رواية ((عوبار)) الجزء 9 بقلم زيد العرفج

اشتداد المشاجرة مع أمي وزوجتي بسبب معتقداتنا المختلفة

لم أعد أطيق الحوار مع زوجتي وأمي حول ما آلت إليه الأمور بعد المناظرة الكبيرة، فحيرا أصرت على تحديد موقفي في ذلك، فقلت لها: اتركيني بحالي، أنا لم أضايقك بشيء.
فقالت: إنك تضايقني بإماهتك في معتقدك وأفكارك، جراح حدد موقفك، والله إني أريد لك الخير.
فقلت: أرجوك يا حيرا، أنا أعرف أين الخير، فلدي عقل وأفكر وأصل لنتائج منطقية في ذلك.
فقالت حيرا: ولكن العقل قد يتأثر بالمؤثرات الخارجية فيودي بصاحبه إلى الخطأ والزلل، جراح انظر بعقلك وقلبك وحكم كل منهما بما يخصه، فالعقل ينظر للأمور بالقياس والقلب ينظر للأمور من خلال صوت داخلي ينبع من روحك يشعرك بالحقيقة الغائمة التي غُيبت عنك.
فقلت: تقصدين ان أحكّم عقلي بالمرئيات من حولي وأرى أسبابها ومسبباتها، وأعطل حواسي جميعها واترك قلبي يسرح ثم ينضح بما فيه لتتحرر روحي من كافة المؤثرات الخارجية.
فقال حيرا: نعم هذا ما أريده، جراح لقد بدأت تسير بالاتجاه الصحيح.
إلا أن جملتها الأخيرة جعلتني استشيط غضباً، لا أعلم.. ربما أنفة الرجل العربي من أن تعلمه المرأة الصواب هو ما دفعني إلى حافة الجنون فصرخت فيها: حيرا لقد تماديت كثيراً، دعيني وشأني وإلا سنصل لنتائج لا تحمد عقباها. جاءت أمي مسرعة إلينا بعد أن سمعت صراخي، فحاولت تهدئتي إلا أنني ازددت هياجاً فخرجت مغضباً وتركتهم ورائي لا ألوي على شيء.

عدت في الصباح لم أتكلم مع حيرا وأمي، بل تكلمت مع أولادي الصغار وأقنعتهم بالخروج معي في نزهة نزور من خلالها منصة الإله صدا، ولكن أمي وحيرا صرختا في وجهي قائلتين: لا يمكن ذلك. قامت حيرا وأخذت الأولاد إلى مصلاها المخصص في زاوية من البيت وبدأت وإياهم تمارس العبادات التي علمها هود لاتباعه، صرخت بها أن أولادها هم أولادي أيضاً، وإذا كان لها الحق في تربيتهم وتوجيههم نحو المعتقد الذي تعتقده، فإن لي الحق أيضاً في ذلك مثلها تماماً، وبعدها لهم الخيار عندما يبلغون سن الرشد ويقررون بأنفسهم ما يريدون اعتقاده، لتأتي أمي وتحسم الجدال بقولها: جراح اترك أولادك لي ولحيرا … يا بني أرجوك دعنا وشأننا.

خروجي من البيت متجهاً للإله صدا

وبما أنني لا أستطيع إغضاب أمي وأخشى من ذلك كثيراً حتى لا أعقّها، فقد خرجت من البيت محذراً (بأنكم لن تروا وجهي بعد اليوم)، فجاء صوت أمي (أن ذلك يريحها) مع دفقة من حنان ممزوجة بصوتها. خرجت من البيت ولم أستقل المركبات الأثيرية بل سرت على قدمي في شوارع عوبار مدينتنا العظيمة، سرت وسرت حتى انتصف النهار فوجدت نفسي قريباً من منصة الإله صدا، وفي الواقع يمكن لأي شخص في مملكتنا أن يتعبد لأي إله في الوقت الذي يشاء والمكان الذي يشاء، إذ يمكنه استحضار مجسم الإله المطلوب بسهولة من خلال زر الكف الأثيري، فيطلب الإله (صدا أو صمودا أو هرا)، بل يمكنه طلبهم جميعاً إذا أراد، فيصلي لهم ويطلب منهم ما يشاء، فهم يقربوننا إلى الله زلفى. ولكن في الحالات الشديدة التي تتطلب تدخلاً جباراً وقوياً من تلك الآلهة، فإنه يتوجب المسير والعناء لمنصة ذلك الإله والطلب منه التدخل المباشر لحل المعضلة، وربما تطلب الأمر المسير لمنصة كل إله من هذه الآلهة الثلاث على حدا.

