الحكاية الشعبية ودورها في الأنثروبولوجيا

المقدمة:

في خضم العولمة التي اجتاحت حياتنا الثقافية والاجتماعية والاقتصادية فإننا قد تناسينا أن التراث موشوم على أجسادنا، عالق بأذهاننا، منقوش على جدراننا، مكبوت في لا وعينا. لا يتعلق الأمر هنا بالمقابلة المعهودة بين الثقافة العالمة وما يدعى الثقافة الشعبية ولا بثقافة مركزية وأخرى هامشية، وإنما بمختلف الشواهد التي تجعلنا نعيش الماضي ممتداً في الحاضر متطلعاً إلى المستقبل.

بما أن الأنثروبولوجيا تهتم بدراسة الإنسان، فلا بد من التطرق إلى ظواهره الثقافية وبيئته، وهذا ما يدفعنا إلى ضرورة التعرف على تراثه الشعبي الذي يعد قاعدة وبنية تحتية يرتكز عليها فكره، كما أن التراث يؤدي دوراً بالغ الأهمية يتمثل في تصوير هموم الانسان ومعاناته من القهر والاضطهاد والألم والظلم والنقصان، فتتجسد كل هذه المشاكل في الأمثال والحكايات والشعر الشعبي التي تتناقل شفاهاً جيلاً بعد جيل.

وأهم ميزة يتسم بها التراث الشعبي هو ملازمته للحياة الجمعية، فالتراث ملازم للحياة الجمعية بما يعنيه التراث من تعبير الأفراد عن وجوههم في جماعة، ومن تعبير الجماعة عن حضورها في الكون، ولا يقتصر إذا على الأشكال الشعبية والمضمونات الأسطورية، بل هو واقع فكري حي يوفر غذاء العلاقات الجمعية ولا يعد له أمر من أمور الحياة الاجتماعية في تثبيت الهوية وإتمام التلاحم الشعبي، وبذلك التلاحم الشعبي والتضافر الجمعي ما يعرف بالعلاقات الاجتماعية والروابط الثقافية والفكرية التي ترسخ هوية المجتمع وتثبت وجوده وتعبر عن نمطية تفكيره، كما أنه يعكس بصورة جلية حياة الجماهير الواسعة وأحاسيسها وأمانيها التي تعبر عنها بحكاياتها ورقصاتها وأغانيها، فكما أن للفن بصورة عامة وبأشكاله الأدبية والمسرحية والتعبيرية وظيفته الاجتماعية، فإن للتراث الشعبي نفس الوظيفة ونفس الغاية.

فالتراث الشعبي إذاً مادة حية صادرة عن الشعب، يعبر من خلالها عن مشاعره وعاداته وتقاليده بشكل عفوي، كما أنه ليس محصلة عصر واحد، أو مجرد أثار ومخلفات متحجرة نتجت عن الماضي، وإنما قاومت مرور العصور واستمرت على الرغم من كل التغيرات التي مستها، فهو التاريخ الحقيقي الذي يصور لنا أحداث الحياة الإنسانية من خلال الأغاني والقصص الشعبية والسير والملاحم، وهذا ما يبرز بأن جذوره ضاربة في أعماق الجماهير.

لذا فإن الباحث الأنثروبولوجي الفولكلوري يحمل على عاتقه مسؤولية عظيمة باعتباره مرسخاً للتاريخ التراثي ومدافعاً عنه من كل ما قد يشوبه من زيف أثناء التغيرات التي تمسه بمرور الأزمنة، لذا يجب أن يكون حذراً أثناء البحث في التراث كالحكايات التي شابها التغيير عبر العصور، خاصة الحكاية التاريخية التي يجب أن تنقل بحذافيرها، ونظرا لهذا الدور الكبير الذي يقوم به الباحث الانثروبولوجي الفولكلوري يلزمه أن يكون من ذات المجتمع الذي يقوم بالبحث فيه معايشاً لأفكاره، وعارفاً بلهجاته، ومتلاحماً مع خصوصيات الحياة الجمعية التي تسوده، وهذا شرط أساسي في الباحث الأنثروبولوجي الفولكلوري.

