الجزء 12 من روايـــــــة // عـــــوبـــــار // تـــألــيـــف: // زيــد العــرفـــج //

ماذا جرى مع الوفد المبعوث إلى بكة لطلب العون من الله؟

خرج الوفد بمركباته الأثيرية نحو بكة وعندما بلغوا الحدود تم تجريدهم من كافة التقنيات الأثيرية فركبوا الخيول واتجهوا نحو الطائف حيث كانت إقامة كبير العماليق وهي القبيلة المسؤولة عن بكة والبيت المعمور، فاستقبلهم كبير العماليق استقبالاً حافلاً، فالقوم هم أخواله، فأمه من قبيلة عاد، فأقام لهم الولائم وقدم لهم المشروبات المختلفة وعلى رأسها الخمر، وكانت عنده مغنيتان تلقبان بالجرادتين أصواتهن من أجمل الأصوات، فجلس القوم عند ابن أختهم في أنعم حال، طعام وسُكر وعربدة ونسوا الأمر الذي جاءوا لأجله، عدا لقمان بن هزّال الذي اعتزلهم، ولم ينكروا عليه عدم مشاركتهم، فهم لم يعتادوا عليه ارتياد ملاهيهم ونواديهم هناك في عوبار.

كانت المملكة بأسرها في انتظار أخبار ما جرى مع الوفد، ولكن هيهات … فالوفد غارقٌ في الطعام والشراب والغناء، ما هذا الوفد… وكيف يفعلون ذلك، وما الغريب في ذلك وهم يمثلون مجتمعنا الذي فعلت فيه تقنيات الأثير فعلها، فكل شيء نرى فيه تحقيق ملذاتنا ينسينا أي أمر من الأمور حتى أمورنا الشخصية.

مر أكثر من شهر على الوفد وهم غارقون في الملذات التي هيأها لهم كبير العمالقة في ضيافته، ولكنه لما رأى الحالة المزرية التي وصل إليها الوفد، إذ لم يحدثوه منذ وصولهم بزيارة البيت العتيق والاستسقاء لقومهم، فأشفق عليهم وعلى القوم من خلفهم واحتار في أمره، وقال لمن حوله: انظروا لحال أخوالي لقد سكروا وذهبت عقولهم ونسوا ما جاءوا لأجله. فقال أحد رجاله: ذكرهم بالمهمة التي جاءوا لأجلها، أو اجعل الرجل الذي اعتزلهم في المجلس يحدثهم بذلك. فقال كبير العمالقة: أتقصد لقمان بن هزّال، لا أظن أنهم يستمعون إليه فهو مبعد تماماً عنهم.. فهم لا يأبهون به وقت صحوهم فكيف بهم وقت سكرهم. فقال أحد الحاضرين: إذاً حدثهم أنت في الأمر بشكل مباشر. فقال كبير العمالقة: كلا لن أحدثهم بشكل مباشر لأني أخشى أن يتهموني بالبخل وعدم الاستمرار في ضيافتهم.

وبعد تفكير عميق، قال: وصلت لخطة، سأنبههم للمهمة التي أوفدوا من أجلها من حيث هم فيه من سكر وعربدة. فأمر الجرادتين أن تغنياهم بأبيات الشعر التالية(1):
ألا يا قيل ويحك قم فهينم …………… لعل الله يسقينا غماما
فيسقي أرضَ عادٍ إن عاداً …………. قد أمسوا لا يبينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو ……… به الشيخ الكبير ولا الغلاما

فانتبه القوم وفروا من سكرتهم، وعزموا الرحيل من منازل كبير العماليق نحو بكة، فسر كثيراً كبير العماليق بنجاح خطته دون أن يُحرج منهم، فطلب منه كبير المستشارين قيّال بن عيّار أن يصحبهم إلى بكة، وأن يُحضر معه بعض رجال قبيلته وعلى رأسهم كبير كهنة العماليق.