وصلت وحيداً لمنصة الإله صدا، وكم كنت متمنياً لو كان الأولاد معي إلا أن حيرا رفضت ذلك بمساندة أمي التي لا يمكنني إغضابها، كان منظره مهيباً وجليلاً ذلك الإله العظيم، لا أعلم لماذا أشعر بتعظيمه وتقديسه أكثر من الإلهين الآخرين صمودا وهرا. المنصة كانت عظيمة ترتفع حوالي المئة متر شاقةً عنان السماء، وعلى ظهرها مجسم زجاجي ضخم يظهر بداخله الإله العظيم صدا متحولاً في أشكال هندسية بديعة وأرقام مختلفة، لا أعرف لماذا أرى في هذا الإله أصلاً للإلهين الآخرين، فالتقنيات التي يعبر عنها الإلهان (صمودا وهر) ناتجة عن هذا الإله فهو الأساس في الوصول إليهما.

طلبي المساعدة من الإله صدا 

جثوت على ركبتي وبدأت أصرخ وأقول: يا صدا.. يا إله البناء.. يا إله الأشكال البديعة.. يا إله الأرقام الصعبة التي تسهل لنا كل شيء.. أرجوك ساعدني أدركني يا إلهي العظيم، أدعوك بكل جوارحي وأحاسيسي أن توصل ما أريد لسيدك الأعظم رب الأرباب وإله الآلهة – الله – الذي تعالى في السموات.

رفعت رأسي ناظراً لمجسمه العظيم، فظهرت الألوان والتغيرات سريعة ومتلاحقة لتدل على أنه مهتم بشأني، وبدأت تتغير من حال إلى حال وهكذا.. وما زلت أراقبها فكل شكل كان مختلف عن الآخر والأرقام تتقافز إلى ما لا نهاية، ولكن بعد ساعات وجيزة تراءت لي كافة الأشكال الهندسية البديعة شكلاً واحداً عبارة عن طول وعرض وعمق فقط، والأرقام بدت لي رقماً واحداً يحطمه الصفر في كل مرة، فرأيت أننا جميعاً أرقامٌ في هذه الحياة يحطمها صفر الموت… صفر الفناء.

رجعت للصراخ من جديد والاستغاثة فازداد صدا في تقلباته وكأن هناك من يتحكم بذلك، فلما ازداد صراخي أكثر وأكثر خرج إليّ أحد الكهنة، ويبدو أن صراخي أزعجه، فتقدم نحوي وحاول أن يهدأ من روعي، ثم طلب مني أن أخاطب الإله صدا بالصفير والتصفيق فهما يروقان له، فطفقت أصفر صفيراً حاداً وأصفق بكل ما أوتيت من قوة فصار الكاهن كالمستجير من الرمضاء بالنار.

عظمة الإله صدا بدأت تتلاشى أمامي

لم أشعر بدخول الليل بسبب الأضواء المبهرة المحيطة بالمكان، سقطت نائما تحت منصة الإله صدا، ولم استيقظ حتى ساعات الصباح الأولى، لا أعلم ما الذي دفعني للاستيقاظ من نومي العميق، أهو الهدوء الصباحي، هل اعتدت على النوم في الأجواء الصاخبة، نظرت للأعلى لأرى إلهي، فإذا حركته بسيطة ونمطية وتقتصر على ثلاثة أشكال فقط تتكرر كل ثانية تقريباً وكأنه يأخذ قسطاً من الراحة، وبنفس الوقت يقول: (أيها البشر… صحيح أنني احتاج للراحة ولكنني لست مثلكم فأنا دائماً أعمل)، ولكن نحن البشر نعمل في نومنا أيضاً فقلوبنا تبقى نابضة، لا بد أن الإله الحقيقي يختلف تماماً عما عليه نحن وآلهتنا المحسوسة.

وسرعان ما أدركت أن هذا المشهد يتكرر نفسه في كل مرة خلال مدة زمنية قد تطول أو تقصر، لا بد أن هناك من يتحكم ببرمجته، إن حركته مبرمجة عبر جهاز خاص به، آه تذكرت … نعم فقد تعطل هذا الإله لعدة ساعات في إحدى السنوات السابقة ولم نشعر بذلك لأن برمجته عبر وسائل التواصل ظلت قائمة بالرغم من العطل في المنصة، ليتم إصلاحه من قبل التقنيين، فالبشر هم من أصلحوا إلههم وأعادوه لوضعه السابق، هل البشر هم من يحركون إلههم، أم الإله يجب ان يكون مستغنياً عنهم، فزادت حيرتي من ذلك.