أولاً: الإطار المنهجي للبحث:

تحديد مشكلة البحث:

تكمن مشكلة البحث في تحديد مصطلح للحكاية الشعبية في فوضى المصطلحات التي تتداخل مع بعضها.

أهمية البحث:

تتمثَّل أهمية البحث، بأنه يتناول الحكاية الشعبية والتي تعد جزءٌ من معتقدات الشعوب وثقافاتهم وعاداتهم، ابتدعها الخيال الشعبـي، للتعبير عن حكمته وتجربته في تصوير أحداث الحياة، وأساليب المعيشة، كما تعدُّ وسيلة فعالة -إذا أُحسن اختيارها-في إثراء اللغة المحلية، وتنمية الإحساس بالجمال، وأداة جيدة لغرس القيم الثقافية المناسبة وترسيخها، وتأصيل العلاقات الاجتماعية الإيجابية، والمحافظة على الموروث الجماعي، ونقله إلى الأجيال، إضافة إلى دورها في الإمتاع والتسلية والترفيه.

أهداف البحث:

يهدف البحث من خلال تناول الحكاية الشعبية إلى تحقيق أهداف تربوية تعليمية ونفسية واجتماعية عدّة، إذ تؤدي دوراً هاماً في تأمين خبرات حياتية مختلفة، مصاغة في بناء قصصي محكم، زاخر بالعبر والقيم، أضفى عليها الإنسان الكثير من الخيال والسحر والجاذبية.

الدراسات السابقة:

  • عبد الحميد يونس، الحكاية الشعبية
  • خضير عبد الأمير، دراسات في انثروبولوجيا الشعب
  • نبيلة إبراهيم، اشكال التعبير في الادب الشعبي

المفاهيم والمصطلحات:

لا بد لنا من فهم واضح لما تعنيه الحكاية الشعبية ولأهم الخـصائص التـي تميزها عن غيرها من ألوان الأدب ومن ثم لابد لنا من بيان لأنواعها، فالحكاية الشعبية في إحدى تعريفاتها هي “شكل تعبيري ينسجه الخيال الشعبي حـول حدث مهم لها شيوع وذائعة الصيت في كل المجتمعات وفي كل الأمكنة والأزمنـة، قد يكون بعضها بسيط ببساطة المجتمع وبعضها قد يكون معقد والعامل المشترك بـين البساطة والتعقيد هو وجود الراوي والمتلقي”.

الحكاية الخرافية: الحكاية الخرافية هي حكاية سردية قصيرة تنتمي صراحة إلى عالم الوهم من خلال اللجوء إلى الشخصيات الخيالية، والقبول بما يخالف الطبيعة «الخوارق»، وتصوير العالم غير الواقعي (الشعري، الفنتازي، الأسطوري، الخرافي)، والتقييد بالتصورات الموروثة.

المضامين الانثروبولوجية: الأنثروبولوجيا هو مُصطلح مُشتق من كلمتين يونانيتين هما: أنثروبوس وتعني الإنسان، ولوغوس، وتعني الدراسة، وبذلك يكون معنى الأنثروبولوجيا هو دراسة الإنسان، أو علم الإنسان، ويدرس هذا العلم البشر بماضيهم وحاضرهم ليفهم الكيانات الهائلة والمعقدة من الثقافات عبر التاريخ، وتُبنى الأنثروبولوجيا، وتتحرك على القواعد المعرفية التي تقوم عليها العلوم البيولوجية والاجتماعية.

التحليل المورفولوجي: تتكون كلمة المورفولوجيا الاجتماعية Morphologie sociale من كلمة (Morphe) التي تدل على البنية أو الشكل أو الصيغة أو الصورة أو الهيئة أو الحالة؛ وكلمة (Logie/ Logos) التي تعني علم أو دراسة أو لغة. ومن ثم، تعني كلمة المورفولوجيا العلم الذي يدرس بنية الكائنات الحية أو شكلها أو صورتها العضوية، ومن هنا فتعريفها الاصطلاحي: هو العلم الذي يدرس شكل الكائنات الحية وتكويناتها وصورها وأشكال أجسادها ومساحتها ونسب أعضائها وبنيتها الداخلية، وهذا كله من أجل التمييز بين السلالات والأجناس والأعراق والشعوب ضمن علم الأنتروبولوجيا.

