رواية ((عوبار)) الجزء 8 بقلم زيد العرفج

المورد الثالث
النبي هود

بسم الله الرحمن الرحيم {{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ، يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}} الآيات 50-51 من سورة هود

ثلاثة أيام والناقة تسير بي في منطقة جرداء قليلة الرمال كثيرة الحجارة ولم تصل لموردها الثالث، والحق يقال إننا ارتوينا من المورد الثاني، كما أن الجو صار ألطف قليلاً مما مكّن ناقتي من تحمل العطش لفترة أطول من المعتاد، لم أواجه صعوبة في الحصول على طعامي، كما أنني صادفت بعض التجمعات البشرية الصغيرة التي تحاشيتها خوفاً على نفسي وعلى ناقتي.

بعد مقابلتي لصعّار عدت من العراق فالتقيت مجدداً بالأستاذ عيّاد الذي طالبته بمقابلة الرجل المسمى هود، والحقيقة أنني كذبت على صعّار لما أخبرته عن إيماني برسالة هود، فحتى ذلك التاريخ لم أؤمن بما جاء به هود من معتقدات وأفكار، ولكن استفزاز صعّار دفعني لقول ذلك، فالأحداث الجسام التي وقعت مؤخراً أثرت على البلاد والعباد فلم نعد نلتفت لما يجري داخل بلادنا كثيراً.

وعدني الأستاذ عيّاد بأنه سيصطحبني لزيارة هود بمجرد إنهاء البحوث التي بين أيدينا والمتوجب إنجازها خلال ستة أشهر على الأكثر، عكفت على البحث الخاص بي وساعدت زملائي في بحوثهم، فلما انقضت الأشهر الستة حدثت إشكاليات مع الأستاذ عيّاد منعته من تنفيذ وعده إذ تعرض لملاحقة رجال الملك شدّاد فحُبس على أثر ذلك لمدة سنة كاملة وغُرم بمبلغ مالي كبير بسبب الكلمات التي كان يتفوه بها ضد سياسة الملك شدّاد.

الدين شكل عائقاً أمام زواجي بحيرا

استمرت حياتنا أثناء صراع الملك شدّاد مع الأساسيين، وخلال هذه الفترة تزوجت من حيرا، فهذه الفتاة وإن كانت تكبرني بعام كامل إلا أنها أظهرت من الذكاء والفطنة وسعة الأفق ما جعلني أسعى للزواج بها، خاصةً بعد إفلاسي من الزواج بالفتاة الأخرى فاطمة، فتلك الفتاة كانت تعجبني وتروق لي ولكن زواجها المبكر وهي طالبة في الجامعة جعلنا جميعاً نصرف النظر عن التفكير بها، فهي من علية قبيلتنا (قبيلة عاد)، وقد تزوجت بابن عمها الذي يشغل منصباً رفيعاً في القصر الملكي.

اشترطت حيرا للموافقة على الزواج بي اعتناقي لدينها الذي تدين به وهو ما جاء به نبيها هود، فرفضت ذلك محتجاً في حرية معتقدي، فوصلنا لطريق مسدود، وكاد يفشل مشروع الزواج لولا تدخل أبيها الذي لم يرَ مشكلة في ذلك فأقنعها بالزواج مني، حيث كان معجب بأخلاقي وثقافتي ورأى في شخصي إنساناً يمكن كسبه لصف اتباع الدين الجديد (دين هود). والحقيقة أنني أحببت حيرا وهي بادلتني نفس الشعور ولكن فارق السن واختلاف المعتقد بيننا شكل حاجزاً كبيراً بالرغم من أن كلينا كان كفؤاً للآخر من كافة النواحي الأخرى، فكلانا ينتسب لنفس القبيلة – قبيلة عاد العظيمة – ولنفس الطبقة الاجتماعية، فنحن نصنف ضمن الطبقة الوسطى في مجتمعنا.

