مقدمة في نقد الوعي الشعبي

1/ في البدء:

على منوال قول توفيق الحكيم في كتابه (فن اﻷدب): (شعور الجماعة نحو موقف من المواقف، وقرارها إزاء مسألة من المسائل.. وهذا الشعور وهذا القرار ينبعان فجأة وفي الوقت عينه، كأنهما خارجان من قلب واحد وعقل واحد.. كأنما هذا الرأي العام إذن كائن مستقل، يخلق ويحبو وينمو.. إلى أن يصبح قوة ناضجة محركة موجهة تؤثر في الدولة والمجتمع)، وقوله (من اليسير أن نجد الشعور العام الموحد… ﻷن الشعور العام يصدر عن الضمير، والضمير قلما يختلف بين إنسان وإنسان). فهكذا هو وصف ( الوعي الشعبي) على أقرب تصوير.

2/ نقد الوعي وليس نقد العقل:

ربما نقع في مأزق لفظي ودلالي كبير حينما ننسب النقد إلى عقل فرد ما أو فئة اجتماعية أو عرقية أو حالة اعتقادية على نحو من التخصيص. فنقول مثلاً (نقد العقل العربي) أو (نقد العقل اﻷوروبي) أو (نقد العقل الديني)، فالعقل ما هو إلا أداة فطرية وكان أوثق تعبير في وصفه أنه (أعدل اﻷشياء قسمة بين الناس) وهو قول (رينيه ديكارت)، ولذلك فإن كان التخصيص بالوصف العقلي هذا لازماً بتعيين جملة آثار متميزة لكيان ما، فإن ذلك ليس يكون على العقل وإنما على نتائج العقل ونتائج الفعل به. فما هو خاص إذاً بكيان معين إنما هو جملة نتائج ذاتية ترتبت على مقدمات ذاتية صيغت بآلة أو بأداة العقل لدى هذا الكيان، كما صاغ بها غيره نتائجه على مقدماته. فتكون هذه النتائج والمقدمات هي المعبر عنها بوصف (الوعي)، حيث يصح القول (نقد الوعي كذا أوكذا) أحرى وأولى من (نقد العقل كذا أو كذا)، فالوعي شخصي لمجتمع وفرد بينما العقل مشاع لكل البشر على السواء.

كل هذا الرأي في التمييز بين مفهومي العقل والوعي الدليل عليه هو قواعد علم المنطق الصوري بكاملها. وربما يبين هذا الدليل خطأ (ايمانويل كانط) الفيلسوف الألماني في تصوره لحقيقة العقل بأن فرض له حدود لا يعمل إلا في حيزها على المستوى النظري، وهو في هذا قد خلط بين مفهومي العقل واﻹدراك، حيث أن العقل (بمعنى آليات المنطق الصوري) يعمل على كل الوقائع في كل المستويات سواء الواقعية أو المتخيلة والطبيعية وما فوق الطبيعية. أما الإدراك فهو الفهم لمعطيات أعطاها التفاعل المنطقي وفق معالجات الترتيب والاستقلال.

فالإدراك إذاً هو عملية ذهنية وليست عقلية، إذ أن الذهن يقوم بعمليات الفهم على طريقة القوالب المعرفية ومن ثم اعطاء الدلالات، والفهم هو ادراك المحسوسات، أما العقل فهو العقال الذي يحقق التفاعل والترتيب والاستدلال المنطقي على ما تم فهمه فينتج فهماً جديداً أعلى من الفهم اﻷولي يمكن بما يمكن تسميته (الحكم).. لذلك فكثير من الأساطير والخرافات واﻷحاجي والتصورات الميتافيزيائية تتم معالجتها وفق بناء منطقي سليم في صياغة وقائعها والعلاقات بينها بنفس الطريقة التي يتم بها البناء المنطقي للأشياء في العالم وهذا ربما ما قد ألمح إليه فيلسوف العلم (ثوماس كون) في كتابه (بنية الثورات العلمية) ولكن قد لا يستطيع الفهم اعطاء الدلالة الحقيقية للأساطير وما نحوها ﻷنها لم تدخل إلى الجهاز الادراكي للإنسان عبر آليات الحس التجريبي كما الاشياء الواقعية ولكن التفاعلية العقلية تجعلها متصورة بفعل عمليات القياس والتشبيه والتماثل بين عناصرها ومفردات الاشياء الواقعية، ولكن التهيئة الكلية التي تجتمع فيها هذه العناصر قد لا يكون لها ما يقابلها من تهيئة كلية للأشياء في الواقع ولذلك تصنف كأسطورة أو خرافة أو تصور ميتافيزيائي.