وصول الوفد إلى البيت المعمور في بكة 

وصل الوفد إلى بكة وسار نحو البيت المعمور، كان البيت مهيباً جليلاً يسحر الألباب، وقد ظهر على القوم الخشوع والتعظيم للبيت، ولما تجولوا في أنحاءه، سأل قيّال كبير العماليق: أين آلهتكم إنني لا أراها في البيت المعمور، أين هي؟ فقال كبير العماليق: إن البيت المعمور هو بيت عتيق وقد بناه جدنا آدم بعد هبوطه لهذه الأرض، وهو بيت الله، وقد جعلناه لله فقط، ورأينا عدم إشراك آلهتنا في بيته. فقال قيّال: أتعلم لو كان البيت لنا لجعلنا آلهتنا بداخله تعظيماً لها، فهي شريكة لله في كل شيء حتى في بيته. فقال كبير العماليق: اتقِ الله يا قيّال، فالله هو الكبير المتعال، وما نعبد تلك الآلهة إلا لتقربنا إليه زلفى، فالحكم له من قبل ومن بعد. فقال قيّال: لا وقت لدينا لنقاش مثل هذا الأمر، دعنا نبدأ بالصلاة والابتهال.

لِمَ لَمْ يستجب الله لدعاء الوفد المبعوث؟

صلى الوفد ومن معهم صلواتهم الافتتاحية وقدموا الأضاحي اللازمة وتصدقوا على الفقراء القريبين من الحرم، وفي اليوم التالي بدأ يبتهلون ويصلون، فتقدمهم كبير كهنة مملكة عاد: ودعا باسم الله وجميع آلهة العرب، فزجره قيّال بن عيّار، وقال له: ألم أوصك بالصلاة لله وحده. فقال كبير الكهنة: ولكن كيف أتبرأ من آلهتي وأتوجه لله فقط، لكأنك تريدني أن اتبع ديانة هود.
فقال قيّال: أيها الكاهن الأحمق، أصدقت أنني في إصراري على الصلاة لله وحده قد اتبعت هود، أنسيت أنني من رشحك وأوصلك لمنصب كبير الكهنة، نفذ ما أقوله لك وإلا العقاب سينالك وعندئذٍ لن تشفع لك كل الآلهة التي تعبدها. أكملوا صلواتهم ولكن دون جدوى، وأعادوها في اليوم التالي والذي يليه، واستمر الحال أسبوعاً كاملاً ولم يحصل شيء، فطلبوا من لقمان بن هزّال أن يتقدمهم في الصلاة، الذي طلب منهم أن يتطهروا وينقوا قلوبهم عند الدعاء والتضرع إلا أن ذلك لم ينفعهم البتة.

ماذا حدث للسماء عند دعاء وصلاة كبير المستشارين قيّال بن عيار؟

والصلاة كانت عند البيت الحرام تستمر حتى تظهر للمصلين إشارات تدل على القبول أو عدمه، فاستمروا في صلاتهم، وهنا انبرى كبير المستشارين قيّال بن عيّار للأمر برمته، فقد وقع في روعه أن رجلاً واحداً من الموجودين سيستجاب دعاءه، فتقدم القوم على أمل أن يكون هو ذاك الرجل ليصل لأمرٍ يطمح إليه، لربما سيادة العرب بالكامل الذين يعظمون هذا البيت (بيت الله العتيق). فلما تقدم قيّال القوم وبدأ بالدعاء، ظهر في الأفق خليط من السحاب وبدأ يقترب تدريجياً من فضاء بكة حتى أظلّها، فتوزعت السحابات إلى ثلاث سحابات (سحابة بيضاء وأخرى سوداء والثالثة حمراء)، وتجمعت تلك السحابات في الأفق تعلو بعضها بعضاً، فكانت السحابة الحمراء في الأسفل قريبة من الأرض، وتعلوها مباشر السحابة السوداء، ثم تعلو الجميع السحابة البيضاء، وكلما مر الوقت أكثر كانت تلك السحابات تزداد كثافةً فتصبح الحمراء أكثر احمراراً والسوداء أكثر سواداً والبيضاء أكثر بياضاً. ولما بدت السحابات وتجمعت ازداد الجمع المتواجد في البيت المعمور خشوعاً وذلّاً لله، وطفق الجميع يصلي ويبتهل، فقد ظهرت قدرة الله العجيبة التي تفوق كل القدرات، وتضاءلت آلهة الجميع أمام الإله العظيم الواحد الأحد الفرد الصمد، لقد شعر الجميع بالعجز المطلق أمام تلك الآيات.

