إحياء اللغة

هل لإحياء العربية من سبيل؟

في الطريق إلى القدس مرورا بتلك البقاع المباركة المحتلة، حيث تضطرب الأحاسيس والمشاعر ويوقد الشوق نار لقرب اللقاء بالقبلة الأولى، وفي وسط كل هذا الكم من الأفكار والمشاعر، يندهش المرء فجأة لما يرى! صحراء خضراء غطتها سجادة منسوجة بأجمل أشجار النخيل من أجود الأصناف بنسق وكأنه بنيان عتيد قد انتظمت كل لبناته بأجمل أشكال الهندسة! ولا غرابة أن ذلك الجهد المبذول وكل تلك الأموال الطائلة والخبرات لن تنتج إلا بأفضل وأجود أنواع التمور، بجودة لا تجدها ولا في بلاد كانتيوما منشأة للنخيل! ووسط هذا الذهول، والتعجب والإعجاب، يبرز شيء آخر لا يقل في الإتقان مقارنة بما سبق من وصف في صبغ الصحراء باللون الأخضر، ألا وهو مستوى ارتفاع تلك النخلات، حيث هُذبت وطورت جيناتها لكي تكون بارتفاع مناسب كيما تطوله يد المرء متوسط الطول! تهذيبها بهذا الشكل يجعلها سهلة المنال وسهلة القطف وأقرب للعين للتشخيص وعلى اليد للتلقيح والعلاج، مقارنة بالنخيل الأصيل، الشامخات، الباسقات اللاتي يصعبن على الناس تسلقها وقطف ثمرها، وكأنها الثريا صعبة المنال في السماء!

القوم زرعوا الصحاري وقطفوا الثمار وجنو الحصاد، وأنا مازلت لم أبرح دهشتي لا سيما حين تذكرت الباسقات بلون الفحم بلا روؤس وقد أعياها الإهمال والعطش وجور الحروب في بلاد تكاد تمسي بلا نهرين! ثم وكأني مسحور أو بالأحرى مسكور أخذتني هوة الدهشة لما هو أعمق!

كيف تم إحياء اللغة العبرية؟

فإن كان زرع الصحراء مدهشا لي وهو بالأمر الممكن فكيف بإحياء العظام وقد غدت بمنزلة الرميم وأقرب للتراب منها للأجساد حتى اندثرت لعشرات بل مئات العقود! ولا أتكلم هنا عن الخلق الالهي ولا أتكلم عن العظام بل عن حي من الماضي قد وأرى التراب بمنزلة الأموات لكنه بُعِثَ من جديد! إنه أشبه بزرع الصحراء أشجار خضراء يستظل بها الركبان والراجلون، إنها اللغة القومية الجامعة، العبرية! حيث جمعت الأشلاء من كل صوب وحدب، وبعثت الحياة في ذلك الرميم الذي كاد أن يندثر إلى هوة السابق والماضي.

اقتصرت العبرية على الكهنة والطقوس الدينية حتى أن المسيح عليه السلام تكلم بالآرامية لأنها كانت هي اللغة الدارجة وهي لسان العامة ممن حوله أن ذلك، وبعد ذلك كتب الإنجيل باليونانية لأنها لغة العلم والثقافة حينها، فأصبحت العبرية لغة توراتية، بل وبعد مضي قرون وبعد الشتات تكلم اليهود بلغات عبرية لكنها مختلفة لأنها أصبحت خليط من قديم وجديد من ماضي وحاضر تلك البلاد التي سكنوها قرونا فصارت لغتها لغتهم الأم.

وفي فلسطين بدأ اليهود عملية إنقاذ منذ مطلع القرن العشرين ولم تكن مهمة سهلة فكانت اللغة المحكية لا تمت بصلة للمكتوبة إضافة لتعدد اللغات العبرية، ويوم النكبة عام ١٩٤٨ كان ما يقرب أربعة أخماسهم يتكلمها ولم تدخل الأدب إلا في النصف الثاني ثم توالت الهجرات فصارت هي اللغة الأم الأولى لدى أبناء المهاجرين فدخلت في كل مجالات الحياة من علوم وآداب وتجارة. ومثال آخر على الإحياء هو ما ابتدعته فرنسا بما يعرف برابطة الدول الفرنكوفونية أي الناطقة بالفرنسية.