لقد صاغ (أفلاطون) تصوراً منطقيا محكماً عن عالم متكامل تماماً، هو عالم المثل، ولكنه عالم تجريدي مفارق لعالمنا الواقعي إلا أنه بالرغم من هذه المفارق قد جعله (أفلاطون) مهيمناً ومدبراً وذا سلطة عليا على عالمنا الواقعي، بحيث لا يمكن لديه حكم الجمهورية على اﻷرض إلا بقوانين عالم المثل. إذاً ، فاﻹدراك مع البناء العقلي المنطقي مع الفهم هو ما يؤلف (الوعي)، وهذا الوعي هو متلازمة الشعب، ونوع الوعي هو الذي يميز بين شعب وآخر.

3/ جدلية الثابت والمتحول:

ذكر (جيلبرت رايل) Gilbert Ryle في محفل فلسفي حكاية الفلاحين الذين اذهلهم سماع صافرة القطار البخاري وهو يتحرك لأول مرة يشاهدوه فيها ، وكيف أن مطران كنيستهم جمعهم في محاضرة شرح لهم فيها كيف تعمل الآلة البخارية . فقام أحد الفلاحين وقال “نعم سيدي المطران ، نحن قد فهمنا تماماً كل ما قلته عن الآلة البخارية ، وان الحصان صار داخل تلك الآلة يجرها من داخلها، أليس كذلك ؟”. إن هذا الفلاح البسيط لم تيسر له نشأته وبيئته من حوله أن يتصور قط أن تتحرك آلة من غير أن تجرها خيل ، وبالتالي فكل ما قد عناه تطور الآلة البخارية لديه فقط أن الحصان لم يعد يقود القاطرة من الخارج وانما من الداخل ، هذا منتهى ما وصل إليه عقله في الاستدلال، ولعل هذا كان نزوعا طبيعيا لديه ان يميل لقبول ما هو تليد لديه اكثر مما هو وافد، فاكثر الناس يألف ما يأتيه من العالم خارج قريته اذا نظر اليه فقط بمنظور طريقة حياة قريته.

ابتداءً بهذا المثال من قول (رايل)، يمكن التعرف على مفهوم الوعي الشعبي وخصائصه من خلال عرض جدلية (الثابت) و(المتحول) وفق الدلالة المنطقية اﻷولية لكل منهما. حيث أن الثابت منطقيا هو (العلاقة) relation القائمة بين متغيرات وهي المحدد للحكم على القضية التي تشمل هذه المتغيرات كما أنها تحدد شكل القضية التي ترد فيها هذه المتغيرات على وجه العموم، فثابت القضية المنطقية هو اﻷرض التي تتعاقب عليها العوامل والمفردات المتغيرة دون أن تتغير هي، وعلى هذا اﻷساس يمكن هنا تنزيل هذه الدلالة للثابت المنطقي على الصورة التكوينية بالنسبة لما هو شعبي وهو هيئة الشعوب والقبائل. وتفسير ذلك أن كلمة (شعب) وكلمة (قبيلة) تمثل كل منها علاقة ثابتة تجمع وتأطر (متغيرات) variables هم (الأفراد) و(الشخوص) في سمات مشتركة تلزم بالضرورة من يتحدث عنهم تصنيفهم جملةً واحدة بما يميزهم عن غيرهم، وعلى الأغلب يصطلح لذلك التصنيف تسمية عرفية تلصق بالشعب المعين أو القبيلة المعينة.

