اللازمة للمحافظة على بقائه من مسكن وملبس وأسلحة وغير ذلك ..

الإنسان المفكر ظهر قبل الإنسان الصانع والعالم

مازالت تلك الأفكار تجري في مخيلتي وتعصف بها يمنةً ويسرةً، فأضع حداً لكل ذلك بصرختي: ((إن الإنسان المفكر ظهر قبل الإنسان الصانع والعالم كليهما))، فالفكرة تسبق الاختراع وتسبق تجريده وتبويبه العلمي.. ولكن إذا كانت الحاجة – وهي أم الاختراع – قد دفعت بالإنسان نحو صنع حاجياته وتطويرها، ثم جاء العلم ليجردها، فإن الصناعة حتماً سبقت العلم.. بمعنى آخر، إن الإنسان عندما شعر بالحاجة للمأوى بنى البيوت دون أن يعرف أسس الهندسة والزوايا القائمة، وتفنن في بناء القباب دون معرفته المسبقة بالأقواس الرياضية وكيفية رسمها هندسياً، واندفع بالمراكب التي صنعها عبر المياه دون أن يعرف قوانين وخصائص المياه وغيره الكثير..

ما العلاقة بين العلم والحضارة والثقافة؟

ولكن ما يحيرني ويجعلني مذهولاً ذلك السؤال الذي أتعب ذهني، هل يمكن للإنسان الذي وصل لمرحلة عالية من التطور التقني أن يعيد بناء ما تم إنجازه في الماضي إذا ما حدث فقدان كلي للحضارة التي يعيشها، أي في حال فقدانه لكل ما حوله من تقنيات وبناء بسبب كارثة كونية عامة، هل يمكن للعلوم المجردة التي تبقى بعد الكارثة الكونية على شكل نظريات ومفاهيم أن تمنح الإنسان القدرة على البناء من جديد، أم أن الإنسان سيضطر للعودة لنقطة الصفر في البناء، هل ما وصلنا إليه من حضارة تراكمي بمعنى أن الدمار يعيدنا لنقطة البداية، أم يمكننا تحقيق العودة السريعة بقفزة هائلة من الحضيض إلى أعلى مستويات الحضارة المفقودة، أم لا بد للنهوض من وجود أرضية ننطلق منها نحو بناء جديد …… كيف يمكن للبشرية أن تعود لحضارتها المزدهرة إذا تم تدميرها بالكامل، ما علاقة العلم بالحضارة وما علاقة كليهما بالثقافة، تلك الأسئلة ما تزال تصدح في رأسي منذ أن خرجت من مدينتي العظيمة (عوبار) وقد حل بها الفناء الشامل ….

المورد الأول
في الجامعة

روى ابن حبان في صحيحه: عن أبي ذر الغفاري -رضي الله عنه- عن الرسول -صلى الله عليه وسلم أنه قال عن الأنبياء والرسل: ((منهم أربعة من العرب: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر))

مازالت مطيتي تجد السير نحو وجهتها، نعم نحو وجهتها وليست وجهتي، فأنا أساساً أجهل أين تذهب بي تلك الناقة، فكل ما أعرفه أن حياتي بين يديها، وقد اخترتها من بين سبع نوق مدربة لغاية الفرار بكنوز (عاد) الثمينة، تلك النوق المدربة على المسير في اتجاهات محددة، بحيث تعرف كل واحدة منها الطريق نحو البلد المتوجب أن تصل إليه مستدلةً في ذلك بالآبار التي ستردها والمحفورة وفقاً لخارطة طريق مبنية على ما تتحمله الناقة من عطش.

وهذه الناقة اخترتها بشكل عشوائي فلا أعلم ما الطريق الذي تدربت على المسير فيه ولا الموارد المائية التي ستردها ولا البلاد التي ستوصلني إليها في نهاية المطاف، فناقتي الآن وقد أخذ منها العطش تحث خطاها نحو المورد المائي الأول المتدربة على ارتياده، وأنا اعتلي ظهرها وكثبان الرمال تتموج من حولي، وحبات الرمل التي تعصف بها الرياح الهائجة تلسع وجنتيَّ وجبهتي، حاملاً تحت إبطي حقيبة جلدية تضم كنزاً من أعظم وأغلى الكنوز للبشرية جمعاء، وأنا على استعداد تام للتضحية بنفسي من أجل المحافظة عليه وإيصاله إلى بر الأمان.

