كيف أبدع فلوبير رائعته “مدام بوفاري”؟

رواية مدام بوفاري ما بين الترحيب والتنديد

شكل صدور رواية مدام بوفاري سنة 1856 للأديب الفرنسي غوستاف فلوبير حدثاً أدبياً بكل المقاييس. سواء من حيث المنعطف الذي دشنه بالقطيعة مع الحركة الرومانسية السائدة، أو من حيث ردود الأفعال التي تراوحت بين الترحيب والتنديد، لتنتهي بالمحاكمة.

كان القرن التاسع عشر قرن الرواية العظيمة، ففيه تفجرت المواهب في كافة الاتجاهات، بين الفانتازيا والرومانسية القائمة على تمجيد الذات واللذات، ثم الخيال العلمي وقصص الرعب. وحتى تكتمل الدائرة كان لابد أن يتطور شكل للكتابة يدور حول ما يحدث لنا في الحياة فعلا. فما يحدث في كل زمان يشكل في الحقيقة مادة خصبة لكتابة عشرات الروايات، والسؤال المتبقي هو: كيف نكتبه؟

ما النمط الذي اتبعه الأديب الفرنسي فلوبير في كتاباته؟ 

إن الكتابة عن الحياة والواقع ليست مجرد سرد للأحداث أو ادعاء تصوير الأشخاص على حقيقتهم، لأن الأمر يتطلب قدرة على الخلق الفني وتنسيق مجمل تصورات الكاتب عن الحياة الإنسانية. لذا قبل أن يشرع فلوبير في كتابة رائعته “مدام بوفاري” كان قد بذل سعيا حثيثا لمحاولة إبداع قصة عاطفية من طراز جديد، وإيجاد موطئ قدم داخل المدرسة الرومانسية التي ضمت آنذاك عباقرة أبرزهم فكتور هوغو، غير أنه قرر العدول عن ذلك عملاً بنصيحة صديقه الناقد بوليه، الذي قذف بمخطوطة قصة “البائسون” من النافذة صائحا:” -دعها لجامعي القمامة فإنها لا تصلح حتى لهذا. يجب أن تعدل تماما عن كتابة أي موضوع غامض ليس في ذهنك صورة واضحة عنه. ألم تدرك يا غوستاف أنك عاشق للحوار العاطفي ذي الطابع الغنائي؟ يجب أن تعدل عن هذا اللون على الفور. خذ موضوعا من الواقع، من الأحداث التي تقع لكافة الطبقات الاجتماعية، ثم اكتب دون تكلف!

إن مشكلة أغلب أدبائنا الشباب أنهم ينظرون بعين الريبة لهذا النمط من النقد القاسي. البعض يعتبره تضييقا على حرية الخلق والإبداع، في حين يعدُه آخرون سلطوية تسعى للحفاظ على الوضع الراهن، والإبقاء على أقلام معدودة في الواجهة. لكن من حسن حظ فلوبير أنه حظي بمثل هذا الناقد ، فحديثه عن الكتابة دون تكلف هو برأيي شعلة فجرت مكنونات الإبداع لدى فلوبير، حين قرر أن يجعل من الأحداث التي جرت بقريته موضوعا لعمل أدبي واقعي.

من أين استمد الأديب الفرنسي فلوبير فكرة روايته مدام بوفاري ؟

في سنة 1936 صدر كتاب بعنوان ” مدام بوفاري، كتابات أولية ومقاطع غير منشورة” لصاحب مكتبة اسمه غابرييل لولو، كانت بحوزته مسودات تكشف جوهر العمل الأدبي الذي اشتغل عليه فلوبير. ولعل أهم ما نستخلصه من مخطوطات أي عمل ادبي خالد هو أن الأفكار العظيمة لا تنشأ من فراغ، وإنما تمد جذورها العميقة في أرض الحقيقة. ففي بيته المتواضع بالريف الفرنسي كان فلوبير يتابع عن كثب وقائع حياة طائشة للسيدة ديلفين زوجة الدكتور جورج ديلمار. فتاة برجوازية مولعة بالقصص العاطفية، تدفعها حياة الريف المملة إلى الخيانة ثم الانهيار الداخلي فالخيانة.وفي مذكراته كشف فلوبير عن معرفته الدقيقة بالسيدة، وحرصه منذ الوهلة الأولى على أن تكون بطلة لرواية سيكتبها. وقد نجح صديقه الناقد في تحريره من التردد والخوف من الوقوع تحت طائلة القانون بتهمة التشهير.