دلالة السحابة الحمراء والبيضاء والسوداء كما أخبر بها النبي هود 

تقدم لقمان بن هزّال وقال بصوت مرتجف: يا كبير المستشارين لقد ظهرت العلامات التي حدثني بها نبي الله هود، فقد أخبرني أن هناك ثلاث علامات ستظهر لكم حمراء وسوداء وبيضاء، فالحمراء ترمز للدماء التي أراقها قومنا في حروبهم ضد شعوب العالم وهي علامة شؤم ونذير موت محتم، وأن العلامة السوداء ترمز لظلمنا وجبروتنا وطغياننا من خلال تحكمنا بطاقة الأثير واعتبار أنفسنا فوق الجميع وهي علامة هلاك ودليل لدمار حضارتنا، وأما العلامة البيضاء فترمز للتسامح الذي نحمله في قلوبنا نحن العرب اتجاه الآخرين وخاصةً من يتبعون نهج نبي الله هود وهي علامة تفاؤل وحياة وازدهار، وقد حدثني أننا سنخير بين تلك العلامات الثلاث، ولذلك أنصحك أن تختار العلامة البيضاء، وأجزم أن السحابات الثلاث هي نفس العلامات التي ذكرها نبي الله هود، فاختر السحابة البيضاء.

لم نصح لقمان كبير المستشارين باختيار السحابة البيضاء؟

فقال قيّال: لقد ظهرت على حقيقتك يا لقمان، فأنا لم أصدق هود هناك في عوبار، أتريدني أن أصدقه هنا في بكة، ولا تظنّن أني بموافقتي على الصلاة لله وحده قد آمنت برسالة نبيكم الأفّاق هود، لقد صليت لله وحده لقناعتي بوحدانية الله وتفرده بملكوت السموات والأرض. فقال لقمان: بما أنك تؤمن بوحدانية الله لماذا لم تؤمن بما جاء به هود وتنبذ عبادة الأصنام. فقال قيّال: أتريدني أن أتخلى عن مصالحي المتحققة من خلال تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع، فمن خلال تلك الأصنام سيطرت على عاد وعلى الملك المتجبر شدّاد، دعني وشأني وامضِ لشأنك فلا أريد إيذاءك… ابتعد من هنا..

ما السحابة التي اختارها كبير المستشارين قيال بن عيّار للنجاة؟

انتظر الجميع قبول الدعوات بعد ظهور السحابات وأيقنوا أن الله قريب يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ولذلك استمروا في الدعاء والابتهال حتى النحيب، واستمر القوم حتى اليوم التالي في دعواتهم وابتهالاتهم دون كلل أو ملل، وبقيت السحابات الثلاث تظلّهم، وعند الظهيرة سمع القوم صوتاً مدوياً ينادي قائلاً: يا قيّال اختر لنفسك ولقومك إحدى هذه السحابات الثلاث. فنظر قيّال إلى السحابات الثلاث فقال في نفسه: (إن اخترت الحمراء أخشى أن تكون عاصفة غبارية فأكون قد جنيت على قومي، وإن اخترت السوداء فلربما تكون عواصف مطرية مغرقة تؤدي لطوفان عظيم كأيام النبي نوح، وإن اخترت البيضاء أخشى أن تكون ثلوجاً طاغية تدمر مدننا وحضارتنا، ولكن سأختار أهون الشرور. وأهونها الطوفان، فقد أخذنا احتياطاتنا ضد الطوفان منذ أن تسيّدنا العالم بعد طوفان جدنا نوح من خلال تقنيات طاقة الأثير، وهذه التقنية ما نزال نطورها إلى الآن، لذلك فإن السحابة السوداء هي الأنسب لأننا قادرين على مواجهة مخاطرها وبنفس الوقت نحصل على خيرها فهي مليئة بالأمطار الغزيرة كما يبدو لي). فقال قيّال بكل ثقة: لقد اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر ماءً. فناداه المنادي: خذها رماداً رمددا، لا تبقي من عاد أحدا، لا والداً تترك ولا ولدا، إلا جعلته همدا.