بدأ النعاس ينال مني وأنا على ظهر الناقة التي تتمايل بي كالسفينة في البحر، نعم إنها تتمايل كالسفينة، لذلك سأسميها سفينة البر.. بل سفينة الصحراء، فهي تقهر الصحراء برمالها ومتاهاتها وعطشها.. إذ تستطيع المشي في هذه الكثبان المهيلة بسبب أقدامها المميزة المسماة بالخف، والتي بدونها ما اجتازت بي تلك المهالك.

يا إلهي.. إني أسير وفق مسير تلك الناقة، هل انتقلت من الاعتماد على الخارطات الأثيرية التي توجه مركباتنا المتطورة إلى الخارطة الذهنية لهذا الحيوان الجميل، سبحان الله إنها حيوانات تعرف طريقها بشكل فطري.. أين المركبات الأثيرية ذات المقاعد المريحة التي تسير بنا في البراري بكل ثقة، أين الطائرات الأثيرية التي تنقلنا من مكان لآخر يبعد آلاف الكيلومترات خلال ثوانٍ معدودة، أين الزر الأثيري المزروع في كفي وأين السوار الأثيري الذي يلف معصمي ويستر عورتي، عادت بي الذاكرة بشكل عنيف للوراء، آه.. على أيام الصبا عندما ارتدت تلك الجامعة البديعة في العاصمة عوبار لدراسة التاريخ.

سبب اختياري دراسة التاريخ

لا أعرف ما السبب الذي دعاني لاختيار دراسة التاريخ في الجامعة، وقد حصلت على مجموعٍ عالٍ في الشهادة المدرسية، بينما أغلب زملائي الذين حصلوا على مجاميع عالية مثلي ذهبوا لدراسة القانون أو السياسة ومن كان مجموعه أقل ذهب لدراسة الاقتصاد أو الآداب، فنحن العرب منذ أن تسيّدنا العالم حددنا مهامنا في الحياة ضمن مجالات القانون والسياسة والاقتصاد والفكر والآداب، أما باقي الدراسات كالطب والهندسة وبقية العلوم التطبيقية فلا ندرسها ولا نعمل بها بل نعتبرها مهناً وضيعةً لا تناسب شرف ورفعة العرب، وهذه الاختصاصات نعتمد فيها على بقية الشعوب التي نحكمها فالأطباء والمهندسون والتقنيون أغلبهم من الهنود والصينيين والفرس والرومان، أما الخدمات الأخرى من نظافة وغيرها فيضطلع بها الرجال الآليون الذين يعملون بطاقة الأثير.

لقد اخترت دراسة التاريخ لعدة أسباب يمكنني إجمالها في كثرة المغالطات التاريخية التي قرأتها في حياتي المدرسية، فأحداث ما قبل الطوفان العظيم، ونشوء الأمم والشعوب من نسل جدنا الأكبر نوح، وصعود أمة العرب وعلى رأسها قبيلتنا – قبيلة عاد العظيمة – وتسيدها للأمم وسيطرتها على العالم ما زالت لغزاً محيراً بالنسبة لي، أضف لذلك ما تم فرضه علينا من نظريات تاريخية وجغرافية تتعلق بنشأة الكون وكروية الأرض وتموضع الأجرام السماوية والشمس والقمر، كل ذلك جعلني شغوفاً بالدراسات التاريخية والجغرافية، فتمنيت وجود اختصاص اسمه الجغرافيا التاريخية.. نعم إن دراسة تاريخ البشر لا تتمثل فقط بدراسة نشوء دولهم وحروبهم ونزاعاتهم، وبالتالي دراسة تاريخ زعماءهم فقط، بل لا بد من دراسة الأرض التي عاشوا عليها وتأثير البيئة والتقلبات المناخية عليهم.