أما من جهة الاختلاف بين (شعب) و(قبيلة) فيمكن القول انه محض اختلاف كمي اعتباري أو تقديري – فكلما صغرت الوحدة الاجتماعية كلما كانت الروابط والسمات بين أفرادها أشد وأقوى بنحو أقرب إلى الشكل الأسري أو العائلي وبالتالي فإن الفرد في انتمائه إلى شعب أو قبيلة يكون هذا الانتماء حتمياً وضرورياً لا محالة، فليس من إنسان إلا وهو من أب وأم انتهاءً بأبينا الأول آدم عليه السلام الذي هو النبت الأول من طين الأرض مباشرة على نحو ما نجده في مخيال رواية (حي بن يقظان) لدى ابن طفيل، وهذا العود المستديم إلى الأبوة والأمومة هو ما ألف رباط الشعب أو القبيلة على متوالية تراكمية وهذا ما يجعل الفرد حتى وإن نشأ وأقام في بلد غريب ولم تختلط أنسابه هناك يكون موسوماً بوسم قبيلته أو شعبه الأصل الذي قضى به تسلسل الأبوة والأمومة أن يكون كذلك من الناحية التكوينية والمزاجية والآثار التربوية والثقافية المختلفة.

أما المتغير فهو الريح التي تمر على الأرض الواحدة تغدو ولا تعود، ومياه نهر (هيراقليطس) المتجددة إلى ما لا نهاية بين ضفتين ثابتتين. ويمكن أن يشمل ذلك على المستوى الثقافي كل العوامل والعناصر التي تطرأ على الأصول المزاجية والتكوينية لشعب ما. ويمكن هنا اعتماد كلمة (شعب) لتشمل في داخلها مفهوم القبيلة باعتبارها كلمة تدل على دائرة كبرى تتضمن داخلها دائرة صغرى بكون القبيلة حالة من حالات الشعب، والتي وصف جوهرها (توفيق الحكيم) في كتابه (فن الأدب) بقوله (شعور الجماعة نحو موقف من المواقف، وقرارها إزاء مسألة من المسائل.. وهذا الشعور وهذا القرار ينبعان فجأة وفي الوقت عينه، كأنهما خارجان من قلب واحد وعقل واحد.. لكأنما هذا الرأي العام إذن كائن مستقل، يخلق ويحبو وينمو – إلى أن يصبح قوة ناضجة، وحركة موجهة تؤثر في الدولة والمجتمع) ثم يقول (من اليسير أن نجد الشعور العام الموحد… لأن الشعور العام يصدر عن الضمير، والضمير قلما يختلف بين إنسان وإنسان). فهكذا إذاً هي صفة (الوعي الشعبي) على أقرب تصوير.

وعلى هذا الميزان، ووفق منطق أن الضد يظهر حسنه الضد، ففي النقطة التي تبلغ عندها ردة فعل شعب معين على ثقافة وافدة عليهم بما يميز مزاج وتكوين هذا الشعب هي بالضبط النقطة التي عندها يمكن وصف سمة (الوعي الشعبي) لديهم. وهي حالة – أي الوعي الشعبي – تبعد تماماً عن كونها حالة لاوعي وإن بدت في صدورها عن الأشخاص على نحو من التلقائية والاندفاع ما يوحي لأول وهلة أن الذي يتحدث هو اللاوعي أو العقل الباطن وليس الوعي أو العقل الواعي.