اختيار السحابة السوداء كان سبباً في هلاك عاد

بُهت القوم لما سمعوا قول المنادي، ووقفوا مشدوهين كأن الطير على رؤوسهم، ولم ينبههم من ذهولهم إلا انقشاع السحابتين الحمراء والبيضاء ومسيرة السحابة السوداء نحو الجنوب الشرقي تشق عباب السماء، إنها تسير نحو ديار عاد. فر القوم جميعاً من بكة بمن فيهم العماليق وسار كل منهم نحو بلاده، فالإنذار الإلهي صدمهم جميعاً، سارع لقمان بن هزّال بالعودة نحو الحدود بكل ما أوتي من قوة وسرعة وهو يحث مطيته ويجهدها في الوصول الفوري، وما إن وصل إلى هناك حتى اتصل مباشرة بالأستاذ عيّاد وأنذره قائلاً:

أستاذ عيّاد دعونا الله السقاية عند بيته الحرام فظهرت لنا ثلاث سحابات حمراء في الأسفل وسوداء فوقها مباشرةً وبيضاء في الأعلى، وقد خيرنا صوت منبعث من السحابات أن نختار إحداها، فاختار كبير المستشارين قيّال بن عيّار السحابة السوداء باعتبارها الأكثر مطراً، فجاءه الصوت بأن خذها رماداً رمددا لا تبقي من عاد أحدا، لقد وقعت الكارثة يا عيّاد، فإذا أظلتكم سحابة سوداء بعد قليل فلا يظننّ القوم أنها الأمطار أتتهم من جديد، وأن الوفد نجح في الاستسقاء، فهذه السحابة هي الكارثة بعينها.

كان الأستاذ عيّاد في سباق مع الزمن، اتصل بنا -نحن السبعة- وأبلغنا بموافاته فوراً عند المركز الوطني للمعلومات، خرجت مسرعاً نحو المركز، ولكنني فوجئت بوصول السحابة السوداء التي جعلت المحيط مظلماً، كانت لا تزال محركات الطاقة الأثيرية تعمل ولم تتعطل، إلا أن المركبات توقفت تماماً عن العمل، أطلقت ساقاي للريح ووصلت إلى مركز المعلومات الوطني، فوجدت الأستاذ عيّاد هناك وقد سبقني إليه كل من صمّاد ونعمان، وبالطبع طوّاد وعفّان كانا هناك بحكم عملهما، وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى وصل حيران وسجّار يلهثان.

استبشار قوم عاد بالسحابة الآتية على أنها مطر

بدأت العاصفة تشتد، والحقيقة أن أهل عوبار خرجوا في الشوارع استبشاراً بالسحابة، وكلهم يقول: إنه المطر … إنه المطر … وأخيراً رأفت الآلهة بحالنا … إنه المطر، وخرج الملك شدّاد إلى شرفة قصره الملكي وأطل على الجمهور عبر الشاشات التي ما تزال تعمل وبدأ يخطب بهم قائلاً: لقد استجابت الآلهة لنا وأكرمت وفدنا وها هو المطر قد أتى، الشكر للآلهة الثلاث، الشكر لصدا العظيم، والشكر لصمودا القوي، والشكر لهرا المبدع، وشكرنا لها يعني الشكر لله، إن إله هود وحده لا يفعل شيئاً دون مساعديه صدا وصمودا وهرا. وما زال الناس يصيحون مستبشرين: إنه المطر … إنه المطر … إنه المطر. فاشتدت العاصفة قوةً ونادى من خلالها منادٍ: كلا إنه ليس المطر كما تظنون، بل هو العذاب الذي سيسحقكم ويحطم كبريائكم.

العاصفة أخذت تبيد كل شيء في عاد

صاح بنا الأستاذ عيّاد: أسرعوا في الدخول إلى المركز وليأخذ كل واحد منكم الأسطوانة المحددة له من أسطوانات العلوم السبعة ويحفظها بهذه الحقيبة الجلدية التي جهزتها لهذا الغرض، ويخرج مسرعاً نحو حديقة بيت حيران حيث النوق السبعة وليستقل كل منكم الناقة المخصصة للبلد الذي سيقصده ويرحل فوراً.