جولة في العاصمة عوبار

أخرج من منزلي الكائن في العاصمة عوبار، فعاصمتنا جميلة وبهيّة تسحر الألباب، أتجول في حدائقها المزدانة بالأشجار المثمرة والزهور، فأينما تسير في شوارع عوبار ترى المياه والخضرة، فمدينتنا مصممة بشكل رائع، ففي المركز تجد متنزهاً ضخماً يفور بنوافير المياه ومليء بالأشجار المصفوفة بشكل هندسي بديع منتشرة بينها أحواض الزهور، ويحيط بالمتنزه السوق التجاري الكبير الذي يضم سوق للخضروات وآخر للحوم وثالث للمواد الغذائية وهناك سوق الألبسة وسوق المركبات وهكذا، وبعدها تجد القصر الحكومي والمراكز الحكومية وكل ذلك مربوط بواسطة التقنية الأثيرية، ففي الأسواق تباع البضائع التي يشرف على عرضها المهنيون من أبناء الشعوب الأخرى، فالمواد الخام يتم تجميعها بواسطة آليات ضخمة تعمل بطاقة الأثير، ومن ثم تُنقل بسرعة كبيرة جداً عبر الأثير أيضاً إلى أماكن التصنيع لتحويلها إلى مواد ومنتجات يتم توزيعها في الأسواق بنفس السرعة ليتم شراءها من قبل الزبائن دون الحاجة للذهاب للسوق والمساومة، فالأسعار ثابتة وموحدة وأنت تعلم كل شيء عن المنتج عبر برنامج التسويق الأثيري وتشتري ما تريد من سلع وحاجيات من خلاله.

شكل المنازل من الخارج في العاصمة عوبار

ويأتي بعد السوق التجاري ودور الحكومة الأحياء السكنية، وقد تم تصميم البيوت في تلك الأحياء بحيث يكون محيط المنزل مبنياً من الحجارة الطبيعية المدعمة بطاقة الأثير وذلك لمنع اختراقها والنظر بما في داخلها حتى لو امتلك الناظر أقوى الأجهزة الشعاعية، ومحيط المنزل يمكن أن يكون من جدران الاثير فقط إلا أن ضرورة المحافظة على ملكية المنازل وعدم تغيير حدودها حتمت بناءها من الحجارة الطبيعية حيث أن الجدران الأثيرية قابلة للتغيير في أية لحظة.

شكل المنازل من الداخل في العاصمة عوبار

أما من الداخل فالبيت غير مقسم، ولصاحب البيت مطلق الحرية في تقسيم منزله بواسطة الجدران الأثيرية القابلة للتغيير كلما دعت الحاجة لذلك، ففي أي لحظة يمكن أن تقسم لنفسك غرفة وتبتعد فيها عن ضجيج العائلة، فقط ضغطة زر مع تحديد الموقع والأبعاد لتجد نفسك مستقلاً داخل الغرفة لوحدك.

الخدمات التقنية في عوبار

ونحن لا نحتاج الخدم في بيوتنا فالكائنات الأثيرية تلبي طلباتنا فوراً، فعند شعورك بالجوع تطلب الطعام الذي تحتاجه، فلا يستغرق الأمر سوى ثوانٍ معدودة لتكون الوجبة أمامك، والبيت غير مكركب بالأثاث فما عليك سوى ضغط الزر المزروع في كفك حتى تجد الطاولة والكرسي المريح أمامك لتتناول طعامك أو لتشرب قهوتك، وعند النوم تضغط الزر نفسه لتجد في زاوية غرفتك السرير الوثير الذي تنام عليه، إنه زر عجيب لا يمكننا الاستغناء عنه بتاتاً.