ولعل هذا التحديد يبعد فكرة الوعي الشعبي عن نموذج (جوستاف لوبون) في أقواله عن سيكولوجية الجماهير، إذ أنه – أي (لوبون) – كان اقرب في تناوله لوعي الجماهير إلى نوع من البنيوية التي ترهن العناصر المفردة إلى الكل أو الاطار الكلي الى الدرجة التي لا تسمح بالحرية الكافية لهذه العناصر المفردة فتسير بصورة حتمية لا ارادية ولا ادرية تحت هذا الاطار الكلي. وما ذاك على ما يبدو إلا لأن (لوبون) ينطلق ضمنياً من التمييز النفساني بين وعي ولا وعي، في حين أن الفكرة البديلة التي قد تكون أقرب إلى الحقيقة في تفسير أحوال الانسان الادراكية هي تقسيم هذه الأحوال إلى (وعي إرادي) و(وعي لا ارادي) وليس إلى وعي ولاوعي أو إلى عقل باطن وآخر ظاهر، فكل ما يصدر ادراكياً وسلوكياً عن الانسان هو لا يخرج عن مصطلح (الوعي).

فحالة الحلم لدى النائم هي حالة وعي منطقي ولكنه غير ارادي من النائم، وهو لا يفسر بالرجوع إلى رغبات مكبوتة على نحو ما ذهب (سيجموند فرويد) في مدرسة التحليل النفسي، لأن العلاقة السببية بين رغبة معينة ملحة واحداث الأحلام لدى أي شخص في الغالب غير ظاهرة أو ثابتة على النحو المنطقي الاستدلالي في السببية. أما عن حالة (الوعي الارادي) فهو حالة الوعي القصدي التي أسس (ادموند هوسرل) عليها منهجه في الفينومينولوجيا – فهذا الوعي القصدي يركز به الانسان الانتباه نحو موضوع محدد ثم يجري عليه عمليات (العقل الحسابي) reason من استنباط واستقراء، وايضاً يجري عليه عمليات (العقل الانفعالي) mind من ردود الأفعال والتفاعلات النفسية والابداعية. وكلتا العمليتين هما مما يؤلف الحكم على الموضوع كما يؤلف التعبير عن هذا الحكم بقضايا لغوية وعمليات فنية. ويمكن الملاحظة في هذا الحيز فيما يتعلق بالوعي الشعبي أن عمليات العقل الانفعالي فيه هي ما يمثل الثابت، بينما يكون المتحول المصاغ على مقتضى الثابت هو ما ينقلنا بصورة نسقية systematic إلى المبدأ الآخر في تأليف الوعي الشعبي.

4/ تبعية الاعتقاد للميل العاطفي:

(لقد قررت الأقدار مصيرك فلا حاجة بك إلى بذل جهد كبير) مقولة أوردها (هاي روتشيلس) في كتابه (التفكير الواضح) عندما كان يتحدث عن العلم والخرافة. ولقد ظهر من هذا كيف أنه حتى في مناطق التحضر المدني كان الوعي الشعبي دائماً يرجع إلى حالة عاطفية انفعالية (العقل الانفعالي) في أخذ الجماهير لكثير من أمور حياتهم رغماً عن المادية الطاغية التي وسمت حياتهم المدنية، فمثلاً ما الذي يدفع كثير من الناس تحضراً يلمسون الخشب الذي قالت عنه الخرافة القديمة أنه فعل لاسترضاء جنية الغابة التي أصبحت حبيسة قطعة من الاثاث عندما قطعت شجرة للانتفاع بخشبها، وكذلك ما الذي يدفع بعض بناة ناطحات السحاب يسقطون الرقم 13 من حسابهم عندما يرقمون طوابق عماراتهم حيث يرفض الكثيرون العمل في المكاتب التي تقع في الدور الثالث عشر من المبنى، ولماذا راجت صفحات قراءة الطالع ومعرفة البخت في أكبر الصحف وقيد لها أشخاص ذوي رواتب معتبرة للقيام عليها بصورة يومية حتى أصبحت من أهم المواد المحفزة على شراء الصحف. كل هذا وغيره مما يدل على أن حتى الثورة الصناعية التي في سياق عصر النهضة والتنوير في اوروبا والتأسيس الكبير للتفكير الوضعي التجريبي البحت كان بعد كل هذه السنوات من تطبيقه الفعلي يمثل حالة متغيرة في الوعي الاوروبي وافدة عليه وليست نابعة من باطنه أو ثوابته التي عبر عنها الوعي الشعبي الاوروبي منذ اساطير الياذة (هوميروس) وعبورا بمسرحيات (شكسبير) الخيالية بنحو (حلم منتصف ليلة صيف) وصولا الى حياة السحرة في قصص (هاري بوتر)، وبين هذا وذاك وتلك ما هو كثير جدا من حكايات وتصورات ومعتقدات العوالم الخرافية.