لم يكن الأمر هَينا على أية حال كما يصف ذلك في رسالة لصديقته الكاتبة جورج صاند:” – أنت لا تعرفين ما معنى أن يمسك المرء طوال يوم كامل رأسه بين يديه، ويعصر دماغه من أجل كلمة واحدة. بالنسبة لك تدفق الفكرة عريضة، مستمرة كالفيضان. أما لي أنا، فإنها قطرات شحيحة. علي أن أبني سدا كبيرا لأنتج منه شلالا. آه، لشد ما عرفتُ تباريح الأسلوب”.

التحديات التي واجهت الكاتب فلوبير عند كتابة ونشر رواية مدام بوفاري

ورغم مشقة الكتابة إلا أن فلوبير تمكن من إنهاء روايته، وكشف فيها عن ملاحظات تتسم بالدقة والعمق، وتحليل فريد لشخصية “إيما بوفاري“، تلك الخائنة التي حققت له الريادة و الشهرة. لكن العقبات لم تنته بعد، حيث اشترط الناشرون تجريد القصة من واقعيتها، بإضفاء مزيد من اللمسات العاطفية على الأحداث، وتكليف لجنة مختصة بتنقيح الأسلوب و التخفيف من جرعة التحرر. لذا قرر فلوبير نشرها على حلقات في مجلة أسبوعية، غير أن الحلقة الأولى قوبلت برفض شديد من طرف الامبراطور نابليون الثالث، الذي مزق عدد المجلة وهدد بإغلاقها. وحين يبدع الكاتب فإنه يهز بالضرورة أركان وضع سائد، ويأبى الاستسلام لقواعد متعارف عليها حتى وإن كانت خالية من الحس والمنطق. وفي حالة فلوبير فإن الأمر كان يقتضي محاكمة بتهمة إفساد الأخلاق والتهجم على تقاليد الأسر الشريفة!

آراء بعض الأدباء حول كتابات فلوبير 

عبّر الشاعر لامارتين، رغم عدائه لفلوبير، عن رفضه لهذه المحاكمة التي ليست سوى إهانة لشرف الأدب، وتحامل غير مبرر على رواية ستصبح يوما ما حجر الزاوية في الأدب العالمي الحديث. وصرَّح مارسيل بروست بأن فلوبير هو والد الرواية الحديثة، وأن الأدباء مدينون له. لقد شعر الجميع بأن فلوبير عَكَس بجرأة ذاك السأم من زيف العالم الرومانسي الذي يخفي آلام الحاضر ومشاكله، وعرض الحقيقة بأسلوب خال من التجميل اللفظي. وبفضل جرأته تحولت برجوازية عصره إلى “بوفارية” تتصف بخداع الواقع و النفس، وتلهث خلف المشاعر الخيالية هروبا من قبح العالم وآلامه.

أمضى فلوبير خمس سنوات من الجهد الشاق ليؤلف قصته، وليبرهن على أن الواقعية ليست سردا ممسوخا أو تصويرا فوتوغرافيا بقدر ما هي خَلق فني لمجتمع يتحرك في لحظة ما من الحياة اليومية، وبأشخاصه العاديين جدا. أما وظيفة الكاتب فهي دقة الوصف، وانتقاء الجمل التي تحدث الأثر المطلوب لدى القارئ.

فيديو مقال كيف أبدع فلوبير رائعته “مدام بوفاري”؟

 

أضف تعليقك هنا