ضمور الهوية والذاكرة الجماعية

الهوية والذاكرة الجماعية

لنصف سنة عملت مع زميل مهاجر لاجئ مغترب، عراقي مثلي لكنه يرفض الكلام معي إلا بالسويدية، مهذب و مواضب وكنت اسعد بالعمل معه ولكني لا أجد ما يجمعنا خارج نطاق العمل! فلا اللغة ولا الآراء ولا الاهتمامات ولا حتى العمر من المشتركات بسننا، حاولت ايجاد شيء يجمعنا فلم أجد شيئاً من الذاكرة الجماعية ما نتشارك به! فقد هاجر من العراق بسن مبكر.

هل الذاكرة الجماعية هي التي تميز هوية كل مجتمع عن الآخر؟

في أحد الايام أخرجت قطع من الكليجة، فسأل: “هل هو العيد؟فقلت: لا لكن ما الذي جعلك تظن ذلك؟ فقال: “لأن الكليجة والعيد لا ينفصلانولأنه كان يتكلم بالسويدية؛ رد أحد الزملاء السويديون: “إذا هناك مشتركات بينكم رغم كل شيء!”

شيء واحد من الذاكرة الجماعية للمجتمع مهما كان بسيطا (مثل الكليجة) يمثل حجر في بناء الذاكرة الجماعية وهوية الفرد. الكليچة جمعتنا كلانا وميزتنا عن  الآخرين. الذاكرة الجماعية أهم سمات المجتمعات التي تميزها كل منها على حدة، وهي جزء من هوية أفرادها. بمعنى أن جزء من هوية الفرد منا هيلا ينفصل عن هوية المجتمع عموماً.

الا ان التغيرات السريعة التي نشهدها على صعيد التواصل والتنقل أدت الى ضمور واضمحلال تلك السمات تدريجيًا. وهذه الآفة التي لا بد منها لن تقتصر على مجتمع دون آخر إلا أنا تتفاوت في سرعة الإصابة والانتشار بحسب طبيعة كل مجتمع.

الذكريات الجماعية والواقع المشترك

يعتمد (الى درجة كبيرة) الواقع المشترك لاي مجتمع على الذكريات الجماعية التي يحتفظ بها أفراد ذلك المجتمع. ولا يخفى عليكم أن الذاكرة ليست بالضرورة حقائق ووقائع تاريخية بمعنى ليست الذاكرة انعكاس طبيعي لمجريات التاريخ! مثال على ذلك لتقريب المعنى، هنامدول قامت على أفكار سياسية ما هي الا مبالغات ومغالطات تأريخية لكن في المحصلة اصبحت ذاكرة جماعية لافراد مجتمع تلك البلدانالوليدة المصطنعة.

وهناك كثير من تلك الامثلة فكثير من الدول تنبش التاريخ لتنقل منه شخوصا او احداث كرموز لذاكرة حديثة قد تجمع شعوبها الحالية.

أسباب فقدان الذاكرة الجماعي

الا أن تلك الذاكرة الجماعية دخلت مرحلة حرجة، بل اصبح  النسيان سمة أساسية من سمات الحداثة، حيث أصبحت المجتمعات تفقدتدريجيا ذاكرتها وعلاقتها بالماضي كنوع من أنواع فقدان الذاكرة الجماعي، مما ينتج عن تدمير الروابط التي تقوم بوصل الإنسان الحاضربماضيه، وبالتالي فصله عن جذوره ، تلك العلاقة التي خلقت وأوجدت الحاضر الذي نعيشه الآن، الحاضر بمعنى الذاكرة المشتركة والتيتشكل ركيزة مهمة في هوية الفرد منا.

وفي اعتقادي السبب الاول والرئيسي في الضمور التدريجي المتواصل للذاكرة الجماعية هو  الكم الهائل والسیل العارم من المعلوماتية لميترك للانسان المعاصر القدرة في الحفاظ على ذاكرة تشكل له هوية تربطه بالمجتمع. المجتمع الذي كان بالامس القريب سمة اساسية لهويةالفرد اندحر في معركة العولمة التي من أهم سماتها مسح ثم مسخ الهوية الفردية الاجتماعية.