فاذاً، الاعتقاد يتبع الميل العاطفي، هذا إذا صح الاستقراء على (الاعتقاد) كمفهوم بأنه حالة انجذاب لطرف كائن نحو طرف معنوي بدافع شعوري ابتداء يتم تبريره بالمنطق العقلي وربما حتى بالاستدلال الرياضي، أي ان الاعتقاد يتغذى على آليات العقل ويتمدد حتى يتجاوز حالة العقل الفردي الى حالة العقل الجمعي. يأتي ذلك مصداقاً لقول (توفيق الحكيم) في كتابه (فن الأدب) (شعور الجماعة نحو موقف من المواقف، وقرارها ازاء مسألة من المسائل.. وهذا الشعور وهذا القرار ينبعان فجأة وفي الوقت عينه، كأنهما خارجان من قلب واحد وعقل واحد.. كأنما هذا الرأي العام اذن كائن مستق، يخلق ويحبو وينمو – الى ان يصبح قوة ناضجة، محركة موجهة تؤثر في الدولة والمجتمع). فهكذا اذن هو وصف (الوعي الشعبي) على اقرب تصوير.. ومازال (الحكيم) يتحدث (من اليسير ان نجد الشعور العام الموحد… لأن الشعور العام يصدر عن الضمير ، والضمير قلما يختلف بين انسان وانسان).

ومن هنا يكون الشاهد في تكوين الضمير الجمعي في حالة القبيلة انها تعتمد في شكلها الاولي على رابطة الدم والعرق المباشر كما في الاسرة او العائلة الواحدة. ولكن تظل القبيلة تتمدد بكثرة تعداد الافراد فيها حتى نكاد نفقد هذا الشكل الاسري او العائلي في مراحل تكوين متقدمة، وهنا – وبعد تجاوز الشكل الاسري للقبيلة – يصبح المحدد الظاهر للانتماء فيها والرابط بين افرادها اكثر الشيء ليس هو رابطة الدم ووحدة العرق وانما حالة الوعي الجمعي المشترك المتمثل في مظاهر الثقافة المحلية التي تشكل وجدان ومزاج هؤلاء الافراد.. وحتى ان القبائل التي مازالت تجتهد في المحافظة على رابطة الدم الاسري رغم تمددها السكاني فانها لا تصطلح على تأكيد النسب على خط الأم مثلما هو واقع في بلاد النوبة شمال السودان وجنوب مصر حيث ينادى الشخص عرفيا بأنه (فلان بن فلانة)، ولعل هذا له وجه اخر فيما اورده (فريدرك انجلز) في كتابه (اصل العائلة) بأن الاساطير الادبية القديمة تحكي عن ان النسب كان يحدد بخط الام وليس خط الاب نسبة لشيوع تعدد الازواج للمرأة الواحدة فيما قبل ما يعرف بالزواج المنظم وحيث لم يكن بدا من ان يتم اثبات وتاكيد النسب للمولود بمرجعه الرحمي وهو امه حيث يكاد يكون الاب مجهولا.