تزوجت بحيرا رغم معتقداتنا المختلفة 

استمرت فترة الخطوبة لثلاثة أشهر، وتبادلنا خلالها عبارات الحب والإطراء وتناقشنا كثيراً حول وضعنا المستقبلي كزوجين سيؤلفان أسرة سعيدة وناجحة، وكانت بين الحين والآخر تغمز بمعتقدي وترى في عقلي اختلالاً لإيماني بتعدد الآلهة، وأكثر ما كان يخفف حدة التوتر بيننا حديثي عن سبب اختيارها كزوجة لي والمتمثل في حرصي على  تكوين أسرة ناجحة وإنجاب أولاداً ناجحين ينتفع بهم مجتمعنا، وأخيراً اتفقنا على الزواج وعلى عدم مناقشة معتقداتنا خلال سنوات زواجنا الأولى على الأقل، لنعيش حياة رغيدة خاصة وأن أطفالنا لن يعرفوا هذا الخلاف خلال أعوامهم الأولى، وكانت حيرا تأمل أن أغير معتقدي وأعود لجادة الصواب كما كانت تقول دائماً، ونحن لم نكن أول زوجين يعتقدون اعتقادات مختلفة، فهناك الكثير ممن تزوجوا وشكلوا أسراً بالرغم من اختلاف معتقداتهم ما بين الإيمان بآلهتنا الثلاث أو بدين هود التوحيدي، فالمجتمع العربي وبشكل خاص قبيلة عاد يرى في النسب شأناً أعظم من الشؤون الأخرى بما فيها المعتقد الديني، فالحرية الممنوحة للمواطنين العرب وخاصة العاديين (أبناء قبيلة عاد) جعلتهم مطلقي الحرية في التزاوج فيما بينهم، والحروب الخارجية أيضاً زادت من شدة الانتماء للعرق العربي ولقبيلة عاد وفعلت فعلها في تماسك المجتمع.

عشت أياماً سعيدة مع حيرا في بداية زواجنا، فقد كانت امرأة متوازنة ورصينة ومثقفة لأبعد الحدود، إضافة لكونها سيدة منزل من الطراز الرفيع، فهي تجيد ترتيب البيت وكافة أنواع الطبخ بالرغم من اعتمادنا في غالبية الأيام على الوجبات الجاهزة المستحضرة عبر أجهزة الطعام الأثيرية، وذلك لضيق وقتنا حيث ما زلنا مستمرين في أبحاثنا مع الأستاذ الكبير عيّاد.

إيمان زوجتي حيرا وأمي بالنبي هود

وبعد عام تقريباً رزقنا بابننا الأول الذي أسميته سيّار، وبعدها بعامين أنجبت حيرا توأم أنثى وذكر أسميناهما اليمامة وخطّار، وكنا زوجين متضامنين نعمل سويةً في تربية أولادنا وعلى درجة عالية من التفاهم والمسؤولية، وأمي وجدت في حيرا كنّةً مثالية فأحبتها وتأثرت بها، ونظراً لاستعداد أمي الفطري لنبذ عبادة الآلهة والتوجه لعبادة الله وتوحيده، فقد كان لحيرا ما أرادت فسرعان ما آمنت أمي برسالة النبي هود وبدأت تحثني وتضغط عليّ في ذلك.

دعوة النبي هود إلى التوحيد

مرت الأيام ثقيلة وسريعة بنفس الوقت، انتهت حروب الأساسيين وأُعيد تشكيل العالم من جديد على يد الملك شدّاد، وشكلت مملكتنا جنة على الأرض يحيط بها الجحيم والشقاء من كافة الجهات. وهنا ظهرت من جديد وبقوة دعوة النبي هود الذي دعانا لنبذ عبادة الأصنام وحث اتباعه لإظهار ذلك بكافة الوسائل الممكنة، فاستخدموا كافة وسائل الإعلام وأدوات الاتصال المتاحة عبر طاقة الأثير فوصلوا لكل بيت ولكل شخص في أصقاع المملكة، فآمن من آمن وكفر من كفر ولكن ما آمن معه إلا قليل.

الصراع بين الملك شدَاد والنبي هود

وهنا بدأت حرب الملك شدّاد ضد هود واتباعه، فألّبَ جميع الكهنة ورجال الفكر ضد دعوة هود، فكانت المناظرات العظيمة بين اتباع هود وزبانية الملك شدّاد الذين أنكروا وحدانية الله عز وجل وقدرته على إدارة الكون لوحده، وأنه لا بد له من أعوان يساعدونه في ذلك، ويتولون أمر البشر ويكونون قريبين منهم، وأن آلهتهم الثلاثة قامت بذلك الدور على الوجه الأمثل.

