“العلم في الرأس”.. منهج لم يُدرس بعد!

ضياع المعنى في زمن خضوع العقل!

بدأت المعرفة بإدراك الجهل، بملامسة وجوده والانصهار بملامح كيانه، رؤيته كما نحترق بوهج الشمس في وضح النهار، و حينما وضعنا الجهل بين مفترق طرق، أصبحت رفاهية الاختيار حق مسلوب! فأن تُجاري تياره والانجراف بما يقذفه في عقولنا من هدم وتهشيم لكل فكرة قادرة على وضعنا على طريق وجودنا وبحق، أو تفر بالنجاة منه ومن أنيابه التي لا تجد سلامها إلا في سحق قوانا الفكرية! وما علينا سوى التمسك بالحياة في حضرة المعرفة، أو الموت على قيد الحياة بنهش الجهل لوجودنا!

الحق أن العلم في ذاته هو البوابة لدخول عالم مختلف تمامًا، عالم لم تدخله من قبل، ولن تحياه إلا مرة واحدة خلال تاريخك بالحياة، عالم من الوعي، الفهم والتحرر من قيود الدنيا التي لطالما فرضتها علينا دون وجه حق، قيود تفننت في شل حركة الفكرة بوجداننا وكأن العدم قد كُتب عليها حتى قيام الساعة!

زمن إفلاس العقول

عالم المعرفة يتسع للبشرية بأكملها، يمد يده لنجدة البشرية من قبضة إفلاس العقول، ولكن قل من التفت إليه أو منحه قدره من الاهتمام! ليصبح من النادر أن تُصادف إنسان يسعى بكل ما يملك من قوى وإن كانت محدودة ليغرق في أعماقه، يسبح بخفة ومهارة فائقة، دون مطالبته مقابل، دون الكلل والاستسلام، فقط يستمتع بالتغلغل به وكأنه الوطن الذي يحتضنه بشوق وحرارة بعد طول ترحال؛ بل ويأبى أن يخرج منه حتى يُطيح به عالمه خارج حدود دنياه. عالم كفيل بأن ينتشلك من ضياعك العابث بك منذ أن دبت روحك على أرض الحياة، وكأن الضياع هو المصير والنهاية، ولكن .. عالم العلم هو “الشاكوش” القادر على سحق قيودك في غمضة عين بعد أن فشلت كل محاولاتك البشرية في النجاة.

وإن كانت المعرفة كنز من كنوز الإنسانية، فلن يكتمل وجهها المشرق إن كانت ملامحها تذبل مع نفور الإنسان عنها، لتتبدل في أعين البشر إلى عجوز شمطاء! تملك من البشاعة الحد الذي يفزع الناظرين منها! الوجه القبيح الذي لن تلتفت له وإن كان هو خيارك الأوحد؛ ولعل هذا يرجع إلى ثقافة الجيل الجديد الذي لم يسمح لها بالعيش معها على نفس الكوكب، وأخذ يطردها خارج أسواره وكأنها وباء ووجوده لن يتركهم على أرض الحياة آمنة مطمئنة، والحق أنها هي السلام الذي لن يحصل عليه سوى من أدرك سرها الثمين.

“الشهادة” شبح يُطارد عقول الأجيال!

الآن، وفي القرن الحادي والعشرون، أصبحت “الشهادة” هي المطلب والهدف الوحيد من عملية المعرفة المُمنهجة، أصبحت “الدرجات” هي الدليل على نجاح الإنسان في تلقيه للعلم على أكمل وجه أو فشله الذريع! وهي في النهاية مجرد أرقام لا تعبر عن الحقيقة والمأساة الكبرى!

على ماذا أصبح يقتصر مفهوم التعليم والمعرفة؟

أصبح مفهوم التعليم والمعرفة يقتصر على منح تلك الشهادة في نهاية الفترة المحددة ومن ثم “نكسر وراه قُله”! أصبح الانتهاء من فترات التعليم بمثابة “البراءة” التي ينتظرها السجين على أحر من الجمر! و لم يكتفِ الإنسان بحصر مفهوم المعرفة عند هذا الحد فحسب؛ فقد أصبحت وسيلة للتفاخر والتباهي، بوابة لعرض “السلع” البشرية، الجميع يُقاس بدرجته المُدونة في “شهادته”، الحياة تُبنى على مستوى “التلقين” غير المُجدي، الإنسانية بأكملها أصبحت مجرد صراع بين العقل المتلهف لنسمات الفهم، والواقع الذي يُهدده بأن لا يُطالب بحقه البسيط في حياة كريمة، في وجوده.