وايضا نجد مثالا آخر لذلك في شجرة نسب السيد المسيح في (الانجيل) اذ كان لا محالة الا ان يحسب هذا النسب من جهة الام وحدها. ولكن في حالة النوبيين فبرغم حفاظهم على الشكل الاسري لقبائلهم كمرتكز حضاري اساسي لهم، إلا انهم لم يسلكوا في ذلك بنحو ما قالته الاساطير القديمة من تعدد ازواج المرأة الواحدة بل على العكس تماما كانت الهيئة الاجتماعية للزواج في قبائل النوبيين تعتمد اكثر الشيء على الزوج الواحد للزوجة الواحدة وحتى تعدد الزوجات للرجل الواحد عندهم هو محض استثناء، ولكن التأكيد على الرابطة الرحمية هي التي تعطي في الاساس الشكل الاسري للمجتمعات هناك وتاكيد الاحتفاظ بهذه الرابطة، ولذلك ان كان مسموحا في القانون العرفي للرجل النوبي ان يتزوج من خارج القبيلة مع كراهة ذلك فيها واجرائه في حدود الضرورة والاستثناء الشديد، فان رواج المرأة من رجل خارج القبيلة يكاد يكون امرا ممنوعا على الاغلب.

إذن، فاصول الوعي الشعبي لدى بعض القبائل مرجعه الاصلي هو الاحتفاظ بحالة التكوين الاسري لها. في حين ان هناك قبائل اخرى قد انفتحت بنحو كبير تجاه الاخرين لم يقاس فيها بالاساس الوعي الشعبي على الشكل الاسري وانما على التجريد للثقافة المحلية وتوارث عادات وتقاليد أي انماط سلوكية مشتركة تميز طريقتهم في الحياة.

5/ من أسفل إلى أعلى:

على ما سلف، فان الوعي الشعبي هو مجموعة الطبائع والامزجة النفسية التي شكلت وجدان فئة من الناس بشكل مشترك وليس بشكل فردي بتأثير العوامل الاطارية المحيطة بهذه الفئة من بيئة مشتركة ومقومات حياة ووسائط اتصالية لغوية محكية وحركية. لذلك كان لابد من منهج ما لأجل تنزيل انماط من المتغيرات المختلفة والمستحدثة على شعب معينبخطاب لا يحدث تناقضا مع ثوابت الوعي لدى هذا الشعب.

فبالعودة الى التاريخ القريب لرأينا (هتلر) قد نجح في استقطاب قلوب وعزائم وتأييد الشعب الالماني لمحاربة العالم اجمع ليس بما فرضه عليهم من نظم صارمة ولكن بجعلهم يتقبلون هذه النظم بنحو تلقائي بأن اخرج من داخلهم بطريقة التوليد السقراطي ما كانوا يتمنونه لانفسهم ووضعه امام اعينهم بخطبه المشتعلة بالحماسة للعرق الاري الرفيع حين كانوا يتمنون ان يكونوا هم بالفعل الشعب المتفوق ذو العرق الرفيع الاعلى فوق شعوب العالم، لذلك سمعوا له واطاعوا فيما اتاهم به من أمر جديد فالحقوا حتى فتيانهم لخدمة (هتلر) والنازية عبر الانضواء تحت (الشبيبة الهتلرية). ولكن في مقابل ذلك عندما فطنت بريطانيا العظمى متأخرا انه لكي تكسب اراضيها الجديدة في افريقيا واستراليا ان من الضروري ان لا تسقط .على شعوب هذه الاراضي الشكل والنموذج الاجتماعي الاقتصادي من اعلى الى اسفل وانما لابد ان تستنبطه من اسفل الى اعلى بحسب طبيعة كل شعب من شعوب هذه الاراضي، كان الاوان فد فات وفقدت اغلب مستعمراتها في الشرق وافريقيا، فطريقة الحياة المخصوصة لدى اي شعب هي ما يحدد الشكل النموذجي للرسم الاجتماعي والاقتصادي الملائم لها. ولكي يمكن تحقيق هذا النموذج والتأثير فيه لابد ان ياتي الامر بمعايشة مباشرة لداخل طرق الحياة ومجرياتها وتصرفاتها وليس مجرد النظر اليها من خارجها.