لأول مرة شعرت بضعف هذا الإله وصغاره وذلّه، فالآلهة كما فهمنا كنهها لا تظهر نتائج فعلها مباشرة بل تأخذ فترة زمنية طويلة أو قصيرة لمنحنا النتيجة، فهي دائماً تختبر صبرنا، وعدم تحقق النتيجة يدل على عدم رضاها وبالتالي يتوجب علينا إرضائها وهكذا، آه.. كم عانيت من التفكير بهذه الطريقة، وتذكرت ما حدثني به أستاذ الفلسفة في الجامعة حين قال: إن أي شيء في هذا الكون البديع لا يعدو أن يكون شيئاً ممكن الوجود أو شيئاً واجب الوجود، فالشيء الممكن الوجود هو ذلك الشيء الذي قد يوجد أو لا يوجد إلا أنه ممكن الوجود، أي أنه يتقلب بين الوجود والعدم أو بين الحياة والموت أي أن وجوده يحتم فناءه، والإنسان والحيوان والنبات كلها تفنى وتموت، وحتى الأرض والكواكب تسير نحو الفناء وفقاً لما أثبته العلم أيضاً، أما الشيء الواجب الوجود فهو الشيء الموجود بذاته ولا يحتاج لمن يوجده كما هو الحال في الشيء الممكن الوجود الذي يحتاج لمن يخلقه، فالشيء الواجب الوجود هو من كان وجوده أزلياً سرمدياً أبدياً، فليس قبله شيء وليس بعده شيء، إنه الله … إنه الله عز وجل … ومن غيره يكون.

سار بي المركب نحو جزيرة مجهولة.. 

نهضت وسرت في شوارع عوبار مجدداً، كانت المدينة ما تزال مشغولة بالمصورات والمخطوطات اللازمة لإنشاء جنة الملك شدّاد، ركبت مركبتي الأثيرية وتوجهت نحو الشاطئ البحري الجنوبي، وصلت للشاطئ سرت بمحاذاته نظرت لأمواجه المتلاطمة، سرت نحو الميناء وركبت سفينة صغيرة وتركتها تندفع بطاقة الأثير في عرض البحر.

سارت السفينة وسط المياه الزرقاء، وكلما ابتعدت قليلاً يخاطبني جهاز الإنذار الخاص بتحديد خط سيرها في المياه بقوله: (إننا في بحر العرب الجنوبي، ما الوجهة التي تريدها سيدي) ولا أجيب، وهكذا حتى صار الجهاز يناديني (لقد دخلنا في محيط الهند ولا يمكن لي أن أعبر الحدود البحرية نحو الأقوام الأخرى)، فلم أجب، ولما يئس الجهاز مني خاطبني (لا يمكن لي أن أخرج خارج الحدود سأجول بك في أعالي البحار دون دخول حدود الأقوام الأخرى حتى تقرر ما تريد)، بعد ذلك نظرت للخرائط فرأيت جزيرة في عمق المحيط الهندي، فاستعلمت عنها بواسطة الجهاز الأثيري فتبين لي أنها جزيرة بكر لم تطؤها قدم إنسان، وهي إحدى الجزر التي قامت هيئة حماية الحياة البحرية في مملكتنا بحمايتها وعدم السماح للبشر بالتجول فيها، وذلك أيام ما كانت مملكتنا تحكم العالم بأسره، ولكن بعد الحروب الطاحنة وتحديد حدودنا داخل العالم الذي عادانا بل نحن من عاداه، فقد أُهملت من قبل هيئة الحماية البحرية، ولم تستطع الشعوب الأخرى الوصول إليها لصعوبة ذلك، فظلت محافظة على وضعها الطبيعي، فهي جزيرة بكر لم تلوثها قدم الإنسان.