ثانياً: الإطار النظري للبحث:

مصطلح الحكاية الشعبية: تعتبر الحكاية الشعبية شكل من أشكال التعبير الشعبي، حيث تحفل بمواضيع عديدة ومتنوعة تمس أحداث الحياة الإنسانية وخبرتها عبر مراحل التاريخ، فالحكاية الشعبية ليست نابعة من الدين أو الطقوس والمعتقدات التي يمارسها السحرة، وإنما هي ابنة التجارب والأحداث وتبقى كنماذج حية يعمل بها جيل إلى جيل. ونظرا لاتساع عالم الحكاية الشعبية وتنوع موضوعاتها فتحديد تعريفاً جامعاً وشاملاً لها ليس أمراً سهلاً، حيث أنه لا يمكن اعتبار أي انتاج قصصي شعبي مكتمل يطلق عليه حكاية شعبية، لأن الأدب الشعبي له عدة أشكال للتعبير كالنكتة والقصة.

الحكاية الشعبية لغويا: الحكاية (حكى) كقولك حكيت فلاناً وحاكيته، أي فعلت مثل فعله، أو قلت مثل قوله.
المعنى الاصطلاحي للحكاية الشعبية: فهي عبارة عن تصور للحياة الإنسانية بمختلف جوانبها الاجتماعية والسياسية والنفسية، باعتمادها على الخيال الشعبي الذي يضفي عليه جمالاً ووضوحاً باعتباره قريب من الشعب ومسايراً لعقليته وأحلامه، وقد عَرّفَت المعاجم الإنكليزية مصطلح الحكاية الشعبية بأنه: حكاية يصدقها الشعب بوصفها حقيقة، وهي تتطور مع العصور وتتداول شفهياً، كما أنها قد تختص بالحوادث التاريخية الصرف، أو الأبطال الذين يصنعون التاريخ.

أما المعاجم الألمانية فعَرّفَتها بأنها: الخبر الذي يتصل بحدث قديم ينتقل عن طريق الرواية الشفهية عن جيل اخر، أو هي خلق حر للخيال الشعبي ينسجه حول حوادث مهمة وشخوص ومواقع تاريخية.

فنلاحظ من خلال هذين التعريفين أنهما يشتركان في أن الحكاية الشعبية تدور حول حدث مهم وتعتمد على الخيال الشعبي في تطورات أحداثها، حيث يستمتع الشعب لسماعها لدرجة أنه يتناقلها جيلاً بعد أخر برغم أنها تتسم بالشفهية، وأهم ما يشغل الشعب ويشد أسماعه هو الحدث المهم الذي تبنى عليه الحكاية الشعبية ذلك الحدث الذي يهم الشعب بوصفه وحدة واحدة، سواء تمثله الشعبية في نطاق ضيق كالأسرة أو القبيلة، أو في نطاق واسع يشمل الشعب بأسره.

طبيعة الحكاية الشعبية:

أهم ما تميزت به الحكاية الشعبية هو اتصافها بالشفوية باعتبار أن الانسان كان يمتلك في نطقه أداة وحيدة لتسجيل الحوادث التي شاهدها أو عاشها في حياته البدائية، فأضحت الرواية الشفوية صفة ملازمة للحكايات الشعبية المتسمة بالمرونة وسرعة الانتقال مباشرة من الفم إلى الأذن، وهذا ما يزيد المستمع اقناعاً من خلال ملامح الوجه والإيماءات والأساليب التي يقوم بها الراوي، فالحكاية الشعبية ليست ملكاً لمجموعة خاصة من البشر، وليست منسوبة إلى شخص معين، وإنما هي شفهية، مجهولة المؤلف، عريقة ضاربة في القدم، وجدت بوجود الإنسان، كما أنها تتسم بعمرها الطويل على الرغم من كل التغيرات التي تشوبها، إلا أن يدوم تناقلها على مر العصور لاتصافها بسمات عديدة مستميلة للإنسان كمضامينها الانثروبولوجية التي تمس آلام وأحلام الشعب، وتصف مآل الطغاة وتعرض المصير الحتمي للأشرار، وهذا ما يجد فيه المتلقي راحة واطمئنان خاصة وأن عالم الحكاية خليط من الإنس والجان والحيوان، حيث تبنى في البداية على إيقاع تفصيلي هادئ يعرف أشخاص الحكاية ويدرج صفاتهم وميزاتهم وغالبا ما تبدأ عبارات افتتاحية تدل على عراقة الحكاية وقدمها مثل: كان يا مكان في قديم العصر والزمان،  كان يا مكان فعل ماضي، “كان” دال على ان الحكاية الشعبية جرت في زمن قد مضى، وليس الفعل الماضي إلا تاريخياَ شعبياَ يستذكر من خلال حكاية أو حادثة، والماضي بمعناه الأشمل استمرار رغم قدمه فهو حاضر فيما نرويه وإن كان معزولاً ب ” كان يا مكان “، ثم تبدأ الأحداث بالتفاقم والتصعيد والتوتر المتمثل في المشاكل العويصة والعقبات التي تعترض سبيل البطل أثناء قيامه بمهمة ما بغية إدراك هدفه، وقد يكون البطل شابا يافعا، أو بطلا تاريخيا، أو فتى، أو طفلاً صغيرا.

كما قد يكون الحدث الذي تدور حوله الحكاية اجتماعياً، أو سياسياً، أو تاريخياً، أو نفسياً، ومهما كانت طبيعة البطل وماهية الحدث فالحكاية تصور صراعاً بين الخير والشر، بين الاخلاق الحميدة والأخلاق السيئة، بين الرذيلة والفضيلة، بين الحق والباطل، وغالبا ما تكون النهاية سعيدة ينتصر فيها الخير على الشر، وعلى هذا الشكل تتعاقب وتتكامل الأحداث التي يهرب إليها الإنسان من عالم الواقع على عالم الخيال.

أصول الحكاية الشعبية:

تعني الأسطورة لغة: هي واحدة الأساطير وهي ما سطره الأولون، والأساطير تعتبر أحاديث لا نظام لها، حيث يقولون للرجل إذا أخطأ: أسطر فلان اليوم، والأسطار هي الأخطاء، وسطر فلان على فلان إذا زخرف له الأقاويل ونمقها، كما أن الأسطورة محاولة لفهم الكون بمظاهره المتعددة، أو هي تفسير له، حيث تعد بانها نتاج وليد الخيال، ولكنها لا تخلو من منطق معين ومن فلسفة أولية تطور عنها العلم والفلسفة فيما بعد.

وقد كانت معروفة لدى الإغريق بكلمة النبوءة كونها كانت تحتوي على شيء من الحقيقة والمنطق رغم انها مفعمة بغرائب المعتقدات وبعجائب الطبيعة، فهي ترتكز على الطقوس والعادات والمعتقدات الغيبية والسحرية والأسطورية التي كانت سائدة في المجتمعات البدائية، لذا تعد الأساطير أصلاً ورافداً للحكاية الشعبية، وتعتبر اليوم المصادر التي تستقى منها القصص الشعبية مادتها الأصلية.

وغالبا ما تُعَبّر الحكاية الشعبية عن بقايا أسطورية، لذا لا يمكن التعرض للحكايات الشعبية بالدراسة حتى تكون على دراية بعلم الأساطير أو ما يعرف بالميثولوجيا لأنه هذا هو الرافد الذي تنهل منه الحكايات الشعبية (أحداثها وشخوصها)، إلا أن هناك فرق يوضح أن لكل من الأسطورة والحكاية الشعبية طابعه الخاص به، حيث ان الأساطير لا تردد في كل وقت وفي أي مكان وإنما ترتبط دوما بجوها المقدس وتردد في مواسم معينة.