ولهذا المنهج ايضا جانبه الخطير اذا اخذناه من زاوية اخرى، فنجاح مأساة شعوب اوروبا في عصور الظلام كانت بسبب هذا المنهج وإعماله على احدى ثوابت الوعي الاوروبي الشعبي انذاك وهو ليس ثابت الدين بذاته وانما ثابت العاطفة الدينية او الشعور الديني والانفعال الوجداني به في قلوب وعقول تلك الشعوب، ولكن بدون فهم منطقي وفقهي كاف لاحكام ومقاصد الرسالة الدينية وهذا ما اعطى الفرصة لبعض رجال الدين للسيطرة على هذه الشعوب بقيادتهم من خطام هذه العاطفة الدينية غير المرشدة بعلم، وايضا باستعمال رجال السياسة والملوك في تحقيق هذه السيطرة. وما كان هذا الا حين صدقت تلك الشعوب اولئك الرجال في ادعائهم بالتفويض بالحق الالهي وانهم اوصياء الكتاب المقدس وانهم في الاخير آخذي الاعترافات ومانحي صكوك الغفران.
ثم قد تكرر سيناريو حكم الناس بعواطفهم الدينية غير المرشدة بالعلم الحقيقي في مجتمعات مختلفة قديمة ومعاصرة وعلى ديانات متعددة، ولكن ظل مبدأ التسلط والاستغلال باسم الدين واحدا في كل الاحوال.

لكن الوجه الايجابي لهذا الامر، ان التغيير والغاء هذا التسلط كان يتم ايضا من خلال تحريك ثوابت الوعي ايضا ليس بتجاوز المسأل الدينية جملة وانما بتوجيه رشيد لنفس تلك العاطفة الدينية. وليس الامر متعلق فقط وانما حتى على المستوى الاجتماعي تأتي الازم باستلاف اشكال التدين اكثر الشيء بنوع من التكلف بالمحاكاة والتقليد وليس ان يأتي طبعا وسجية، فمن الشعوب فمن الشعوب ما تقبل التدين بحقائق العلم ومنها ما تقبله بنوع من التفكير الاسطوري او الخرافي لطبع فيهم على النزوع نحو التخيل والتأمل على ما يند عن الواقع.

6/ الرسالة:

الرسالة المستخلصة من كل ما ذكر، هي ان وعي الشعب لابد أن يتم التأثير فيه بأمر ما من داخله الخاص وليس بفرض هذا الأمر من خارجه ومن نموذج ثقافي مغاير لثقافته المحلية. وذلك بحيث يكون التغيير المتقادم لهذا الوعي لا يمثل انحرافا عن المسار الطبيعي لهذا الوعي الشعبي وانما يكون نموا وتطورا على ذات السياق الطبيعي لهذا الوعي ولن يتحقق ذلك دون ان يخلق حوله أزمات اجتماعية وسياسية إلا برعاية ودراسة واعتبار ما هو ثابت في هذا الوعي الشعبي المعين وما هو متغير ويظهر كلاهما في طريق الحياة لعامة الشعب.

ومن هذا المنتهى تنطلق المطالبة بمزيد من الحفاظ على اشكال وطرق الحياة كما هي عليه، وهذا لا يكون الا بمزيد من انتماء حقيقى صادق للافراد والاشخاص نحو قبائلهم وشعوبهم تماما كما انتمائهم لاسرهم. والفرق هنا بين هذه الدعوة للانتماء الى الشعب المحلي والقبيلة وبين الدعوة للشعوبية والقومية والجهوية، هو ان دعوتنا تنافي فكرة التفوق العرقي لعرق على عرق او لقبيلة على قبيلة وهيمنة شعب على شعب وتسلط قومية على قومية او علو ثقافة على ثقافة. فالدعوة هنا للحفاظ على الذات دون تفضلها او تفضيلها بميزات على ذوات اخرى، فالكل هناك قائم سواء في هذا العالم، ولعل هذا هو سبيل السلم العالمي وضمان حقوق الانسان، فانت لا تتميز وانما تشارك بهويتك وطريقة حياتك في كل العالم تماما كما يشارك الاخرون، وهذا ما يوصلنا الى تحقيق قول الله تعالى (وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا). انتهى

د/ وائل أحمد خليل الكردي

فيديو مقال مقدمة في نقد الوعي الشعبي

 

أضف تعليقك هنا