سرت بمركبي نحوها فتبين لي عدم إمكانية وصول المركب إليها بشكل مباشر، بل يصل لمسافة قريبة منها مما يتطلب منّي السباحة عدة ساعات للوصول للشاطئ، فحددت للمركب أقرب نقطة وصول نحوها، فانطلق مسرعاً ليصل في دقائق ويتوقف ويطلب منّي العودة، فقمت بتعطيل جهاز التحكم الأثيري وانتقلت بالمركب عبر التجديف نحو شاطئ الجزيرة، غير آبه بما يصدر عن مركبي من إنذارات للمركز الرئيسي حول تعطله وانتقاله خارج الحدود المقررة له. وصلت للشاطئ فنزلت من المركب واسترحت قليلاً على الشاطئ تاركاً المركب يسير لوحده حول الجزيرة منقاداً لحركة الأمواج المتلاطمة، لا أعرف هل سيبقى هذا المركب تائهاً أم يستطيع الرسو لوحده، فقد كرهت هذه الأجهزة الذكية التي سلبتنا كل شيء بما في ذلك تفكيرنا في معالجة المشاكل.

سرت إلى وسط الجزيرة نحو المرتفعات والهضاب، فرأيت نباتاتها وأشجارها وثمارها، كان هناك الأعشاب والحشائش والورود التي نمت بشكل طبيعي دون تدخل الإنسان، وكذلك الأشجار المثمرة بكافة أنواعها، وصادفت كافة الحيوانات منها العاشبة كالغزلان والماعز والثيران.. والمفترسة كالذئاب والأسود والفهود..، وشاهدت الطيور بكافة أنواعها كالصقور والنسور والعصافير والحمام….

رحلتي الاستكشافية في الجزيرة

بدأت أستكشف الجزيرة فلم أفقد فيها أي نوع من أنواع النباتات والحيوانات التي عرفتها بل صادفت أنواعاً جديدة لم أشاهدها من قبل، حقاً أنها جزيرة كاملة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، كانت هناك الينابيع العذبة والأنهار الصغيرة والبحيرات الرائعة، وكان مناخها معتدلاً فلا تعاني من البرودة والحرارة الشديدتين، بل تشعر بلسعة البرد خفيفة وبحرارة الجو لطيفة، جمعت القليل من الفواكه كالتفاح والبرتقال والموز، وتناولت شيئاً منها ففاجأني طعمها الطيب الذي كان مختلفاً تماماً عن طعوم الفواكه في مملكتنا، هل عدم تدخل الإنسان بإنتاجها جعلها بهذا الطعم الطيب أم أن الجوع الذي عضني جعل أي طعام أتناوله طيباً …

في الليل احترت أين أنام، فلجأت لكهف في إحدى الهضاب وافترشت التراب ونمت نوماً عميقاً إلا أن صوت بعض الحيوانات المفترسة أرهبني في الليل وجعلني أختبئ بعيداً داخل الكهف، وقد نجوت بأعجوبة من أحد الحيوانات المفترسة الذي كان قريباً جداً مني لدرجة لا يمكن تصورها.

استكشفت الجزيرة وبحثت عن مكان أسكن فيه، فاخترت كهفاً في سفح أحد الجبال يصعب الوصول إليه إلا من طريق واحد يحتاج لجهد وصعوبة بالغة في تسلقه، والوحيد القادر على ذلك كائن يستطيع استخدام يديه وأصابعه بطلاقة، نعم هو وحده من يمكنه ذلك إنه الإنسان.. إنه أنا…، ولأول مرة أشعر بنعمة الأصابع بل بنعمة الإبهام الذي لولا انفصاله عن بقية الأصابع وقدرته على الإطباق عليها لما تمكنا من التحكم بأي شيء.

صعدت إلى الكهف الذي اخترته، نظفته من الداخل، كان عبارة عن تجويف صخري بديع على شكل مربع طوله عشرة أمتار وارتفاعه ثلاثة أمتار، أما فوهته فكانت باتجاه شروق الشمس، مما جعله ينعم بالدفء حتى منتصف النهار، أما فترة ما بعد الظهيرة فإن انعكاسات الشمس على الرمال الشاطئية وسطح المياه المقابل له جعلته مضاءً إضاءة هادئة، إنه مكان جميل ومشرق. والكهف يبلغ ارتفاعه عن سطح الماء حوالي الألف متر، مما جعله مطلاً على البر والبحر بنفس الوقت، كنت أجلس في مقدمته وانظر للأفق فأرى فضاءً واسعاً لا يحدّه شيء، لقد رأيت العالم الحقيقي، نعم العالم الحقيقي لا ذلك العالم الزائف الذي كنت أعيشه هناك في عوبار.