خلافي مع أمي وزوجتي حول إيمانهم بالنبي هود

وعلى وقع الحرب القائمة بين هود واتباعه من جهة والملك شدّاد ومن يشدّ على يده من جهة أخرى، استعرت حربي العائلية في البيت مع زوجتي وأمي، وكنت أدافع عن فكرتي واعتقادي بأنني لا أنكر وجود الله ولا ألوهيته ولكنني أرى في صدا وصمودا وهرا آلهة عظيمة تساعد كبير الآلهة في متابعة شؤون البشر وتريحه من العناء في ذلك، وكثيراً ما كنت أهرب من النقاش بتعظيم الله عز وجل فأقول: (إن عظمة الله وجلاله أكبر من أن يتابع شؤون البشر الحقراء)، ومع ذلك لم استفد شيئاً في حربي معهما، فأمي كانت تواجهني قبل حيرا بقولها: إن الله هو الخالق وهو الرازق وهو المحيي وهو المميت وأنّى لآلهتك أن تفعل ذلك. شُنت حربٌ إعلامية شديدة ضد هود ومن يتبعه ووصلت الأمور لدرجة اتهامه بالسفاهة والجنون واتهام اتباعه بالسذاجة والغباء، ولكن هود ظل صامداً مع اتباعه بمن فيهم زوجتي وأمي، ولقد وقفت عاجزاً أمام قوة إيمانهن وأكبرت ذلك فيهن.

دعوة النبي هود وأتباعه موضع جدل ونقاش

ونتيجة انتهاء حروب مملكتنا ضد المتمردين من أفراد العائلة المالكة الفارين أيام هروب الملك الأب عاد بن عرّاد وانتهاء حروب الأساسيين وإغلاق حدود مملكتنا عن العالم الخارجي الذي لم يعد يهمنا بشيء، فإن الاهتمام الأكبر انصب على قضية هود واتباعه، فانشغلت المملكة بطولها وعرضها بهذا الأمر، ووصلت المناظرات والمناقشات إلى حدود لا يمكن أن نتخيلها، فقد كان هناك تداخلاً شديداً بين الناس على كافة المستويات، فبالرغم من قلة اتباع هود قياساً على عدد سكان المملكة إلا أن أمره أثار جدلاً كبيراً في أوساط مجتمعنا، فظهر من يحض على استئصال شأفة هود واتباعه، وظهر من يرى عدم ذلك استناداً للحرية التي ينعم بها أفراد مجتمعنا، وحتى لا يصبح الأمر سنّةً متبعة فتُهلك عادٌ نفسها بنفسها، وهم جربوا ذلك من خلال الصراعات السابقة وما آلت إليها من نتائج كارثية، فكل صراع جديد كان يؤدي لتضاؤل حجم المملكة، فمن مملكة تحكم العالم بأسره إلى مملكة تتسيد البلاد العربية فقط ثم إلى مملكة لا تحكم سوى ثلثي شبه الجزيرة العربية فقط.

ماذا قرر المجلس الاستشاري بشأن قضية هود وأتباعه؟

اجتمع المجلس الاستشاري الأعلى في المملكة وتداولوا قضية هود واتباعه لأكثر من يومين وخلصوا لنتيجة مفادها أن يتم لقاء مباشر بين الملك شدّاد وهود يتضمن مناظرة بينهما، فقبل كلاهما بذلك وضُرب موعدٌ للمناظرة بعد شهر تقريباً من انتهاء جلسات المجلس الاستشاري.

والمجلس الاستشاري الأعلى في المملكة يتكون من عشرة مستشارين يمثل كل واحد منهم عشيرة من العشائر العشرة التي تشكل قبيلة عاد، وهؤلاء يجتمعون مع بعضهم ويقدمون استشاراتهم للملك في أمور الدولة الخارجية والداخلية، وقد كان لهم الدور الأكبر في الحروب ضد المتمردين الذين ثاروا نتيجة خلع الملك الأب عاد بن عراد، وكذلك في حروب الأساسيين وغيرها ….، وهم يلعبون دوراً حاسماً في التسميات الوظيفية في الدولة من أعلى مستوى كتسمية الكهنة والوزراء حتى أدنى المستويات. والمجلس الاستشاري الأعلى في مملكتنا قائم على النظام العشري لأنه يتكون من عشرة مستشارين يمثل فيه كل مستشار عشيرة من عشائر عاد العشرة، وقد انعكس هذا النظام على كل مفاصل الدولة، ففي أي مفصل سياسي أو إداري أو عسكري أو مالي … يجب أن يُطبق نظام المحاصصة العشري، مما أثر سلباً على أداء الإدارات الحكومية بشكل عام، فهذا النظام يحتم تعيين أشخاص يحققون التوازن بين العشائر العشر لقبيلتنا دون النظر لكفاءتهم العلمية والعملية.