اضافة لوسائل الإتصال الحديثة والكم الهائل من المعلومات فهناك امر آخر هو الاخر كذلك سمة اخرى من سمات العولمة وهو  الترحالالمستمر بين مدن العالم المختلفة!فهذا التنقل المستمر (بغض النظر عن طبيعته واسبابه) يجعل الفرد منا فاقدا لبناء ذاكرة مرتبطة بالمكان، وبالتالي لا يتوقف الإنسان في تلكالأماكن لمتابعة الأحداث والتفاعل معها،

وقد لا يتذكر أيا من أسماء من قابلہم أثناء ترحاله وتنقله!ولست أخصائي بعلم التفس لكني اعلم من خبرة متواضعة ان المرء منا عندما يريد أن يتذكر أي شيء فإنه يقوم بزيارة ذهنية إلى الأماكنالتي زارها أو مكث فيها ويقوم بعمل إسقاط صور الأشياء علیہا، وبالتالي فإن السكن الطويل في تلك الأماكن هو احد أهم عناصر حفظالذاكرة الفردية/الجماعية.

والظاهرة تتفاقم خاص كلما كبرت المدن الحديثة، ففي المدن الكبرى يصعب تذكر ما فيها من أماكن لكبر حجمها واتساعها، وما زاد الطين بلة هو النزعة الاستهلاكية التي أرستها الرأسمالية (فاستهلاك من أجل الإنتاج وإنتاج من إجل الاستهلاك)، إلى جانبالمباني والمنشآت التي بنيت لا لتبقى بل لتزول. حتى البضائع فقدت أهميتها الرمزية وأصبحت مواد تستهلك دون ان تترك أثر نفسي علىالمتبضعين وكأنها ورق الحمامات!

حتى حركة السير في الشوارع الحديثة مصممة بالاساس لمرور حركة المركبات السريع وليس للمشاة وهذا شيء اخر سلبي تجاه شعور المرءنحو الاماكن وتذكرها!

واقع حال الإنسان المعاصر

والخلاصة التي أود الوصول لها هي واقع حال الانسان المعاصر عموما والعراقي خصوصا، فبعد ما يقرب من اربعة عقود من الشتاتالعراقي حيث صار المغتربون كل تحت نجمة في فضاء السماء الواسع بل ان هناك من يعيش الغربة وهو لم يبرح مكانه ولم يتخطى الحدود،كل ذلك يؤدي الى ذاكرة فردية بحتة لجيل قادم دون مشتركات جامعة مما يعمق الهوة بين  افراد الجيل القادم وبينهم وبين جيل سبقهم وجيلقادم يلحقهم!

وداعاً لجيل الطيبين كما يحلو لجيلنا تسميته حيث نشترك بذاكرة جمعية بأفراحها وأتراحها، فمن منا لا يعرف رياضة في اسبوع والعلم للجميع وافتح ياسمسم!

لماذا أوشكت الذاكرة الجماعية على الاضمحلال؟

الا ان هذه الفجوة تتعمق وتزداد عمقاً لدى المهاجرين فبالاضافة الا ان الذاكرة الجماعية في اضمحلال فأن المشتركات ما بين جيلين أثنيناشبه ما يكون بين عصرين مما مضى في تاريخ البشرية واقصد بذلك انحسار فرص ان يجتمع هذين الجيلين ( جيل الوافدين الاول وجيلابنائهم)، فلا الجغرافيا بكل تفاصيلها الرمزية، ولا اللغة الام بكل ما تحمل من ثقافة، ولا حتى رؤى المستقبل بما يمثل من مصالح وتطلعاتمن المشتركات! وهذه العوامل الثلاثة (جغرافية، لغة ومستقبل) بضع من امور شتى هي حجر اساس في صنع الذاكرة الجمعية وهوية الفرد. فأذا كان العالم عموما يمضي في طريقه نحو العولمة بخطى متفاوته تفاوت سرعة شبكة الواي في فأن المهاجرين في مزلق حاد.

هذه الخطى التي يسيرها الانسان المعاصر نحو الهوية العالمية دون معالم ثقافية خاصة مميزة هي سيره نحو خلق انسان ذو تسلسل رقمياشبه ما يكون بسلعة يتم تسويقها للشركات الكبرى متعددة الجنسيات التي ترسم معالم المستقبل. مستقبل ذو ذاكرة جمعية واحده هي نوعوكم الاستهلاك المادي والثقافي فحتى الافكار اصبحت سلع تسوق لانسان عصر العولمة، والاصح عصر الرأسمالية حيث الفرد منا مستهلكليس ألا!

فيديو مقال ضمور الهوية والذاكرة الجماعية

أضف تعليقك هنا