أما الحكايات الشعبية فتروى في أي مكان وزمان وليست محددة بوقت معين، كما أنها مرنة وسهلة الانتقال وقابلة لبعض التغيرات، أما الأسطورة فترفض الالتزام بقداسة طقوسها، فهي عبارة عن تفسير علاقة الإنسان بالكائنات وهذا التفسير هو آراء الإنسان فيما يشاهد حوله في حالة البداوة، فالأسطورة إذا هي مصدر أفكار الأولين.

الفرق بين الأسطورة والخرافة:

غالبا ما يحدث الخلط بين مفهومي الأسطورة والخرافة، وذلك لتشابه مضامينهما المتمثلين في الشخوص والغول والجن والاحداث المفعمة بالخوارق، وهدفهما الذي يعمل على إعادة النظام للحياة، فالأسطورة والحكاية الشعبية يتشابهان لأن كليهما يصور الشيء البعيد عن المنطق والمعقول، ولكنهما في الحقيقة شكلان تعبيريان مختلفان، فالأسطورة تحمل شيئا من التاريخ والحقيقة، أما الخرافة تحمل أحلام وطموحات الشعوب المكبوتة.

مصطلح الخرافة:

إن الحكاية الخرافية حكاية الخيال الشعبي الذي يعبر عن عقيدة ما أو فكرة خيالية معينة تشد اهتمام الشعب باعتقاد اجتماعي يعتمد على الخيال، والخوارق كما أنها ذلك الشكل القصصي ذا الطابع العالمي الذي يطلق عليه دارسو الفولكلور في العالم مصطلح “”conte merveilleux بمعنى الحكاية العجيبة، كما أطلق عليها أيضا تسمية الحكاية السحرية، ولكن الحكاية الخرافية هو الاسم الذي شاع وساع وذاع في الأوساط الشعبية، حيث ترجع بنا إلى عصور تسبق كل تاريخ مدون، وذلك من خلال مضامينها المفعمة بالأحداث اللا منطقية والغريبة، إلا أنها تدس بين سطورها مغزى عميق يعكس صور التجارب الإنسانية وليس من السهل ادراك المغزى باعتباره عميق عمق العالم الداخلي للشعوب، أما ما يبدو غير منطقي من أفكار الشعوب الفطرية، وما يبدو سخفاً وخرافة من آرائهم كثيراً ما يكون شاهداً على وجهة نظر عميقة في طبيعة الأشياء والطبيعة والعالم.

كما أنها تتسم بمضمون ساذج مبني على أحداث في منتهى الغرابة موارياً خلفه حقيقة عميقة يقوم بها البطل الذي تعتمد عليه الأحداث، حيث يكلف بمهمة عويصة فتفرش له الكثير من العقبات والصعوبات والشخوص الشريرة والقوى الغيبية التي تعترض وصوله إلى الهدف المنشود، وللوصول إلى هذا الهدف تظهر المساعدات المتمثلة في الأدوات السحرية والشخوص التي تعين البطل في إدراك النهاية السعيدة المحتومة في ختام الحكايات الخرافية، وذلك لتوضح قدرة الإنسان على اجتياز كل ألم، وشر، والانتصار عليه، وهذه هي الصورة التي تحبها الشعوب وتجسدها في خواتيم الحكايات الخرافية متيقنين بأنها الصورة الأصلية للحياة، وغالبا ما تأتي كتفسير لخبايا الحياة بشقيها الظاهر والخفي، حيث تجمع بين القديم والجديد، وبين الحكمة العميقة والخيال الصرف، وبين الجد والهزل، وبين الدين والالحاد، وبهذه المضامين يتحرر الإنسان من قيود واقعه الزمانية والمكانية عن طريق الخيال الذي يصارع فيه المعاناة والظلم وينتصر على كل الأحاسيس الأليمة في الحكاية الخرافية ذات الجو الرومانسي الذي يعبر فيه عن أحلامه وطموحاته، فيعيش بخياله في الخرافة كمال الحياة التي يستحيل أن يحيياها في الواقع، وهكذا يسد احتياجات عالمه الداخلي.