دخلنا مسرعين إلى المركز، وكان دليلنا نحو الغرفة التي حُفظت فيها اسطوانات العلوم السبعة كل من طوّاد وعفّان، وحين وصلنا إليها وجدناها غرفة دائرية مصنوعة من البلور كأنها جوهرة على شكل ثمرة صنوبر مؤلفة من سبعة أجنحة في كل جناح اسطوانة من اسطوانات العلوم السبعة، فلما حاولنا الدخول إليها ضربت العاصفة المكان بشدة فدمرت كل شيء ولم نعد نرى من الغبار والظلام، فصاح بنا طوّاد وعفّان أن نقتحم المكان ويحمل كلٌّ منّا الاسطوانة التي يصل إليها ويضعها في حقيبته ويخرج.

حصل كل منّا على اسطوانته بشكل عشوائي ولذلك لم يعرف أي واحد منّا ما العلم الذي حمله معه، بسبب تعطل الإشارات التعريفية لكل اسطوانة مما يعني تعطل طاقة الأثير بالكامل، وهذا الأمر لم يحصل لأكثر من ألف عام مضت، فقد اجتهد أجدادنا في الحفاظ على طاقة الأثير وإنتاجها وتحريكها طيلة الأعوام الماضية.

ركضنا في الشارع نحو حديقة بيت حيران، اشتدت العاصفة أكثر وأكثر وبدت كإعصار شديد مدمر، يا إلهي … كانت الرياح المحملة بالرمال تدور على شكل زوبعة كبيرة تصل لعنان السماء، فشعرت أن طاقة الأثير تُسحب من الأرض نحو السماء، المشهد كان مرعباً بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

شعرت بالإعياء وأنا أركض، كانت الريح القوية تحمل الرجل فتدفعه بعيداً ليرتطم بالجدران فيتحطم، وصلنا لحديقة بيت حيران، سفّت الرياح الكثير من الرمال الناتجة عن جفاف السنوات الأخيرة، فكانت تلك الرمال تطمر الرجل حتى جذعه، فتأتي هبة ريح قوية فتقصم الرجل من وسطه أو من عنقه فتتركه كجذع النخل المصروم.

ركضنا نحو النوق السبعة، كانت تقف جافلة وواجفة وتنظر من حولها ببلاهة واستغراب، وبناءً على توصيات الأستاذ عيّاد قام بعض الرجال المقربين من أتباع النبي هود بشدّ الرحال على ظهر تلك النوق، تلك الرحال التي جهزتا حيرا وأمي لكل ناقة بشكل مسبق. كنت أول الواصلين للحديقة فلم أعرف أية ناقة سأركب، فالرجل الذي درب النوق لم يصل بعد إلى الحديقة ليحدد لكل منا ناقته الخاصة بالبلد الذي سيتوجه إليه. وصل عفّان وصمّاد ولم يصل مدرب النوق بعد، ولشدة العاصفة اضطررت لاختيار ناقة من تلك النوق لا على التعيين، وفعل عفّان وصمّاد مثل فعلي.

مُلك الملك شداد يتهاوى أمام عينيه 

امتطيت الناقة ودفعتها نحو الشارع القريب، فركضت مسرعة نحو وجهتها المدربة على ارتيادها خارجة من عوبار، فرأيت في طريقي كيف قصمت العاصفة رقاب الناس، ورأيت بأم عيني التوابيت التي دُفعت إلى المدار الجوي حول الأرض بدلاً من دفنها تحت التراب كيف عادت بها العاصفة نحو الأرض لتحطمها شر تحطيم، ورأيت تابوت ابن الملك شدّاد الذي كثيراً ما شاهدته على شاشات القصر، وقد انحدرت به الريح مسرعة نحو شرفة القصر الملكي حيث ما زال الملك شدّاد واقفاً فيها بعد خطابه غير مصدق ما تراه عيناه، ليصل التابوت قريباً من الشرفة وقبل ارتطامه بالأرض ينفتح على مصراعيه وتخرج منه الجثة لتتحلل خلال أجزاء من الثانية وتتحول إلى رماد أمام ناظريه وتسف في عينيه ذلك الرميم، نعم … لقد تحطم مُلك الملك شدّاد أمام عينيه، حطمته العاصفة التي اعتقد فيها الخلاص.