والمجلس الحالي المكون من عشرة مستشارين كان له دور حاسم في الاضطلاع بحل المشاكل التي واجهت المملكة، وأهم المستشارين فيه الآن: (قيّال بن عيّار) كبير الكهنة سابقاً وهو من عشيرة الملك شداد نفسها، وقد أصبح الآن كبير المستشارين، والآخر هو (لقمان بن هزّال) وهو من عشيرة النبي هود نفسها، ويشغل منصب مساعد كبير المستشارين.

انشغال الناس بالمناظرة بين النبي هود والملك شداد 

عجّت وسائل الإعلام بخبر المناظرة بين النبي هود والملك شداد، وبدأت تركز في برامجها على محاور المناظرة ونتائجها، فانشغلنا من جديد بالأمر فلم يعد هناك أحدٌ يهتم بأي شيء سوى المناظرة، ولأول مرة أشعر باهتمام موحد لجميع أفراد مجتمعنا العربي في مملكة عاد، حتى أيام الصراعات السابقة لم يحدث هذا الإجماع، وبالمقابل احتدم صراعي في البيت مع أمي وزوجتي، فقالت لي أمي ذات ليلة: والله إني أرى هزيمة مليككم في ذلك اللقاء. فقلت لها: لا عليك يا أمي ستحل القضية بينهما… مع أنني في قرارة نفسي كنت من أشد المؤمنين بفراسة أمي ورجاحة عقلها، فهي ترى الأمور بطريقة مختلفة دوماً بل أحياناً أرى فيها شخصاً يسبق الزمن.

كنت أرى في عيون زوجتي حيرا يأسها مني، وقد حصلت جفوة بيننا في تلك الأيام العصيبة، فحدثتها مرة بهذا الأمر فقلت: حيرا انظري حولك إن كل ما نعيشه من نعيم يعود لسر الطاقة التي نستثمرها، وإن هؤلاء الآلهة الثلاثة ما هم إلا نعمة من نعم الله يجب علينا تقديرها حق قدرها. فقالت حيرا بعصبية: وهل يتوجب علينا أن نعبد النعم ونشركها في الألوهية، أم نعبد المنعم بها، أليست هي من خلق الله، فكيف نشرك المخلوق مع الخالق في التعظيم؟ كيف نشرك الفاني البائد مع الباقي الدائم؟….

وكان يوم اللقاء والمناظرة بين الملك شدّاد والنبي هود، وترقبنا جميعاً البث المباشر لها عبر كافة القنوات، ولأول مرة قنوات التواصل تتوحد في مواضيعها، فنحن نستطيع متابعة أية برامج أو مسلسلات أو غيرها متى نشاء فأنت تستطيع في أي وقت استحضار ما تريد مشاهدته عبر نظارتك الأثيرية أو من خلال خاتم تضعه في أصبعك تضغط عليه فيتولد أمامك شكل ثلاثي الأبعاد ترى من خلاله ما تريد، والبث كان منوعاً يشمل كافة المواضيع التي تخطر على بالك، أما هذه الأيام وتحديداً خلال الفترة التي حدثت بها تلك المنازعات الشديدة بسبب دين هود المبتدع، فإن البث كان مركزاً فقط على هذه القضية، وإن أردت الابتعاد عن هذا الموضوع فعليك العودة للأرشيف لعدم وجود مادة إعلامية جديدة، هذا إن استطعت أنت نفسك أن تُخرج هذه القضية من دائرة اهتماماتك.

وفي خضم ترقبنا للمناظرة وقد تعطل الناس عن أعمالهم بل حتى عن شؤونهم الخاصة، فوجئنا بعدم بث أحداث المناظرة على قنوات التواصل الأثيري، فقيل: إن هود رفض البث المباشر، ولكن سرعان ما تبين أنها كذبة من كذبات الملك شدّاد، فالملك شدّاد خشي من نتائج المناظرة على الجمهور، فأرادها سرية ليتمكن من تزوير وتحريف ما يريد.