وأهم ميزة تتفرد بها الحكاية الخرافية هي انها تعتمد على الخوارق والخيال والغرابة التي تتخلل مجريات الاحداث وبين مختلف الشخصيات والأمور التي لا تحصل في عالمنا الواقعي وهذا لا يعني انها ثرثرة عجائز لا منطق لها ولا هي اختراع صرف وإنما هي ملك للشعب ونتاج قواه الشاعرية.

هدف الحكاية الخرافية:

تهدف الحكاية الخرافية إلى تحقيق رغبات البطل وتبيان كيفية وصولة إلى مبتغاه وإدراكه تلك النهاية السعيدة، وهذا ما يخلق تلك الراحة النفسية للمتلقي باعتبارها أنها تحقق كل طموحاته في الخيال التي يستصعب تحققها على أرض الواقع، كما أنها تصبو إلى التنفيس عن المستمع وعملية تفريغ بالنسبة للراوي.

معنى المورفولوجيا وأهميتها في الحكاية الشعبية:

قد اهتم الكثير من الباحثين بدراسة الحكاية الخرافية وحاولوا تفسيرها وتحليلها ولقد سمى ” بروب ” محاولته التحليلية ” مورفولوجيا ” وهذا المصطلح يحيل على وصف للخرافة الشعبية الروسية يعتمد على مكوناتها، وعلاقة هذه المكونات بعضها ببعض، وبالمجموع تقوم المحاولة على فرضية عمل وهي وجود الخرافات العجيبة، فطبيعة الخرافة هي جملة من الأحداث التي تقوم بها مجموعة من الشخصيات من داخل إطار مكاني وزماني إلى طبيعة الأحداث التي يسردها خيال الراوي.

فالحكاية هيكل، بنية مركبة معقدة، يمكن تفكيكها واستنباط العلاقات التي تربط بين مختلف وظائفها في مسار قصصي معين، وهذا ما يعتمد عليه التحليل المورفلوجي خاصة بالنسبة للخرافة، حيث تفكك تلك الصلات الكائنة بين الوظائف المختلفة والمتغيرة، حيث يعمل بروب على تجزيئ الحكاية الخرافية إلى عناصرها الصغرى محاولا التعرف على العناصر الثابتة والمتغيرة داخل هذه الوحدات الصغرى.

ولهذا التحليل المورفولوجي أهمية كبيرة، حيث يعد كتاب فلاديمير بروب هو القاعدة التي ترتكز عليها كل الدراسات الحديثة وذلك لتقديم نماذج وصياغات للبنية الحكائية في السرود المختلفة، ففي التحليل المورفولوجي يظهر سطح الحكاية جليا، حيث يتضح سطحها وعمقها وشخصياتها الرئيسية والثانوية وحلها وعقدها بفضل الوظائف التي تتحدد بمقتضى ما يترتب عنها، وهذا يعني أن الفعل يمكن تحديده بمعزل عن المكان الذي يشغله في مجرى الحكاية لأن الفعل متغير وليس ثابت.

الشخصيات وأدوارها وأثرها في التحليل:

إن مدونة ونعوت الشخصيات هي قيم متغيرة، ونعني بالنعوت مجموع الخصائص الخارجية للشخصيات: سنها وجنسها ووضعيتها ومظاهرها الخارجية، وهذه النعوت تهب الخرافة ألوانها وجمالها وظرفها، هذا ما يبرز أن الحكاية الشعبية تحتوي على قيم ثابتة ومتغيرة، فالثابتة هي الوظائف وأفعال الشخصيات، أما المتغيرة هي أوصاف وأسماء وخصائص الشخصيات، ولكل شخصية أثرها في حبكة الحكاية ويوجد شخصيات ذات فاعلية قوية ومؤثرة في الحبكة كالبطل والشخصية الشريرة التي تؤجج الاحداث، ويوجد شخصيات ذات ظهور عابر ثم تختفي كالشخصيات المساعدة أو شخصية العريف وشخصية البطل المزيف الذي يتقمص دور غيره ويدعي بأنه شخصية خيرة وهي عكس ذلك، وهذه الشخصية تعوزها الطاقة والتي تنشد رغم هذا الافتقار التمجيد والتكريم.