نجاتي من الهلاك وخروجي من عوبار

رأيت الأهوال في خروجي من عوبار، كانت العاصفة على أشدها، دمرت كل شيء، كانت تحمل الرجل عالياً في السماء ثم تضربه بالأرض فيتحطم تماماً، وكانت تقتلع الأشجار من جذورها والبيوت من أساسها، لم تترك العاصفة شيئاً إلا وأتت عليه … لم أعلم كيف خرجت سالماً من ذلك الدمار، لقد حماني الله سبحانه وتعالى ببركة نبيه هود ودعاء أمي المؤمنة وصلاح زوجتي الطاهرة.

خرجت من عوبار على ظهر ناقة لا أعلم إلى أي جهة ستسير بي ولا الطريق الذي تدربت على سلكه، أحمل في جعبتي اسطوانة أحد العلوم السبعة، ولا أعلم ما هو العلم المخزن بداخلها … فأنا أسير نحو المجهول وأحمل في جعبتي المجهول أيضاً. وصلت بسهولة للمورد الرابع الذي عرفته فوراً دون البحث عن فوهة البئر لأنه كان مكشوفاً، وما جعلني أتأكد أنه موردي الرابع استدلال الناقة عليه بسهولة وملاحظتي للحجارة المبعدة عن فوهته والتي كانت بألوان مختلفة عن حجارة المحيط، فعرفت أن أحد زملائي شاركني في هذا المورد ووصل إليه قبلي، ثم علمت من الناس المحيطين بالمورد والذين دعوني لضيافتهم في البلدة القريبة أن أحد الرجال وصل إليهم على ظهر ناقته وكشف عن هذه البئر.

وصلت للبلدة فاستضافني كبيرهم، فلما سألته عن المنطقة التي تقع فيها بلدتهم، تبيّن لي أنها تقع في أطراف بلاد الشام الجنوبية الشرقية، فتوقعت أن الناقة ستتجه بي إما إلى بيت المقدس أو إلى جلق، فلم يتبقَ سوى تلك الوجهتين من الوجهات السبع. وخلال استضافتي عندهم ظهر لي بوضوح آثار انقطاع منابع الطاقة الأثيرية عن القوم، فهم حُرموا من طاقة الأثير منذ حروب الأساسيين، إلا أنهم كثيراً ما يذكرونها في حديثهم، ويقولون ضاحكين إن أولادهم الذي ولدوا خلال العشرين سنة الأخيرة لا يعرفون شيئاً عنها، بل أحياناً لا يصدقون وجود مثل هكذا طاقة وهكذا تقنيات، فهم يعتبرونها من الأساطير. أكرمني القوم غاية الإكرام، وقد شعرت بالارتياح نحو هؤلاء البشر، فهم وصلوا لمرحلة التوازن الاجتماعي بعد انهيار مجتمعهم على يد الأساسيين وحروب الملك شدّاد معهم، إلا أنني كنت حريصاً جداً على عدم معرفتهم بالسر الذي أحمله.

في وجهتي نحو المورد الخامس

غادرت البلدة بعد أن زودوني بالمؤن وخرجت على ظهر ناقتي وتركتها تسير على هواها في الفلوات القريبة، فاتجهت نحو الشمال الغربي، وهنا بدأ يظهر لي العمران بشكل متواصل، ومع ذلك لم أكن على يقين بالوجهة التي سأصل إليها هل هي بيت المقدس أم جلق، ولكنني كنت على يقين تام أن وصولي للمورد الخامس سيحسم المسألة.

يذكر المؤرخون قصة غناء الجرادتين لوفد عاد وعلى رأسهم الطبري وابن كثير  وابن الجوزي  (1)

فيديو مقال الجزء 12 من روايـــــــة //عـــــوبـــــار// تـــألــيـــف: //زيــد العــرفـــج//

أضف تعليقك هنا