ونحن وإن لم نتمكن من متابعة المناظرة فإن لدينا رجلاً هناك في القصر حيث ستقام وسيوافينا بتفاصيلها كاملة، ذلك الرجل هو أستاذنا الكبير عيّاد الذي كان مع الوفد الذي صاحب النبي هود إلى قصر المؤتمرات لمناظرة الملك شدّاد وكهنته. اتصلنا بالأستاذ عيّاد والتقينا به، وحضرت اللقاء زوجتي حيرا وأمي التي جاءت إلى اجتماعنا لأول مرة، إذ لم تستطع الانتظار لحين عودتنا إلى البيت أو الاتصال بها لتعرف ما جرى في تلك المناظرة التي اعتبرتها حدثاً مهماً.

محور المناظرة التي جرت بين الملك شداد والنبي هود

قال الأستاذ عيّاد: كانت مناظرة عظيمة جداً …. مناظرة بين الحق والباطل بكل ما تحمله الكلمة من معنى.. فالنبي هود أفحم الجميع بكلامه عن وحدانية الله سبحانه وتعالى وعن زيف الأصنام التي يتعبدون لها.. ولما وصل الأمر للنقاط الحرجة نهض الملك شدّاد وتحدى نبي الله هود قائلاً: يا هود إن آمنت بما جئت به ونبذت آلهتي الثلاث المحسوسة ووحدت إلهك الغيبي المتعالي في السموات فما الجزاء الذي سأحصل عليه من ذلك؟
فقال له نبي الله هود: جزاؤك عند الله الجنة تتنعم بها في حياتك الآخرة.
فقال شدّاد: وما الحياة الآخرة؟
فقال هود: سيتوفاك الله ومن ثم يبعثك ليوم الحساب، فإما جنة وإما نار، إما نعيم وإما عذاب.
فأنكر الملك شدّاد البعث والنشور ويوم القيامة والجنة والنار، وقال متشدقاً: يا هود إن هي إلا حياتنا التي نعيشها الآن فلا حياة بعدها، وأما الجنة فإننا نعيشها الآن في مملكتنا الرائعة الجميلة.
فقال النبي هود: ولكن جنة الله مختلفة تماماً عما أنت فيه، ففيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
فقال شدّاد: إذاً صفها لي.
فقال نبي الله هود: بيوتها من ذهب وفضة وتجري من تحتها الأنهار وأعمدتها من أفخم وأروع أنواع الحجارة الكريمة، وفيها أشهى المأكولات والمشروبات، وأهم ما فيها نعيم دائم وخلود فلا موت فيها ولا صخب ولا نصب.
فقال شدّاد: أما الموت فإني أراه أمراً طبيعياً فنحن لا نعيش سوى هذه الحياة التي نعيشها الآن، وأما جنة ربك الذي توحده وتنبذ عنه إلهتنا فإنّي أعدك بأن أصنع جنة مثلها وأحسن.
وهنا احمرت عينا الأستاذ عيّاد وتابع قائلاً: لقد وصل الجبروت بالملك شدّاد لدرجة تحدى فيها نبي الله بل تحدى الله ذاته… إنها القاصمة والله… يا جماعة ارتقبوا عذاب مقيم يحل بنا لا يبقي ولا يذر، وندعو الله أن يرحمنا برحمته ويشفع لنا ببعض من اتبع هدي نبيه هود.

تحدي الملك شداد لله وللنبي هود 

لأول وهلة لم أصدق ما سمعت، هل وصل الأمر بالملك شدّاد أن يتحدى الله، فأنا أتعبد لهذه الآلهة وبنفس الوقت لا أنكر وجود الله ولا سيطرته على الكون بأكمله بما في ذلك آلهتنا الثلاثة، ولكن أن يصل الأمر بإنكار قدرة الله على بعثنا بعد الموت ومحاسبتنا فذلك ما لم أصدقه، وأنا كنت أترقب ذلك اليوم البعيد الذي أبعث فيه بعد الموت، وأقف بين يدي مولاي تعالى شأنه وأطلب شفاعة صدا وصمودا وهرا الذين سيكونون قريبين منه، فيقولون لربهم الأعلى: (إنه رجل صالح قد آمن بك ونحن نشهد على ذلك)، فأدخل النعيم الدائم بمعيتهم، وأشمت بحيرا التي كثيراً ما كانت ترى في تلك الآلهة هلاكي في الآخرة، وأني وإياهم سنتداعى في قعر الجحيم، وأقول لها أترين؟ إن آلهتي لم تتخلَ عني عند سيدها العظيم.