وتبدو الأدوار في حبك النص الحكائي كثيرة ومتعددة وكلها ذات فاعلية على مستوى الدلالة كالدور le role thematique ، حيث يسجل هذا الدور الأنظمة السوسيوثقافية أي الأسرة والتراتبية الاجتماعية والقيم الثقافية الخاصة بالوسط الذي أنتج وتداول الحكايات موضوع الدراسة، هكذا تظهر لنا عناصر سردية تربط معنى الخطاب بالسياق السوسيوثقافي، ويمكننا من خلال ذلك التأكد من مدى أصالة تلك الحكايات.

كما أن رصد هذه الأدوار مهم، حيث توضح تلك العلاقات الرابطة بين عناصر البنية الحكائية من أفعال وشخوص، كما أن رصد الأدوار الغرضية يضمن بيان علاقات الأفعال والشخوص ويسهل عملية التعرف على الوظائف، ذلك لأن وظيفة الفعل لا يمكن أن تتحدد إلا من خلال ارتباطها بهيئة أحد الشخوص أو بمبادرة صادرة عنه وذلك لتبدو واضحة وجلية.

الخاتمة:

هكذا نكون قد ألقينا نظرة على طبيعة الحكايات الشعبية، حيث تعرفنا من خلالها على نمط تفكير الشعوب، وأهم ما نلخص به هذا البحث أن الحكايات الشعبية مرصوصة على تراث متين وغني ويعود هذا الغنى إلى ذلك التعد في الحضارات التي تعاقبت على هذه الأرض، حيث احدث هذا التعاقب تغيرا بالحكايات، وفي الوقت نفسه شكل مزيجا خاصا ونادرا وثريا ميز هذا الموروث بالقيم السامية الهادفة إلى ترقية الإنسان خلقا ودينا وعلما، من خلال أشكال كثيرة أبرزها الحكاية الشعبية باعتبارها المادة الخام لسائر الأشكال الشعبية الأخرى نظرا لما تحمله من قيمة بالغة الأهمية تجلت في أدوار مفيدة وهادفة على مر العصور التي احتضنت أحداثها السياسة والاجتماعية والنفسية والدينية.

فسياسيا ساهمت الحكاية في توعية الشعوب المضطهدة المفتقرة للعلم واليقظة، حيث كانت تقوم بدور الصحافة والتربية والتعليم، أما نفسيا فكانت تنفس عن المكبوتات الناشئة جراء القهر والظلم فتعمل على تسلية النفوس من خلال الاثارة التي يفتعلها الرواة، اما اجتماعيا فتعرض الحكايات تلك النظرة العميقة للحياة التي قد نمت عن تجارب الاولين الذين نستفيد من اغلاطهم وجهلهم وزلاتهم.

كما ساهمت الحكايات الشعبية في عرض تفكير الشعوب دينيا وكيفية ممارستهم لمختلف الطقوس والمعتقدات التي يتخذونها منهجا ترتكز عليه أساليب حياتهم وعيشهم ونمطية تخمينهم في الأمور الغيبية، وكل هذا تبرزه المضامين الانثروبولوجية التي ستلتزم علينا الاهتمام بها والعمل بِعِبَرِها المستقاة من تجارب كبارنا وماضينا.

المراجع:

  • غراء حسين مهنا، أدب الحكاية الشعبية، دار نوبار للطباعة، ط1، القاهرة، 1997.
  • محمد عباس إبراهيم، الأنثروبوبوجيا ( علم الانسان )، دار المعرفة الجامعية، جامعة الإسكندرية، 2006.
  • نبيلة إبراهيم، أشكال التعبير في الأدب الشعبي، دار المعارف، الطبعة الثالثة، القاهرة.
  • نبيلة إبراهيم، قصصنا الشعبي من الرومانسية إلى الواقعية، مكتبة غريب، مصر.
  • أحمد بن نعمان، سمات الشخصية من منظور الانثروبولوجية النفسية، المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، 1990.

فيديو مقال الحكاية الشعبية ودورها في الأنثروبولوجيا

أضف تعليقك هنا