قدرة الإنسان على صنع وابتكار الأشياء

بدأت أنزل من كهفي بشكل يومي، واتخذت لنفسي عصىً طويلة قطعتها من بعض الأشجار، وثبتت في مقدمتها حجرة صوان شطفتها لتصبح حادة كالسكين، وكل ذلك فعلته بيدي وبتلك الأنامل البديعة برئاسة الإبهام، ومرة أخرى أشعر بتلك النعمة التي فضلنا الله عز وجل بها على باقي مخلوقاته، ولكن هذا الإبهام وتلك اليد حتى تشكل الأشياء تحتاج لمن يوجهها ويرسم لها ذلك على شكل مخطط واجب التنفيذ، فما الموجه لها في ذلك؟ …. إنه العقل، فالعقل يفكر واليدان تنفذان، والحقيقة أنني لم أرَ أي كائنٍ آخر قادر على التصنيع والابتكار سوى الإنسان، فهو قادر على صنع الأدوات واستخدامها، فقد راقبت الحيوانات جميعها، فالعاشبة تبحث عن طعامها في حشائش الأرض سائرة على أرجلها الأربعة لتقضم العشب مباشرة بأسنانها، والحيوانات المفترسة تهجم على الفرائس وتقتلها وتنهش لحمها بأنيابها دون استخدام أية وسيلة أخرى سوى أعضاء جسمها: الأرجل والفم والأسنان، أما الإنسان فقادر على استخدام أدوات مستقلة عن جسمه تماماً كالحجر والعصا وغيرها، إن سلاح الإنسان مستقل عن باقي أعضاء جسمه.

رحلتي في الطبيعة واستكشاف أسرارها

راقبت الحيوانات على سطح الجزيرة حيواناً تلو الآخر، وراقبت النباتات جميعها، كانت رحلة استكشافية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، عشت وحيداً مع الطبيعة بدون أية مساعدة من أحد، لا من التقنيات الأثيرية التي كنا نعتمد عليها ولا من البشر، والحقيقة أن الحاجة لتقنيات الطاقة الأثيرية كانت لخدمتنا في كل شيء، أما البشر فكانت الحاجة لهم لأجل التواصل والتخاطب وتجاذب أطراف الحديث، فقد كنا نحتاج لبعضنا البعض من أجل العواطف فقط سواء أكانت حب أو كره أو غضب أو  رضا أو حتى لنواسي بعضنا أو نتأسى ببعضنا، أما على سطح هذه الجزيرة فلا تقنيات تساعد ولا بشر يجيبون، والحقيقة أنني كنت بحاجة لتلك العزلة.

أكلت من ثمار الأشجار، واصطدت بعض الحيوانات.. أرنباً.. غزالاً.. وقنصت بعض الطيور كالحمام والدُرّج وغيرها، واصطدت السمك بشباك صنعتها من بعض النباتات، أشعلت النار بوقدها من حجارة الصوان التي قدحتها على بعض الحشائش اليابسة، فأنارت لي الكهف وطهيت بواسطتها طعامي وأرهبت بها حيوانات الجزيرة قاطبةً، بكلتا يدي وبما صنعت من أدوات أصبحت سيد الجزيرة بلا منازع.

نظرت في الليل إلى السماء فرأيت النجوم وراقبت حركاتها وحددت موقع النجم القطبي والمجموعة القطبية ونجم سهيل ونجم الثريا وكوكب الزهرة وغيره من الكواكب والنجوم، وفي الصباح كنت أراقب انبلاج الفجر وإشراقة الشمس وعند المغيب أراقب غروبها، ثم راقبت القمر منذ مرحلته الجنينية حتى صار بدراً ثم تضاؤله حتى اضمحلاله، فرأيت العجب العجاب.

راقبت البحار والأنهار والينابيع وكيف تسير المياه ورأيت الأبخرة المتصاعدة من سطح المياه ورأيت تكثفها ثم تشكل الغيوم لتعود مطراً غزيراً يملأ الوديان والجداول ويعود للبحر، وراقبت نمو النباتات من بذور أو فسائل صغيرة لتكبر وتصبح أشجاراً وشجيرات، نظرت للأزهار كيف تتفتح تم تنعقد لينتج عنها الثمر اللذيذ.