دعوة الملك شداد الناس لصنع جنة مماثلة لجنة الله

عدنا للمنزل أنا وأمي وحيرا ولم نتكلم بأية كلمة، بل ذهب كلٌ منا لغرفته لينام، لا … ليس للنوم بل للتفكير بالقادم، في اليوم التالي طالعتنا الأخبار بأحداث المناظرة التي تم تصفيتها وترقيعها لتناسب جبروت وطغيان وضلال الملك شدّاد، فالأخبار تناقلت نتائج المناظرة وفقاً لرؤية الملك شدّاد بأن الغاية من دعوة هود لعبادة الله وحده ونبذ الآلهة الثلاثة صدا وصمودا وهرا تتمثل في الوصول لنعيم الجنة، وحيث أن عاد العظيمة قادرة على فعل المستحيلات، فإن الجنة ليست من المستحيلات!، وبالتالي يمكننا صنع جنتنا بأنفسنا، وليصف لنا هود جنته المزعومة لنجعل جنتنا أفضل منها، بل زادوا بأن طلبوا من الفنانين والرسامين وغيرهم ممن يعمل في مجالات الفن والتخيل أن يطلقوا العنان لخيالهم في تصور الجنة ونعيمها، ليتم بعد ذلك وضع مخططات الجنة وفقاً لرؤاهم ووصف هود، بل من يرى في نفسه من الشعب المقدرة على تصور أي شيء يعطي إضافةً للجنة فإنه مدعوٌ للمشاركة في ذلك عبر برنامج تم إطلاقه بواسطة وسائل التواصل الأثيري تحت مسمى ((جنتنا نصنعها بأيدينا ومن وحيّ خيالنا)).

انشغلت المملكة بطولها وعرضها في تصور تلك الجنة، فلم يبقَ شخص تقريباً في بلادنا إلا وحاول أن يدلي بدلوه في ذلك، فالمتعصبين للفكرة من اتباع الملك شدّاد ومنافقيه قدموا تصورات شتى بدافع نجاح مشروع مليكهم، والحياديون قدموا مقترحاتهم ليروا إمكانية نجاح المشروع أو فشله فقط لغاية الفضول والمعرفة، وحتى اتباع النبي هود قدموا تصوراتهم التي تطرف بعضهم فيها ليظهروا عجز البشر عن القيام بذلك، أما هود فقد اعتزل المجتمع في منطقته وتركهم في طغيانهم يعمهون.

ماذا تضمن مخطط الجنة الذي وضعه الملك شداد؟ 

وما إن حضرت المخططات بين يدي الملك شدّاد حتى شرع فوراً في تنفيذ العمل الذي تطلب الكثير من الذهب والفضة والأحجار الكريمة، فبدأ البحث عنها في كافة أصقاع المملكة سواء أكانت مادة خاماً في الطبيعة أو مما يكنزه الناس من مدخرات حتى استُنفذت بالكامل، وعندها توجه الملك شدّاد للبحث عن تلك الكنوز في باقي أصقاع العالم، مسخراً لتحقيق غايته كافة التقنيات الأثيرية المتاحة.

كان مخطط الجنة على النحو التالي: بيوت مبنية من الذهب والفضة وأعمدتها من أفخم الأحجار الكريمة، والأنهار تجري من تحتها، ومزروعاتها من كافة الأشجار المثمرة الطيبة، وهواءها منقّى بأفضل منقيات الطاقة الأثيرية، وجوها مكيّف بأفضل المكيفات فلا يشعر الداخل إليها بالحرارة أو بالبرودة، وهناك طريقة تزويد الجسم بالطعام بشكل تقني بديع، فمن يدخل إليها يتم تزويده بجهاز يغذيه لحظة بلحظة، فما إن يشعر بالجوع حتى تتنبه خلايا في جسمه فتنقل ذلك التنبيه عبر طاقة الأثير للجهاز الذي يحتوي على متممات غذائية متنوعة، فيزود الجسم فوراً بما يحتاجه من تلك المتممات فيشعر المرء دوماً بالشبع، فلا جوع ولا عطش ولا حرارة ولا برودة في تلك الجنة المنشودة، وفيها كل وسائل التسلية التي يرغب بها المرء من أندية رياضية وصالات عرض وملاهي بما في ذلك النوادي الخاصة بالمتعة الجنسية، بالمختصر المفيد حاول الملك شدّاد أن يطبق مقولة (اطلب ما تشاء تجده) في جنته الموعودة.

فيديو مقال رواية ((عوبار)) الجزء 8 بقلم زيد العرفج

أضف تعليقك هنا