وغالباً لا نحتاج لتبديل ثيابنا عند الدخول أو الخروج من المنزل والفضل يعود في ذلك للتقنية الأثيرية التي منحتنا سواراً نلفه حول المعصم فيصنع هالة حول جسدنا تحجبه عن الآخرين مكوناً بذلك لباساً ساتراً لكل جسدنا أو للجزء الذي نختاره، ومن خلال هذا السوار يمكننا تحديد مستوى اللباس وحتى موضته، فأنا مثلاً عندما أذهب للجامعة أحوله لبزة رسمية، وعند عودتي للبيت أحوله لثياب نوم، وفي البرية أحوله لجلباب أبيض أو أسود حسب الحال وهكذا، إلا أن النساء لدينا لا يثقن بهذا اللباس فيلبسن أسفل منه لباساً قطنياً أو كتانياً ساتراً، ولذلك ما زالت زراعة القطن والكتان مزدهرة خاصة في حوض النيل، ومن ثم يقمن باختيار الموضة التي يرغبن بها من خلال السوار العجيب، فإذا ما حدث خللاً في السوار واختفت هالة الأثير ظلَّ اللباس التقليدي ساتراً لعوراتهنّ، أما المستعمرات البعيدة المستعبدة شعوبها في استخراج الذهب والفضة كأفريقيا ومناطق أمريكا، فيتم تطويق معاصمهم منذ الولادة بسوارٍ يُلبسهم لباسا أثيرياً موحداً يستر جسدهم من الكتفين حتى الكعبين وبلونٍ واحد هو اللون الأزرق.

الشوارع والمركبات في عوبار

الشوارع عريضة وفيها المباخر والمعطرات الضخمة، فأينما تسير تشم روائح العطور والورود والبخور، فهناك نظام دقيق لتعطير المدن بحيث تكون نسبة الروائح العطرة غير مؤذية إضافةً لمنقيات الجو، حتى نظام الصرف الصحي دقيق جداً والقمامة لها مسارات خاصة تذهب عبرها نحو مصانع إعادة التدوير، أحياناً أجد نفسي عاجزاً أمام التقنيات التي توصلنا إليها، فلا نكاد نفقد شيئاً من وسائل الترفيه والراحة …….

والمركبات تسير في الشوارع عبر المسارات الأثيرية على ارتفاعات تصل حتى المائة متر وأكثر، وبالتالي لا يمكن لأي مركبة أن تواجه المركبة الأخرى أو تصطدم بها، فالمركبات تُحَدد مساراتها مسبقاً وهي تسير في ضوء تلك المسارات المتاحة عبر الطرق الأثيرية، فالتصادم لا يقع بينها إلا عند حدوث خلل في أحد تلك المسارات.

الموقع الجغرافي للعاصمة عوبار

وخارج المدن تجد الحقول الواسعة والغابات الكثيفة والمنتزهات الضخمة المليئة بالحيوانات المختلفة من طيور وحيوانات أليفة ووحشية…….فالمنطقة العربية الأساسية، وهي المنطقة التي اختص بسكنها العرب بعد الطوفان تمتد من المحيط الهندي وبحر العرب جنوباً إلى منابع الفرات ودجلة شمالاً ومن جبال الفرس والخليج العربي شرقاً حتى جبال الأطلس والمحيط الأطلسي غرباً مروراً بالنيل العظيم.

وهذه المنطقة خصها الله تعالى باعتدال المناخ ووفرة الأمطار وكثرة الأنهار، فالعاصمة عوبار تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من هذا الوطن العظيم في منطقة تسمى الأحقاف وهي تقع بين جبال اليمن وجبال عمان وتبعد عن المحيط الجنوبي (محيط الهند) وبحرنا (البحر العربي) مسافة لا بأس بها شمالاً تصل لحوالي الـــ 500 كم.

والمنطقة الممتدة من بحر العرب حتى منابع نهر الفرات هي منطقة منظمة زراعياً بحقولها وبساتينها وغاباتها، وكذلك منطقة النيل وسهول المغرب العربي، والفضل في ذلك يعود لنظام توزيع المياه وطريقة الري التي تعتمد على طاقة الأثير، أما الحيوانات البرية فمتروكة تسرح وتمرح على هواها في تلك المناطق، فأينما تسير في طول البلاد وعرضها تجد الأشجار والمياه وكافة أنواع الحيوانات من غزلان وذئاب وأسود ونمور……

فيديو مقال رواية ((عوبار)) بقلم زيد العرفج

 

 

أضف تعليقك هنا