معرفتنا باستخدام الأشياء أكانت بفعل الفطرة أم التجارب السابقة لها؟

لا أعلم أهي الفطرة التي أعطتني المقدرة على التعامل مع الحياة في هذه الجزيرة أم العلم المسبق المختزن لدي، فالعصا الذي أخذته من الأشجار وربطت في مقدمته حجراً مشطوفاً من الصوان كنت على دراية بصناعته بالرغم من أنني لم أصنعه من قبل ولم استعمله أثناء حياتي في مملكة عاد، والنار التي استطعت إشعالها بحك حجرين من الصوان على بعض الأعشاب اليابسة ما هي إلا نتيجة بسيطة لما تعلمته في المدرسة من أن الإنسان القديم وصل لذلك بعد تجارب طويلة وملاحظات متكررة، ولِما رأيته من مسلسلات وأفلام تحكي عن تلك الحقبة، وعرفت مقدرة يديَّ وأصابعي بل حتى أناملي وخاصة الإبهام من خلال دراستي لجسم الإنسان وحركاته، بل كنت أعرف وسائل الصيد بكافة أشكالها مع أنني في موطني مملكة عاد لم أكن بحاجة لهذه الأدوات البسيطة البدائية، فتراكم الخبرة البشرية جعل صنع تلك الأشياء من البديهيات البسيطة التي يمكن لأي شخص من عصرنا أن يفعلها بسهولة بما في ذلك الأطفال.

هل الإنسان تعلم ذاتياً أم أن هناك من علمه؟

ولكن السؤال الذي تبادر لذهني: لو فرضنا إن الذي دبَّ على سطح هذه الجزيرة لم يكن يعرف ما أعرفه من تلك الأمور، هل كان سيهتدي لما فعلت، هل الفطرة ستهديه لذلك أم لا بد من أن يكون لديه علم مسبق بذلك. هنا تصارعت فكرتان في عقلي، هل الإنسان صنع ما صنع عن علم مسبق أم بالتجربة والمراس وملاحظة الأشياء وصل لذلك، هل هناك من علمه كل ذلك أو على الأقل أعطاه المفاتيح اللازمة لذلك، وهل هذه المفاتيح ذاتية خُلقت مع الإنسان أم تم تعليمه من كائنات أخرى، بمعنى آخر هل هناك من علم الإنسان الأول كيفية الصيد وإشعال النار وتهيئة المسكن وحتى ستر العورة وغير ذلك من خلال تطبيق ذلك بشكل عملي أمامه، أم أن الإنسان تعلم ذلك ذاتياً من خلال أعضاءٍ خاصةٍ مخلوقةٍ في جسمه دفعته ذاتياً لمعرفة صنع حاجياته واختراعها.

الكف والعقل أيهما مصدر الابتكار؟ 

هنا توصلت لنتيجة هامة مفادها: أن أهم عضوين في جسمنا هما الدماغ والكف، فنحن نمتلك عضواً في جسمنا نسميه الدماغ وبه امتلكنا العقل والحيوانات الأخرى لديها دماغ لكنها لا تفكر مثلنا، ونمتلك عضواً آخراً مهماً هو الكف وأهم ما فيه الإبهام، فالعقل عضو غير محسوس نمتلكه بعضو محسوس هو الدماغ، والإبهام عضو محسوس نمتلكه ضمن عضوٍ محسوس آخر هو الكف، ولكن العضو غير المحسوس وهو العقل رأيت أنه لا يتعلق فقط بالدماغ بل يشاركه فيه عضوٌ آخر أهم وأقوى هو القلب، فالقلب والدماغ هما من ينتجان العقل.

ولكن هل العقل الذي يرى الأشياء والظواهر من حوله ومن ثم يحللها ويحاول معالجتها لتخدم مصالحه هو الحاكم على باقي أعضاء الجسم بما فيها الإبهام العجيب، نعم هو في الحقيقة من يحكم كل الأعضاء وأين لها المفر من ذلك، ولكن هل الإبهام يخضع له خضوعاً مطلقاً أم أن الإبهام له دور أيضاً في تطوير العقل ونموه من خلال الملامسة للأشياء وتفحصها والقبض عليها وإعادة تشكيلها، هل امتلاكنا لكف فيه خمسة أصابع أحدها منفرد عن البقية (وهو الإبهام) دفع بعقلنا نحو الابتكار لنتجاوز تلك المخلوقات بما فيها الثديات التي تشبهنا في كل شيء عدا الكفين، كل ذلك زاد من حيرتي أكثر وأكثر.

فيديو مقال رواية ((عوبار)) الجزء 9 بقلم زيد العرفج

 

أضف تعليقك هنا