اللغة جزء من هوية الفرد

فاللغة ليست فقط وسيلة لتجسيد الافكار وللتواصل، فحتى الاطفال الصغار يتواصلون مع من حولهم ببضع كلمات وإشارات ولو كان المراد التواصل ليس إلا لما احتاج المرء منا إلى تعلم أكثر من بضع كلمات وإشارات. إلا أن الطفل يتلقى اللغة الأم بفطرته مثلما يتعلم الأكل والشرب والمشي، حتى تصبح جزءا أصيلا من هويته بل وتشكل ذاكرته طويلة الأمد. وأبعد من ذلك بل وأهم وأخطر هو أن اللغة تمثل الانتماء الفرد منا إلى الجماعة من العائلة إلى الدولة كهوية مشتركة.

وعودة للمثال اعلاه وتجربة فرنسا في احياء وانعاش الفرنسية في ستينيات القرن الماضي بخطط علمية ومؤتمرات دعوا فيها إلى تشكيل مؤسسات لحمايتها في مناطق النفوذ اللغة الفرنسية لانها وعاء للثقافة الفرنسية لا سيما بعد إن حُسرَ نفوذها في مستعمراتها السابقة.

اللغة وعاء الثقافة

أجمل وأعمق وأدق وصف قرأته يوما هو الذي يصف اللغة ب: (اللغة وعاء الثقافة). فحال الدول الفرنكوفونية كمزارعين لهم أرض خصبة قام أحد ملاك الآلة والبذور بمنحهم كل ما يحتاجون لزرع أرضهم، لكن بشرط واحد! أن يستخدموا بذوره التي هو أختار بدعوى الفائدة عامة! نعم اللغة وعاء الثقافة، وهي الهوية بل وهي أعمق من ذلك فهي شخصية الفرد منا! واليك دليل: قام أحد أخصائي علم النفس في ولاية كليفورنيا في الولايات المتحدة الامريكيه بتجربة لدراسة الشخصية لمن هم ثنائي اللسان وما أكثرهم في تلك الولاية القريبة من المكسيك الناطقة بالإسبانية. لاحظ الباحث أن هؤلاء تختلف طباعهم اللحظية والمزاج باختلاف اللغات.  ولتقريب نتاج التجربة للتصور أذكر تجربتي مع اللغة السويدية. في ضرف أجد نفسي فيه قد توترت أكون أكثر حدة في المزاج وأعلى صوتا وأكثر تشنجا لو تكلمت وفكرت بالعربية مني لو كنت أتكلم بالسويدية.

إهمال اللغة العربية والابتعاد عنها

وأكثر ما يؤلم أن نرى أهل الضاد لا يتعهدون لغتهم بالرعاية، بل الأَمَرُ والأنكى انهم يلجئون للغات حديثة آخرى ظنا منهم أنها تسد الفجوة والجفوة بينهم وبين لغتهم وهويتهم! فالعربية بجذورها الضاربة في عمق التاريخ وتطورها بفروعها التي تشابكت وسوقها التي عانقت كبدت السماء تشعبت وأصبحت كغابة امازون يتيه المرء إذا دخلها وهي تكاد تحجب أشعة الشمس لكثافتها، يقف بعض من أبنائها أماما عاجزين وهم واهمين يظنون أن الحل هو حرق تلك الغابة أو اقتلاع جذورها أو الهرب منها!

كيف يتم إحياء اللغة العربية من جديد؟

إلا أن الحل فيها ومنها وهو تهذيبها حتى نسلك طريق سهلا من خلالها صوب الشمس، هذا رأي لي ولا أدري كيف فلست ستهذب فلست إلا متسلق بين أغصانها أخشى السقوط! لكني متيقن علم اليقين أنها لن تندثر ما دام لها وعاء خالد بين دفتي كتاب منزل، حتى يأتي يوم سيهجر القوم فيه الكتاب الوعاء، حينها فإن سلمتْ عاشت بعزٍّ وإن تـمُـت إلى حيث ألقت رحلهـا أم قـشـعـم، ومن يرى بعث العربية شبه مستحيل أقول أحياء العبرية كان معجزة، وهي بعد اندثار لغة قومية تشمل كل مجالات الحياة، إلا ان انبعاث الروح فيها كان بعد تهذيبها كما هذبت سيقان النخل وهجنت فلربما (ولست بخبير) هذبت وقلمت تشعبات وتشابكات العربية لتكون سلسة، سهلة المنال من جديد! كبستان نخل يسر الناظرين وتنالها يدي المريدين تقطف ثمارها من مل صوب وفي مل كل حين!

فيديو مقال إحياء اللغة

أضف تعليقك هنا