-أنا الدكتور..

-أنا المهندس..

ولكن ما خفي كان أعظم! وهُنا تظهر الفجوة بين “السمعة” و “اللاشيء”! فعند أول عقبة “فكرية” تواجهه بمناقشة وجهة نظره، تجده يسقط في قاع اللامنطق وكأنه المحارب بأرض المعركة بلا سلاح أو حماية، أعزل لا يملك سوى إمكانياته البشرية التي لن تكفيه للدخول في حرب بحجمها، يملك كل شيء ولكن ينقصه أهم سلاح والكفيل بأن ينهي معركته قبل أن تبدأ: سلاح الوعي.

“ذاكر علشان تنجح” سخافة منهجية الجدود تسحق مستقبل الأحفاد!

هي “حجة البليد”، فقد حصرنا المجتمع في طريق واحد لا خروج عنه، ويُعتبر الحياد عنه هو الضياع المُحتم! ولكن ما يُثير السخرية أننا لم نتعرف عليه حتى! فقط وجدنا أنفسنا نسير به مرغمين على إنجازه كما هو ودون أن تختل خطواتنا به حتى ولو كان في خيالنا! أصبح تلقي العلم والمعرفة يقتصر على “ورقة” عقيمة الفائدة!

ورقة تقديم على أفخم المدارس؛ حتى لا تلحقنا نظرات الشماتة من البشر، يكفي أن تكون فوق المستوى المطلوب أحيانًا حتى لا تُهان كرامتنا!

ورقة تُلخص أهم النقاط التي يتضمنها الامتحان، مشهد عبثي فيه “الحفظ والصم” هو سيد الموقف، وإن كان العقل يأبى أن يتشرب ما يواجهه من نظريات وقوانين ومعلومات جامدة! ولكنه مجبر على “بلعه” وإن كان تحت تهديد السلاح!ورقة نتيجة التهاون في الفهم والإدراك، والمضحك أن تكون ورقة الخلاص والسعادة الأبدية التي يتلهف الإنسان للحصول عليها! والحق أن كلها أوراق تؤدي إلى اللاشيء، إلى نهاية البداية!

أصبح من يقدم العلم مغموسًا بالفهم كالمجنون الذي يسير وسط البشر دون سيطرة على هذيانه! في نظرهم هو الغريب الذي لم يأتِ إلا ليُطيح بإتزانهم ويسلب هدوء خطواتهم! يُعرقل الزمن، يشيع الضجيج الثائر ضد أجيال تلهو بالفكرة، ولكنه جاء من أجل التغيير الذي إن حدث فهو لا يعتبر تغييرًا على مستوى الفكر فحسب؛ بل هو تغيير لملامح الكون بأسره. منه تبدأ ملحمة جديدة، يصبح العلم هو القضية والملحمة، تتشبع الروح به قبل أن يصل إلى العقل فيستقر به ويتخذه ملاذًا من جنون العالم، ليكون أول شربة ماء بعد ظمأ بدأ منذ الأزل!

سر العلم، إنسان ينبض به

صاحب العلم اليوم بمثابة انتفاضة لنبضة قلب قُضي عليه بغيبوبة غفلة، انتفاضة إنسان جديد يُولد داخلك، تتعرف عليه للمرة الأولى وإن افترستك الدهشة من تصرفاته التي لا تقوى على السيطرة عليها، ليحيا العلم داخلك ويُشيع مبدأ المعنى بكل كيانك، وكأنه وُلد حتى تولد أنت.

المعرفة وحدها لا تكفي! حقيقة أكدها الزمن بصفحات سطرها التاريخ بحروف نور وقوة، ولكن المعرفة بشغف الغرق ببحورها التي لا حد لها هو مفهوم النجاح الحقيقي، وليست “ورقة الشهادة” البالية التي وإن تمزقت إربًا تنقطع معها سيرتك في الوجود! فكيف تربط مصيرك بمجرد ورقة لا تعي وجودها؟!

المعادلة الحقيقية التي يتحقق بها قانون الوعي

مثله كمثل كل قوانين الرياضيات التي تُداعب عقلك بمرونة وذكاء، ولكن المعادلة الحقيقية التي يتحقق بها قانون الوعي هي السر الأعظم:دهشة + اكتشاف + علم + فهم + شغف = معنى الوجودأنت في حضرة الحياة حيثما عثرت على المعنى، ودونه أنت “صفر على الشمال”، لا قيمة لك تُذكر! فلك وحدك القرار.

فيديو مقال “العلم في الرأس”.. منهج لم يُدرس بعد!

أضف تعليقك هنا